يكثر الحديث الشفوي في المجالس عن حال التعليم القديم ومؤسساته ورموزه في إقليم نجد، ولكن قلما نجد نصاً مكتوباً يروي إحدى تلك التجارب المبكرة في هذا المجال، ومؤخراً عثرت على نص مكتوب يفصل لنا طريقة ومنهج أحد أشهر كتاتيب منطقة سدير وهو كُتَّاب الشيخ أحمد الصانع في المجمعة قبل قرن، وذلك بقلم أحد تلاميذه وهو الشيخ عثمان بن ناصر الصالح، وهو كُتَّاب أرقى من هيئة الكتاتيب الأولى ويمثل تطوراً ملحوظاً، وذلك نظراً لأن صاحبه على درجة من الخبرة العلمية والتربوية، كونها من أسفاره وطلبه العلم في خارج نجد، فلما عاد إلى بلدته المجمعة حاول الخروج على النمط السائد في التعليم آنذاك، ولذا يعد الشيخ أحمد الصانع من الرواد المجددين في تاريخ التعليم النجدي، وتعد مدرسته أكثر تطوراً وتسمو على الكُتَّاب العادي، وإن لم تصل إلى سمة المدارس النظامية الحديثة.
نبذة عن التقرير وتاريخه وصفحاته: هذا تقرير كتبه الشيخ عثمان الناصر الصالح في يوم 25 رمضان عام 1389هـ محلقاً بإجابة مطولة على أسئلة وجهتها وزارة المعارف آنذاك حول التعليم القديم إلى بعض رواد التعليم في كل منطقة تعليمية في المملكة، وكان أحدهم الشيخ عثمان الصالح الذي أجاب عليها إجابة وافية، ثم في آخرها -وبشكل منفصل- كتب هذا التقرير عن مدرسة شيخه الصانع التي كان هو أحد طلابها في الأربعينات الهجرية من القرن الماضي، وقد استهله بقوله: (تقرير عن مدرسة أحمد الصانع نرى أنه أوفي مما كتبنا في هذه الإجابات وهو عبارة عن إجابة الفقرة)، وجاء تقريره في تسع صفحات بخط اليد، وقد وصف فيه الشيخ عثمان حال تلك المدرسة وأساليب شيخها الصانع في التدريس والتربية، وهي تعطي فكرة نموذجية لأحد الكتاتيب المتطورة في نجد قبل التعليم الحديث، من حيث الأساليب التدريسية والتربوية، ومدى مشاركة المدرسة في الشأن الاجتماعي العام، وهذا التقرير مع تلك الأسئلة وأجوبتها محفوظ في مركز الوثائق التابع لوزارة التعليم في الرياض.
من هو الشيخ أحمد الصانع: هو أبوعبدالرحمن الشيخ أحمد بن صالح بن إبراهيم الصانع، وهو من أسرة مشهورة في سدير والزبير، وقد تولى جده الثاني أحمد بن ناصر الصانع إمارة سدير وبيت المال معاً في عهد الإمامين تركي بن عبدالله وابنه فيصل، وقد ولد الشيخ الصانع في مدينة المجمعة عام 1279هـ، ثم انتقل مع أسرته إلى الزبير وهو صغير، وهناك التحق بمدرسة الدويحس الشهيرة، وتخرج فيها، واستمر مكثه في الزبير بعد تخرجه في تلك المدرسة زمناً، ثم عاد إلى المجمعة في أوائل العقد الرابع من القرن الرابع عشر، وأسس مدرسته الخاصة، كما تولى إمامة مسجد حويزة في غرب بلدة المجمعة مدة تزيد عن عشر سنوات، كما كان يخطب الجمعة في الجامع القديم بالمجمعة نيابة عن الشيخ عبدالله العنقري، وقد كان الشيخ الصانع يلبس البياض ويلف العمامة على الشماغ، وقد توفي رحمه الله يوم الجمعة 15ربيع الأول عام 1357هـ في مدينة المجمعة.
مدرسة الصانع: بعد أن عاد الشيخ أحمد الصانع إلى المجمعة من الزبير متسلحاً بالعلم ومبادئ التربية التي أهلته للتدريس في بلدته المجمعة افتتح مدرسته عام 1336هـ، وظل هو القائم عليها بمفرده لمدة عشرين عاماً، وكانت بدايتها في حجرة واحدة صغيرة، ثم اتخذ لها مكاناً أوسع وقريباً من الموضع الأول قرب الجامع القديم وقرب السور القديم من جهة الغرب، وهو بناء مصمم ليكون مدرسة، وتحوي في وسطها فناء تحيط به الأروقة المحمولة على الأعمدة، وفي جهتها الغربية توجد حجرة كبيرة تسمى الخلوة، وتقوم على خمس سواري، ويدرس فيها الطلاب أيام الشتاء، وفي ذلك الفناء مساطب لجلوس الأستاذ وطلابه من حوله، ولهذه المدرسة باب واحد، ودرج يرقى لسطحها، ومستراح الدرج في الأعلى مكان يجتمع فيه كبار الطلبة، ولا تزال المدرسة قائمة، وقد تم ترميمها عام 1425هـ، وتوجد كتابات قديمة على جدرانها من الداخل منها بيت الشعر هذا:
كم يرفع العلم أشخاصاً إلى رتب
ويخفض الجهل أشرافاً بلا أدب
(نص التقرير)
لمدرسة أحمد الصانع في مدينة المجمعة قاعدة إقليم سدير مكانة عظيمة، وقد تخرج فيها مجموعات لهم صدارتهم ومكانتهم في الدولة إبان نشأتها من بين هؤلاء الخريجين:
1 -عبدالله بن عبدالعزيز التويجري رئيس الشعبة السياسية سابقاً وأحد كتاب الملك عبدالعزيز، وإخوانه مثله.
2 -ومنهم الشيخ عثمان الحمد الحقيل من كبار المسؤولين في الرئاسة العامة للقضاء.
3 -ومنهم كاتب هذه الأحرف في مطلع الدراسة ولقد أكملتها في عنيزة.
4 -وكثيرون غيرهم لا أحصرهم فقد يبلغ تعدادهم المئات وعلى رأسهم الشيخ عبدالعزيز بن صالح رئيس المحاكم في المدينة.
5 -والشيخ محمد الخيال قاضي الأحساء والمدينة سابقاً.
6 -والشيخ حمود التويجري قاضي الظهران سابقاً.
7 -والشيخ عبدالرحمن التويجري.
8 -والشيخ محمد التويجري محامي الدولة في وزارة المالية.
9 -والشيخ إبراهيم الحقيل من القضاة.
ولهذه المدرسة نظم واصطلاحات حول تسمية فرق المدرسة أرغب سردها للفائدة والمصلحة وهي كما يلي:
المُغَيِّبَة: وهم الذين كلفوا بحفظ القرآن وهي المرحلة الأخيرة، والمغيبة معناها الذين يستظهرون القرآن وهي جمع مغيب.
التَّجْرِيد: وهم الذين أكملوا قراءة القرآن إمراراً وأعادوه مرة ثانية، والتجريد والمُجَّرِد معناها اللغوي المعروف والتجريد بما معناه تقوية الطالب في الإمرار والمطالعة.
المرحلة الابتدائية: وتنقسم إلى أقسام:
الأول: منهم حديثو السن وحديثو الالتحاق ويسمون (أهل العراب) وهم الذين لم يتجاوزوا مرحلة الهجاء.
الثاني: أهل السَّرْد وهم الذين تجاوزوا مرحلة الهجاء، وابتدأوا في تقبل التلقين في السور الأولى من القرآن، وسبب هذه التسمية لأنهم لم يستطيعوا جمع الحروف، ومن ثم لا قدرة لهم على قراءتها وإنما ينظرون في المصحف ويقرؤونه تلقيناً فكان الطالب يسرد دون تقيد بجمع الحروف والكلمات والسرد لغة عربية فصيحة.
الثالث: هم الذين ابتدأوا يقرؤون ما تحصلوا عليه من معرفة الحروف والكلمات فهؤلاء لهم منتهى وهو آخر الجزء الأخير من القرآن وهو (جزء عم) ولهذا يسمون (أهل الجزء).
الرابع: كل من تجاوز فرقة (أهل الجزء) يسمى (الكَتَّابَة) مشتقة من كتب يكتب فهو كاتب و(كَتَّاب) وربما كان اسم (الكتّاب) مشتق منها والكتاب علم اسم مدارسنا فيما مضى وتسمى الكتاتيب جمع كتاب و(الكَتَّابَة) حسب اصطلاح (الشيخ الصانع) هم الذين يكتبون في الألواح من القرآن كتابة ويقرؤون ما يكتبون وتُمحى في الغد ثم يعاد غيره.
الخامس: (أهل النظر) وهم الذين يبتدئون من الجزء الثالث إلى نهاية القرآن وهذه التسمية (أهل النظر) أطلقت عليهم لأنهم لا يقرؤون غيباً ولا تهجياً، وإنما يقرؤون نظراً، مع أن هناك تسميات اصطلاحية نشأت من أفكار الأستاذ حتى يعرف كل فريق أنهم هم المعنيون بهذا الاسم عندما يدعون إلى الخروج أو الاجتماع أو أي سبب آخر، وهذه الأسماء مثل السُّحنُون والمُعَيْن والمَمْدُودَة والنُّفَيشْ والزُّمَارَا وما إلى ذلك من أسماء فيها ابتكار واختراع مستوحى من البيئة.
الدراسة: والدراسة على أربع فترات فترة من الصباح بدؤها من طلوع الشمس إلى الظهر، وهذا لجميع الطلبة. والفترة الثانية وهي بعد الرجوع من صلاة الظهر، وهي للجميع إلى آذان العصر. والفترة الثالثة من صلاة العصر إلى ما قبيل المغرب، وهي للجميع. أما الفترة الرابعة فهي مخصوصة لأولئك الذين قطعوا أكثر مراحل الدراسة بحيث يكونون في مرحلة التجريد أو الغيب يجتمعون في الفترة الرابعة وهي ما بين المغرب والعشاء ومهمتهم حفظ القرآن والتدارس فيه، وهناك مرحلة خامسة أسبوعية وهي بعد العصر من يوم الخميس، وهي مخصصة لأخذ مبادئ العقيدة والتوحيد والأحكام الفقهية.
وهناك تعليمات تعطى الطالب كيف يحافظ على أوامر المعلم وكيف يكون مجداً على المحافظة على تعاليم دينه، كما أن من بينها إرشاد الطالب إلى حسن الأدب عند الخروج بعد هذه الدراسة في هذه الفترات التي هي دراسة كتاب الله عز وجل وذلك يومياً وأسبوعياً.
أولاً: أن لا يخرج الطلبة حتى تنتهي الفترة المقررة فيؤمرون بالسكوت بكلمة بركة أي كاف أو يكفي، ثم يندد ببعض الطلبة الذين ارتكبوا شيئاً يخل بهم أو بسلوكهم كترك الصلاة مثلاً، أو عقوق الوالدين أو اللعب الملهي أو التشرد عن الحضور وما إلى ذلك، فينوه باسمه أمام جميع الطلبة بعد أن يتكرر منه ذلك ثم يجري عليه التأديب والردع ما يقابل ذنبه ويتكافأ وخطأه، ثم بعد ذلك يؤمر جميع الطلاب أن يختموا المجلس فيقول الأستاذ المدير اختموا المجلس فيصيح الطلبة بقولهم (سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك) فإذا أتموا هذه الكلمات الطيبات جماعياً بصوت واحد أمروا بالخروج بعد أن يقف اثنان على الباب الخارجي، لكي يخرجوا بأدب ودون تدافع لبعضهم البعض.
ثانياً: بطبيعة الحال أن الطلبة متفرقون في أنحاء البلاد لهذا عين المدير هيئة وافية في كل حارة يراقبون الطلبة في المساجد ويسجلون من يصلي ومن لا يصلي وتعرض يوم الخميس وهناك وأمام الطلبة يعاقب المتخلفون عن الصلاة.
ثالثاً: ما يختص بيوم الجمعة فهناك هيئة ليس لها رئيس معين، وإنما الكاتب الذي يحضر مبكراً يكتب كل من حضر في مسجد الجمعة ويسجل من الصباح حتى الآذان الأول، ومن ثم يقفل باب الكتابة فإذا كان يوم الخميس لا يسمح لأحد من التلاميذ بالخروج حتى ولو كان له عذر، إلى أن يبقى نصف ساعة على الظهر، فيؤمر الجميع بالسكوت ثم يقوم رئيس الهيئة ويتلوا أسماء الذين حضروا الجمعة في الوقت المحدد ومن تلي اسمه قام من مكانه فوراً ووجه دعاءً هو جزاك الله خيراً ثم يخرج، وهكذا تتوالى الأسماء ويتبعها الخروج، فإذا انتهت الورقة عرف أن الذين بقوا هم المختلفون عن الجمعة. فيعاقبون وغالباً يكون عقابهم أن يخرج بهم إلى صلاة الظهر ثم يعاد بهم إلى المدرسة ويغلق عليهم الباب ثم يخرج بهم لصلاة العصر ثم يعودون إلى المدرسة ويخرجون قبيل المغرب، ويؤخذ عليهم تعهد بأن لا يعودوا إلى هذا التكاسل في أداء الفروض.
رابعاً: كما أن هناك أشياء أخرى منها: أن الذين يتجاوزون مراحل الدراسة وأتقنوا القرآن حفظاً يطلق على الفرد منهم (خَاتِمْ) والجمع (خَتَّامة) وهذه الشهادة لها قيمتها وأهميتها، والفرقة يطلق عليها (خَتَّامة).
خامساً: هناك أوقات مخصصة للفسح والاستجمام منها ما هو مرهون بالأوقات المناسبة كأوقات الربيع وغيرها يطلب من الطلبة أن يقدم كل فرد اشتراكاً معيناً من النقد أو الغذاء يعينه الأستاذ ثم يخرج بهم يوماً كاملاً للاستجمام ولمعرفة الأعشاب وللتعرف على المعالم والجولان بين الآكام والجبال والرياض ودراسة أسماء النباتات ومعرفة أنواعها، وما إلى ذلك من الترويح عن النفس. ومنها أن الأستاذ يخرج بالطلاب عموماً في يوم معين للاستسقاء بهم ويخطب فيهم بنفسه.
أنواع العقوبات، وأسماؤها كالتالي:
(1) التوبيخ والتخجيل، وذلك للهفوات السهلة لأولئك الذين يكفيهم التوبيخ.
(2) التوقيف، وصفته أن يوقف الطالب ووجهه للجدار وظهره إلى الطلبة وقد يمكث الساعتين والثلاث.
(3) الجلد، وهو معروف ولكن بصورة مخففة.
(4) التَجحِيش أو التَّبغِيل، وهو ما يسمى عرفا بالبُغَيَّلة أو الجُحَيشة وهما اسمان لمسمى واحد وهذا الاسم متعارف عليه في ذلك الوقت وهو أن يؤتى بالتلميذ الذي ارتكب ذنباً أوجب ذلك فيوضع في حبال تسمى (المِجْدَل) حبال مشبوكة بعضها في بعض ثم تربط بأزارير في رجله وفخذيه وفي ظهره ربطاً محكماً، وهناك بكرة توضع في السقف ويؤتى بحبل طويل ويربط بالبكرة ويوصل (بالمِجْدَل) ثم يرفع الطالب بواسطة الحبل حتى يكون بين السقف والأرض في مكان مخصص له ويؤتى بخشبة ملطفة مأخوذ جميع النواتئ فيها، ويجعل لها يد ورأس منفرش كالكف وتسمى المصطعة، ويضرب بها الطالب مع باطن الرجل وقد تغلف هذه الآلة التي يضرب بها بغطاء رقيق يكسبها خوفاً وهيبة ولها أسماء وألقاب من أبرزها عَلّيَاء وهذه أي علياء مخصصة للعقوبة القصوى ولعل فيها إشارة لدرة عمر رضي الله عنه.
خامساً: الحبس ولا يتجاوز يوماً.
سادساً: الخروج بالطالب مع الأستاذ إلى بيت الأستاذ المدير وهذه العقوبة موجهة إلى من تكاسل في حفظ القرآن، وتكرر منه ذلك، ولا يسمح له بالخروج إلا إذا حفظ درسه.
سابعاً: عقوبة من تفوه بكلمات نابية في الدين أو غيره، الضرب فإذا تكرر يطرد من المدرسة.
ملاحظة: هناك في هذه المدرسة في مدينة المجمعة ظاهرة لطيفة هي أن المدير في أيام الشتاء يكلف كل طالب بإحضار قليل من الحطب كل صباح من السعف أو الكرب أو الْعَاذِرِ والشيح أو القلندي ويوضع في مكان من الجزء المسقوف من المدرسة فتشب النار للجميع إلا من لم يحضر شيئاً فإنه يضل بعيداً عنها لكن المدير ذكي فأحياناً يعرض عن النار ويبتعد عنها ويوعز إلى من يثق به ليدعو ذلك النائي الذي فر من البرد فيدنيه ثم إذا عاد وإذا بالدرس أوشك على البدء فيسأل من الذي قرب هذا الطالب أو ذاك فيقال فلان ثم يقول له لا تعد لذلك مرة ثانية.
ملحوظة ثانية: أحياناً يقوم الطلبة جميعاً في حالات معينة بالمساعدة الجماعية في حالة العمران والبناء للفقراء والمعوزين والعاجزين ومن سقط بيته أو دخله سيل ليعوِّدهم الأستاذ (الصانع) رحمه الله على الشهامة والرجولة والنخوة والعون.