عرفت جدة مدينةً قديمةً لتبادل العملات سواء المعدنية أو الورقية، لأنها كانت مدينةً تجارية مفتوحة أمام العالم، خصوصاً ميناءها التجاري، وبوابةً لدخول الحجاج إلى مكة المكرمة والمدينة المنورة، فانتشرت مهنة الصرافة بشكل ملفت. وساعد في اتساع هذه المهنة وانتشارها بين الكثير من سكانها؛ انتعاش النشاط التجاري فيها، وتجارة بيع وصناعة المراكب الشراعية الضخمة، ما يعني أهمية أن تكون هناك محلات لاستبدال العملات. ومثل كل المهن، في البدايات، ولعدم وجود تشريعات وتنظيمات لهذه المهنة؛ دخلها الكثيرون ممن لهم تجربة وخبرة في التعامل. وتضم جدة القديمة أو المنطقة التاريخية، حيث كانت نشأة مدينة جدة؛ معظم الأهالي من التجار المعروفين، حيث سكنوا فيها وحولها، وأسسوا كبرى الشركات، وأصبحوا من الشخصيات المعروفة في المجتمع، وكان لهم دور اقتصادي واجتماعي. فأخرجت بيوت جدة القديمة للمجتمع أشخاصاً فاعلين، لهم مساهمات كبيرة، منهم آل نصيف والبترجي وأبوداود وأبوزنادة وأدهم بقشان.. وغيرهم كثيرون لا يتسع المجال لحصرهم، إنما يزيدون عن 500 أسرة، ومثل ذلك ظهرت عوائل صناعية وتجارية، خرج منها تجار العملات والصرافون في ذلك الوقت، ومن أهمهم بيت الحلواني، حيث يرجع تاريخهم في الصرافة والمجال التجاري إلى عام 1952، وهو الراحل محمد منير حلواني صاحب إمبراطورية صناعية متنوعة. وبعد تجربة استمرت عقوداً، ألغت مؤسسة النقد في مارس الماضي من عام 2019 ترخيص (حلواني) لاستكمال الإجراءات والأوراق المتعلقة بالتنظيمات الجديدة. وأيضاً من العوائل التي عرفت بالكفاح في نشاط الصرافة عائلة الكعكي، ومنهم الراحل عبدالعزيز محمد كعكي أحد مؤسسي البنك الأهلي، وهو من أقدم المؤسسين للصرافة في جدة، ويتخذ من البلد مقراً له. لم يكن من السهولة العمل في مهنة الصرافة في العهد الماضي، بل يتطلب هذا العمل الخبرة والدراية بأسعار السوق، وقد سيطرت سبع عوائل في هذا المجال، وهم عائلات: العامودي ويعلا وبامعوضة والكعكي وبافيل، إلى جانب حلواني والسبيعي الذي انتقل من مكة المكرمة إلى جدة لتوسعة أنشطته التجارية، فافتتح أول محل صرافة في جدة، ومع مرور الزمن افتتح بعض الأبناء والأحفاد محلات بأسمائهم في مناطق ومدن أخرى، والبعض تحولت أعمالهم إلى شركات ومؤسسات، ونشير هنا إلى أسماء مؤسسي هذه المصارف: سعيد محمد علي العامودي، عمر علي حسين العامودي، عبدالله عمر سعيد العامودي، محمد حسن يعلا، أبناء محمد منير حلواني، ماجد محمد أحمد بامعوضة، فيصل عبدالعزيز محمد كعكي، وسعيد أحمد سعيد بافيل.
صرافو جدة القدماء هم الذين قادوا إلى تأسيس بنك البلاد، بعد تحالف لجميع الصرافين وتوحيد آرائهم بأن يتحول إلى بنك، ليضاف إلى المؤسسات المالية الكبرى الفاعلة والمؤثرة في السعودية، ولعبت عائلة السبيعي خصوصاً الأخوين محمد وعبدالله دوراً بارزاً في ظهور هذا الكيان المصرفي، وتعد عائلة السبيعي من الأوائل الذين دخلوا قطاع الصرافة وتبديل العملات في جدة، حيث تشير المعلومات التاريخية إلى أن محمد السبيعي انتقل إلى جدة مع أخيه سنة 1939 واستأجر مكتباً في عمارة البلدية في شارع قابل، ومنها انطلقا إلى بقية المدن، يليهم في الترتيب مصرف الحلواني الذي انطلق في هذا المجال سنة 1952. وربما تكون هناك مصارف وأسماء أخرى لكنها لم تستمر أو تبقَ في السوق، وبخاصة أن هذا النشاط لم تكن له تشريعات أو أنظمة تضبطه، فاختفت معظم الأنشطة المصرفية بعد إصدار مؤسسة النقد تعليمات جديدة متعلقة بهذا النشاط، لمواجهة تهريب الأموال وغسلها وتمويل الإرهاب، والتي تطالب المنظمات الدولية بضرورة وضع ضوابط لعملية التحويل.
في السعودية قادت المصارف الصغيرة إلى تأسيس بنوك مثل البنك الأهلي أحد البنوك الكبيرة التي كانت في ذلك العهد القديم ولا تزال، بينما كان أول بنك أجنبي في السعودية هو الشركة الهولندية التجارية التي قادت إلى تشكيل أول بنك بعدما تحولت من الشركة الهولندية التجارية إلى بنك هولندا العام، ثم حملت اسم السعودي الهولندي، ويقترب عمر البنك من بلوغ 100 عام، وكان هذا في جدة، والقصد منه خدمة الحجيج القادمين من الهند وإندونيسيا، حينما كانتا تحت الحكم الهولندي.
المنطقة التاريخية أو جدة القديمة، لم تكن فقط حياً أو حارات يسكن فيها الناس، بل شكلت نسيجاً اجتماعياً مترابطاً، تنوعت فيه الأنشطة التجارية، فمنهم القماش والجزار والحداد والبحار والصياد وتجار في مجالات مختلفة. ولأن جدة كانت بوابة الحرمين في العهد السعودي، فإنها تطورت بشكل ملحوظ ومتسارع، وأضحت مدينة تنافس المدن العالمية سواء بماضيها العريق أو عصرها الذهبي في عهد خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز وولي عهده الأمير محمد بن سلمان، وقفزت المشروعات المنفذة فيها إلى المليارات، حتى أضحت جدة التاريخية قبلة للزوار والسياح لمشاهدة مبانيها القديمة ومعرفة أهلها القدماء الذين سطروا مجداً وحضارة.