مجلة شهرية - العدد (580)  | يناير 2025 م- رجب 1446 هـ

الحرف أقرب ما يكون

فن الخط مجال رحب واسع للإبداع والتشكيل.. فيه الروحانية والقداسة.. والسكون والحركة.. والتوازن والسكينة.. والفكر والذكر.. والجلال والجمال
الخط إحساس وليس مقياساً
 في هذه الأوقات المليئة بالاضطراب التي يمر بها عالمنا العربي والإسلامي، يأتي دور الفن الحقيقي ليقدم الصورة الصحيحة عن روح الإسلام. إن فن الخط العربي -الذي حمل الكلمة الإلهية في شكله وجوهره- قادر على تحقيق المحبة والسكينة والطمأنينة، وبث المعاني الروحانية والإنسانية السامية التي هي غاية كل الفنون المقدسة.
أعتبر تجربتي في فن الخط العربي تجربة فريدة ورائدة في الوقت نفسه. فإلى جانب أنني خطاط موهبةً فأنا أكاديمي متخصص في فن الخط العربي تاريخاً وتقنية ونقداً وبحثاً أكاديمياً جاداً ومتميزاً.
ولدت في عمّان ودرست الخط بداية على نفسي ثم التحقت بدروس الإجازة في إستانبول عند الأستاذ حسن جلبي الخطاط التركي المعروف، فنلت منه الإجازة التقليدية التي ألحقتني فنياً ومعرفياً بسلسلة من أساتذة الخط يعود سندها إلى أكثر من ثمانمئة عام، فكنت أول خطاط ينال هذه الشهادة/الإجازة الموثقة في فن الخط العربي في الأردن.
أتممت دراستي الأكاديمية العليا متخصصاً في فن الخط ونلت درجة الدكتوراه من لندن. أعتبر هذه المحطة الأكاديمية الأكثر أهمية في مسيرتي الفنية. حيث قدمت لي دراستي الأكاديمية الفرصة للتعرف إلى مراحل تطور فنّ الخطّ منذ بداياته على المواد المختلفة، كما أطلعتني على جهود أساتذته وأعمالهم في مختلف المراحل الزمنية، الأمر الذي منحني سَعة وعمقاً في فهم فنّ الخطّ، وأصوله، وأنماطه، وقوانينه، وآفاقه اللامتناهية، فكانت أعمالي خلال تلك الفترة الزمنية تتنقّل ما بين البحث العلمي من ناحية والإنجاز الفني من ناحية أخرى، بحيث صار البحثُ العلميُّ في خدمة العمل الفني بشكلٍ واضح، فيما ساعدت الممارسة الفنية على فهم الكثير من التفاصيل المتعلقة بتطور الكتابة وأساليب الخط وأعمال الخطاطين.
تعتبر أطروحة الدكتوراه عن الخط المُحقق التي صدرت في كتاب باللغة الإنجليزية بعنوان Sacred Script: Muhaqqaq In Islamic Calligraphy من أهم إنجازاتي الأكاديمية والفنية والشخصية. لم تقتصر هذه الدراسة على البحث في موضوع الخط المُحقق تاريخاً ووظيفة وتطوراً فحسب، بل أعادت إحياءه كخط أصيلٍ ناجحٍ تكوينياً وفنياً، وذلك بعد أن هجرته أقلام الخطاطين لأكثر من خمسة قرون. فتحقق لي ذلك بحمد الله وصار للمحقق حضوره الواسع في أعمال الخطاطين المعاصرين، وفي مسابقات فن الخط والفعاليات الفنية والعلمية.
تعتبر لوحة الخط التي ينفذها الخطاط بالحبر على الورق أول ميادين الإبداع الفني، وهذا الميدان له عندي حكاية خاصة ساعدني في تشكيلها التكوين الفكري والثقافي والمعرفي الذي حصلت عليه من والدي رحمه الله الذي كان أول المهتمين بموهبتي الفنية رعاية وتشجيعاً. وهو شاعر مطبوع ومثقف وأديب ومفكر عميق. هيأتني هذه الصلة بوالدي إلى التدقيق في النص الذي أختاره، والدخول في معانيه ونقل ما يمكن نقله من هذه المعاني إلى صور حروفه وتكويناته، فقدمت لوحات الخط عندي توأمة ما بين التكوين الفني والمعنى الذي يحتويه النص، وذلك إمّا من خلال ترتيب كلمات النص وتوزيعها، كما في لوحتي (الشّهادة) بخطّي المُحقّق الجَليّ والخط المربع، ولوحة (يَنقلبون)، ولوحة (عيد)، أو من خلال توظيف التّضادّ في العنصر اللّوني، كما في لوحة (إلى النُّور)، أو من خلال التفاوت في حجم الكتابة، كما في لوحة (فقير).
إضافة إلى هذا البناء التكويني والفني فإن لوحة الخط عندي تميل نحو البساطة، مع التركيز على بُنيَة الحروف ذاتها لإتاحة الفرصة للمشاهد للاستمتاع بصورة الحرف المجردة، والتغلغل في ما تحمله من معاني سامية ودلالات عميقة، ونِسَبٍ جماليّة عالية، كما في الأعمال ذات النصوص القصيرة مثل: (هو)، و(الر حم ن)، و(كهيعص)، و(كُن) التي اعتبرها مدير المتحف البريطاني أيقونة فن الخط العربي المعاصر بما تحمله من مفهوم بدء الخلق مشبهاً إياها بأعمال مايكل أنجلوا في كنيسة سيستينا في روما (صحيفة الغارديان: 2006).
لم يقف اهتمامي عند تقديم تكوينات الخط حبراً على ورق بل امتدت تجربتي إلى تشكيل الخط وبنائه باستخدام مواد أخرى مثل: الحجر والخزف والخشب والمعادن وغيرها. حيث شكّلت الأعمال النّحتية جزءاً واضحاً في مسيرتي الفنية. بدأت تجربتي هذه في العام 1999 حين قدّمت أوّل عمل نحتي ميداني لي بالحَجر والفسيفساء بعنوان (عمّان)، ثم أتبعته بعملٍ حجري ميداني آخر بعنوان (أهلُ العَزم)، وكلا العملين قائمان حالياً في وسط العاصمة الأردنية. لم تقتصر تجربتي النحتية على مادة الحجر فحسب بل تعدته إلى مواد أخرى مثل: البرونز والرخام والفضة نفذت بأحجام متفاوتة، ركزت فيها على إظهار جمالية الكلمة، وما تحمله من عمق في المعنى والدلالة، إلى جانب التنوّع في التصميم مع الحفاظ على متانة بُنية الحروف ونِسَبِها البَصريّة الجميلة.
أعتبر نفسي واحداً من بين كثيرين عشقوا فنّ الخط العربي على مرّ العصور، لا بل وعاشوا له، وأنفقوا الجهدَ والوقتَ والعمرَ في محبّته وخدمته وعمله. فهو يظل فنّ الإسلام الأول المعبّر عن ضمير الأمة العربية الإسلامية وروحِها، الذي تَطوفُ حوله العيون والقلوب والأرواح بكل لهفةٍ وشوق.
«فحسن الخط لا حد له» كما قال الكاتب البارع علي بن خلف قبل حوالي 1000 عام. ففن الخط مجال رحب واسع للإبداع والتشكيل. فيه الروحانية والقداسة، فيه السكون والحركة، فيه التوازن والسكينة، فيه الفكر والذكر، وفيه الجلال والجمال.

ذو صلة