تختزل قصة الخط بالمغرب قروناً من التطور والتفاعل الفني الذي احتضنه الغرب الإسلامي الذي يشمل بلاد المغرب والأندلس. وقد استطاع الخط العربي أن يربط المنطقة بالثقافة العربية الإسلامية منذ فتحها التدريجي ابتداء من سنة 27 هـ/ 647 م إلى حدود سنة 92 هـ/ 711م. وتواصل استعمال الخط العربي على نطاق واسع باعتباره الكتابة الرسمية في مجالات العلوم الدينية والدنيوية والقضاء والإدارة والاقتصاد وغيرها، وحل محل الكتابة اللاتينية التي كانت مستعملة في المستعمرات البيزنطية والإيبيرية في المنطقة، أما الكتابة الأمازيغية فكان قد توقف استخدامها قبل الفتح الإسلامي بمدة.
1 - بدايات
يطلق مصطلح الخط المغربي في الوقت نفسه على مجموع خطوط بلاد المغرب والأندلس، لتميز المنطقة كلها بهوية خطية خاصة. كما يطلق على الخطوط التي انحدرت من الأندلس مع الهجرات المتتالية للأندلسيين فاحتضنها أهل المغرب الأقصى وطوروها على مدى قرون. وتلك التي نشأت بالمغرب الأقصى وحافظ عليها أهله إلى اليوم.
كانت الخطوط العربية الأولى التي دخلت إلى بلاد المغرب هي الخط الكوفي القديم المعروف بخط الجزم أو كوفي المصاحف، والخط اللين الذي كان مستخدماً في الأغراض اليومية، غير أن المنطقة ما فتئت بعد قرنين أو أزيد قليلاً أن أخذت تضفي لمسات محلية على الخط العربي، وحازت مدينة القيروان السبق إلى ذلك عبر إدخال بعض التغييرات الطفيفة على كوفي المصاحف، وانتهى التطور بها إلى ظهور الكوفي القيرواني الفريد الذي يعود إلى الخطاط الشهير علي بن أحمد الوراق (410 هـ)، ثم جاء دور الأندلس فأصبح الخط القرطبي بها يميل نحو التدوير كما لاحظ الرحالة المقدسي (ق 4 هـ)، وتتابع ظهور خطوط محلية أخرى، ثم جاءت مرحلة التأثير الأندلسي في خطوط بلاد المغرب، تلتها مرحلة استقلال المغرب بهويته الخطية التي ميزت خطوط أهله عن خطوط أهل الأندلس.
2 - خصوصيات فنية
لم يقتصر تميز الخطوط المغربية عن المشرقية على الجانب الشكلي، بل هناك تميز آخر على مستوى التقاليد الخطية الآتية:
- تم تنقيط الفاء بنقطة أسفل الحرف، بدل أعلاه، وتنقيط القاف بنقطة أعلى الحرف بدل نقطتين، خلافاً للتنقيط الذي وضعه الخليل بن أحمد الفراهيدي (ت 170هـ) وعمم على جميع الخطوط المشرقية.
- أهمل تنقيط الحروف المجموعة في كلمة (ينفق) إذا وردت في آخر الكلمة، وذلك لعدم إمكانية التباسها بحروف أخرى.
- تبنى الأندلسيون والمغاربة تنقيط أبي الأسود الدؤلي في مصاحفهم الأولى، ثم انتقلوا إلى تنقيط الخليل بن أحمد الفراهيدي فيما يخص نقط الحروف وتشكيلاتها، باستثناء ما سبقت الإشارة إليه، وخالفوه في رسم همزات الوصل والقطع، فكتبت بنقط كبيرة ملونة بلونين مختلفين. ورغم أن الغالب على المصاحف المشرقية استخدام لون واحد للحروف ونقطها وتشكيلاتها، فقد حافظت المصاحف المغربية لمدة طويلة على استخدام الألوان المختلفة للتشكيلات ولهمزتي الوصل والقطع، باعتبارها مضافة إلى الحروف.
- كما اقترحوا ترتيباً آخر للأبجدية العربية، فاختلف بذلك حساب الحروف عندهم.
3 - تنوع الخطوط المغربية
لم يقتصر اجتهاد المغاربة على تطوير نوع وحد من الخط العربي، بل اهتموا بخطوط عديدة فأبدعوا في إضفاء مسحة محلية أنيقة عليها، فكانت النتيجة هذه المجموعة من الخطوط:
أ- الخطوط الكوفية المغربية:
احتفظت آثار الدول المتعاقبة على حكم المغرب منذ عصر الأدارسة إلى العصر العلوي بنماذج كوفية متنوعة، بعضها في غاية البساطة مثل الكوفي الإدريسي الذي نجده بالخصوص في النقود الإدريسية وبعض الشواهد القليلة الأخرى.
ويتميز الخط الكوفي المرابطي برشاقته وجمال حروفه وتنوع أشكالها، وتنفيذها على خلفية زخرفية متميزة. وتعتبر نقوش جامع القرويين بفاس من أجمل نماذج هذا الخط وأغناها، وقد تم الانتهاء من تنفيذها سنة 531 هجرية.
أما الخط الكوفي الموحدي فتعتبر حروفه أكثر قوة وفخامة، ولا يكتب على مهاد زخرفي مثل سابقه، ويكتفى بملء الفراغات بين الحروف بأوراق نباتية كبيرة.
توجد أجمل نماذج الكوفي الموحدي بالخصوص على واجهات ثلاثة أبواب كبرى، وهي: باب أكناو بمراكش، وباب الرواح وباب الأوداية بالرباط، إضافة إلى نماذج متعددة على الآثار الموحدية بالأندلس.
ويحتل الخط الكوفي المريني مكانة متميزة في العمارة المرينية، وتتعدد نماذجه على الزليج والجبس والرخام والخشب، وتتنوع أساليبها تنوعاً ملحوظاً، غير أنها تمتاز جميعاً بالرشاقة والجمال والتداخل مع الزخارف التي نفذت فوقها. وتعتبر آثار مدن فاس ومكناس وسلا نماذج معبرة عن رقي الخطوط الكوفية المرينية وتألقها.
وقد استمر استخدام الخطوط الكوفية في العمارة المغربية أيضاً خلال العصرين السعدي والعلوي بأساليب مختلفة. كما ظل استخدامها على نطاق محدود في الكتب العلمية، أما المصاحف المغربية فقد احتفظت لمدة طويلة بلمسة كوفية، حيث ظلت كتابة عناوين السور بالخط الكوفي المتلاصق عادة متبعة لزمن طويل قبل أن تستبدل بخط الثلث المغربي.
ب- خط الثلث المغربي:
كان معروفاً منذ عصر المرينيين باسم (الخط المشرقي)، لتطويره عن خط الثلث المشرقي، حيث أضفت عليه الأنامل المغربية لمسة محلية غيرت من ملامحه ولطفت من صرامته، فصار أكثر حرية وطواعية في يد الخطاط المغربي الذي أطلق العنان لنفسه في تطويع صور الحروف وأحجامها لتراكيبه المختلفة، على خلاف الثلث المشرقي الذي يخضع لقواعد ومقاييس فنية صارمة.
وقد اكتفى الخطاطون باستعماله لأغراض جمالية فقط في كتابة عناوين الكتب والفصول في المخطوطات وبخاصة النسخ الخزائنية منها، كما استخدم على نطاق واسع في الكتابة على الآثار المغربية.
ج- الخط المبسوط:
يعتبر أشهر الخطوط المغربية على الإطلاق، وقد اشتق من الخط الكوفي القديم وظل يتبع قاعدة الخطوط الموزونة، لذلك تبدو حروفه أكثر استقامة ووضوحاً وامتداداً، ويتميز بعضها بوجود تعريقات رشيقة مديدة أسفل الحروف ذوات الكاسات.
عرف الخط المبسوط تجويداً كبيراً، سواء في الأندلس أو في المغرب، وصار مع الوقت أكثر دقة ورشاقة، ثم تعددت أساليبه مع انتشاره الواسع. ومن الأساليب الأكثر انتشاراً حالياً الأسلوب الذي كتبت به المصاحف المغربية منذ العصر السعدي. وقد انتشر على نطاق واسع بعد أن طبعت به المصاحف في المطبعة الحجرية بفاس منذ أواخر القرن 19م.
د- الخط المجوهر:
أطلق عليه هذا الاسم بسبب استدارة حروفه ودقته المتناهية، وهو خط رشيق مكثف، يشبه خط النسخ المشرقي في صغر حجم حروفه وليونتها ودقتها. وقد اشتق المجوهر من الخط القرطبي الدقيق في حدود القرن السادس الهجري على ما يظهر من خلال النماذج المتوافرة لحد الآن، وطورته أيادي الخطاطين المغاربة حتى استقل عن أي نموذج سابق، ثم صار أكثر انتشاراً لسرعة الكتابة به. وقد استعمل في كتابة الكتب العلمية المختلفة والوثائق الرسمية والخاصة. وتنوعت أساليبه أيضاً، وأجودها المجوهر الفاسي.
وقد ظل هو خط الكتابة المعتاد في المغرب الأقصى خلال القرون المتأخرة، غير أن دخول الكتاب المشرقي المطبوع وبخاصة المدرسي جعل الخطوط اليدوية للمغاربة تبتعد بالتدريج عن خط المجوهر.
هـ- الخط الزمامي أو المسند:
اشتق اسم الزمامي من الزمام وهو التقييد، أما تسمية المسند فأطلقت عليه لوصف ميل حروفه نحو اليمين. ينحدر هذا الخط من المجوهر، وهو خط اعتيادي وليس فنياً. وقد أصبح منذ قرون يستعمل في التقاييد الخاصة، وشاع استعماله أكثر في العصور المتأخرة.
والمسند صعب القراءة مقارنة بباقي الأنواع، لأنه سريع ويستعمل أكثر في الوثائق التي لا يقرؤها في الغالب إلا الموثقون والقضاة المتمرسون بهذا النوع من الكتابة. وأيضاً في التقاييد والكنانيش التي يكتبها بعض العلماء والإداريين لاستعمالاتهم الشخصية.
4 - امتدادات الخط المغربي عبر الخطوط الأفريقية
انتشر الخط العربي ببلاد السودان الغربي عن طريق الاتصال المستمر بينها وبين بلاد الغرب الإسلامي منذ القرن الهجري الثاني، والذي تعزز بالخصوص منذ عصر المرابطين. وقد ساهمت مراكز علمية شهيرة مثل سجلماسة وتوات وتمبكتو وولاتة وشنقيط في عبور الخطوط المغربية إلى تلك الربوع، خصوصاً حينما أصبح أهل هذه البلاد يكتبون بها، إلى جانب اللغة العربية، لغاتهم المحلية الأفريقية كالفلاني والسنغاي والزرما والهاوسا.. وغيرها، فاكتسبت الخطوط السودانية شخصية محلية، وأصبحت تمتاز بتعدد أساليبها، كما تتسم بخصائصها الفنية التي تميزها عن خطوط بلاد المغرب والأندلس، فحروفها بسيطة وغليظة ويابسة، تعكس بساطة وقساوة الحياة في الصحراء الأفريقية. ولكنها تحتفظ مع ذلك ببعض ملامح الخط المبسوط المغربي، وتتشابه مع نماذج فرعية مغربية مثل الخط الدرعي والصحراوي.
خاتمة
ظلت الخطوط المغربية متميزة بخصوصياتها الفنية الجمالية، وهي تقف شاهداً على ظاهرتي الغنى والتنوع في الحضارة الإسلامية، ما أتاح لكل الشعوب الإسلامية التعبير عن نفسها من خلال هوياتها الفنية، وإبراز خصوصياتها الثقافية وتطوير خطوط وأساليب زخرفية خاصة بها.
وإذا كانت الخزانات المغربية والعالمية تزخر برصيد هائل من المخطوطات والوثائق التي تختزن خطوطاً متنوعة تؤرخ لمسيرة الكتابة في المغرب والمنطقة المغاربية كلها؛ فإن نهضة الخطوط المغربية المعاصرة تعطي انطباعاً قوياً بقدرة هذه الخطوط على الاستمرار والتطور في علاقتها بالتيارات الفنية المعاصرة.