مجلة شهرية - العدد (579)  | ديسمبر 2024 م- جمادى الثانية 1446 هـ

كنوز الخط العربي في مصر.. خبيئة الشيخ محمد عبدالرحمن

مازالت المدرسة المصرية في الخط العربي تكشف يوماً بعد يوم عن كنوزها وآثارها الخطية الخالدة، ولعل السبب الرئيس في عدم المعرفة بها، هو كثرتها ووجودها في حوزة الكثير من الأسر التي تحتفظ بذلك التراث، ضمن ما ورثوه عن آبائهم وأجدادهم. وآخر ما كُشف عنه حديثاً مجموعة لوحات وأصول في حوزة الفنانة التشكيلية (ابتسام زكي) حفيدة الشيخ محمد عبدالرحمن، حرم السفير أسامة العشيري رئيس النادي الدبلوماسي المصري، اللذين احتفظا بكنوز الخطوط العربية للشيخ محمد عبدالرحمن طوال 40 سنة كاملة.
والشيخ محمد عبدالرحمن من مواليد 1890م، ببلدة الميمون بمحافظة بني سويف. حفظ القرآن الكريم وجودَّه، والتحق بمدارس المعلمين الأولية والأزهر الشريف. وتلقى تعليم الخط العربي وفنونه على يد الأستاذ محمود عبدالرازق والشيخ عبدالغني عجور، ثم عُين مدرساً للخط العربي بالمعهد الأزهري بالإسكندرية عام 1909م، ثم انتقل للعمل بمصلحة المساحة المصرية عام 1919م، وكانت مصلحة المساحة تختار في صفوفها خيرة الخطاطين المصريين لإعداد الخرائط بما يستلزمه ذلك العمل من دقة فائقة، وكانت أيضاً مسؤولة عن طباعة العملات الورقية والطوابع البريدية والشيكات والمحافظ المالية المختلفة. وعمل أيضاً بجانب عمله الأساسي في مصلحة المساحة مدرساً للخط العربي بمدرسة تحسين الخطوط الملكية وقتها. وكشفت مجموعة الأوراق ضمن خبيئة الشيخ محمد عبدالرحمن أنه كان يعمل أيضاً (خبيراً) للخطوط والمضاهاة والتزوير في المحاكم المصرية، وهو التخصص المهم الذي للأسف اندثر من مصر، وكان يتولاه خريجو مدارس الخطوط العربية الممتازون، لخبرتهم بالتزوير والأحبار وما إلى ذلك من أعمال تتولاها حالياً مصلحة الطب الشرعي. والعاملون بها هم خريجو كليات الطب والصيدلة والعلوم.
للشيخ محمد عبدالرحمن مجموعة خطية اسمها (كراسة الخط الواضح)، ومجموعة أخرى لخط الرقعة، ومن آثاره الفنية كتابة مسجد أحمد طلعت بك بالسبتية بالقاهرة، وأحمد طلعت بك هو صاحب واحدة من أكبر المكتبات التي أهديت لدار الكتب المصرية. خط الشيخ محمد عبدالرحمن مجموعة كبيرة جداً من أغلفة الكتب الأدبية والتاريخية والسياسية، وكانت له بصمة كبيرة جداً في خط الرقعة، بإكسابه طابعاً جمالياً مميزاً. ولعل القطعة الخطية ( الحكمة والإسكندر) وعلى الرغم من كونها سطوراً قليلة إلا أنها تشي باقتدار هذا الرجل وإجادته الفنية. وله قطعتان خطيتان أهداهما للملك فاروق بمناسبة زواجه عام 1938م، كما أنه كتب الباب البحري لسراي الأمير محمد علي. وقد توفي عام 1950م.
المجموعة التي كشفت عنها الفنانة ابتسام زكي تتكون من لوحات يتجاوز عددها عشر لوحات أصلية مزخرفة، ومتقنة. ومن أهمها:
• (لوحة سُنة الرسول صلى الله عليه وسلم)، وهي تضم حديثاً نبوياً شريفاً عن الإمام علي كرم الله وجهه، وهي بخط الثلث على هيئة لوحات بيضاوية بالخط الثلث. ضمت اللوحة 17 تكويناً بخط الشيخ محمد عبدالرحمن، مؤرخة سنة (1357هـ/ 1938م)، وتبدأ بالخط الجلي الديواني بنص (حديث نبوي شريف)، ثم رواية الحديث بالخط الإجازة، ثم نص الحديث في 17 تكويناً بيضاوياً بالخط الثلث. والأركان تضم نص الشهادة، وبعض أسماء الله الحسنى، لكن المميز في تلك الأركان هو استخدام زخرفة نباتية لزهرة (اللوتس) المصرية، التي استخدمها الفراعنة بكثرة. واللوحة مثال واضح على تمكن الشيخ ودقته.
• تكوين بالخط الثلث الجلي، تحيطه آيات قرآنية دائرية التكوين بالخط الثلث العادي، للحديث الشريف: (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق)، والتصميم على هيئة دوائر وزخارف من ابتكار فؤاد وهبة وخطوط الشيخ محمد عبدالرحمن، واللوحة مؤرخة (1359هـ/ 1940م).
• لوحة تضم تكويناً بالخط الثلث الجلي والنسخ: لنص حديث الرسول عليه السلام: (حجوا قبل أن لا تحجوا)، وبقية الحديث بخط النسخ. واللوحة مؤرخة بسنة (1359هـ/ 1940م)، بخط الشيخ محمد عبدالرحمن، والزخارف المؤطرة للوحة مميزة في تصميمها وتوازناتها، سواء الموجودة في الزخارف أو الموجودة في الخلفية.
• حديث نبوي شريف بالخط الثلث على تكوين بيضاوي، لحديث رسول الله عليه السلام: (ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة)، وحديث آخر بالخط النسخ. واللوحة مؤرخة بسنة (1358هـ/ 1939م)، للشيخ محمد عبدالرحمن، بزخارف نباتية مميزة تزين أركان اللوحة، واستخدم أداة ضغط الهواء (Airbrush)، في تلوين خلفيات اللوحة وإعطائها (طلة) لونية مميزة، على الرغم من مرور 80 سنة كاملة. وهناك لوحة أخرى تضم النص نفسه، لكن التكوين الموجود في اللوحة بالخط الثلث فقط دون زخرفة أو تلوين.
• لوحة بالخط الثلث للآية 41 من سورة النور، وبها قوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ)، كتبها الشيخ محمد عبدالرحمن سنة (1360هـ/ 1941م)، واستخدم فيها إطاراً زخرفياً نباتياً يضم طيوراً في وضع التحليق، في شكل يتناسب مع نص الآية الكريمة، وهي من النماذج المميزة في زخرفتها، والمبتكرة في تناولها.
• تكوين بالخط الثلث في نصف دائرة، للآية الكريمة: ( فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)، مؤرخة سنة (1339هـ/ 1920م)، كتبها الشيخ محمد عبدالرحمن، واللوحة بدون زخارف.
• لوحة بالخط الثلث تضم الآية الكريمة: (يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي)، وضمت سطراً بالخط الثلث المرسل، وبقية الآية الكريمة في صورة تكوين مستطيل متداخل، والزخارف الجانبية بسيطة ناحية اليمين والشمال على شكل مزهرية تتدلى منها الزهور.
• لوحة تضم الآية الكريمة (إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا) بالخط الثلث، بتكوين نصف بيضاوي، مبتكر في استخدام حرف الألف المبتدئة المائلة ليتناسب مع التكوين، واللوحة بتوقيع الشيخ محمد عبدالرحمن سنة (1349هـ/ 1930م).
• قطعة خطية بالخط الثلث والنسخ، تضم الآية الكريمة (رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ)، وتضم زخارف نباتية مميزة، واللوحة مؤرخة من الشيخ محمد عبدالرحمن سنة (1358م/ 1939م).
• لوحة بالخط الفارسي لقوله الله تعالى: (وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ)، واللوحة بتوقيع الشيخ محمد عبدالرحمن، ولكن غير مؤرخة.
هذا بجانب مجموعة من اللوحات غير المؤطرة، تعكس القدرات الخطية للشيخ محمد عبدالرحمن. وأهم تلك اللوحات:
1- لوحة أصلية غير مكتملة الزخارف بالخط الثلث الجلي بنص: (رتبة العلم أعلى الرتب)، مزخرفة بزخارف نباتية وملونة تلويناً مبدئياً، والزخارف المؤطرة للوحة في المستطيل الداخلي غير ملونة مضمونها جواش أزرق بإطار بمداد أبيض التوقيع بقلم الفقير إلى الله تعالى محمد عبدالرحمن سنة 1359هـ، من الهجرة النبوية الشريفة. الموافقة لعام 1940م، والتوقيع بمداد أبيض ومحدد بقلم أسود أقل من ربع ملي.
2 - لوحة بالخط الثلث العادي تحمل الآية الكريمة: (لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ)، مؤرخة سنة (1361هـ/ 1942م)، وتحمل توقيع الشيخ محمد عبدالرحمن. وخلفية النص زخارف نباتية مزهرة، مكونة من اللون الرصاصي، والزهور بلون زهري، ويؤطرها إطار نباتي بخلفية حمراء، والإطار الرئيس للوحة مذهب بخلفية زرقاء، واستخدم فيها الورق المقوى، وحالتها جيدة.
إلى جانب مشاريع لوحات غير مكتملة؛ منها لوحة تضم تصميماً غير مكتمل بالخط الفارسي العادي (نستعليق)، لبعض آيات سورة الشمس، بها توقيع الشيخ محمد عبدالرحمن، وغير مؤرخة. ومشروع لوحة أخرى تضم تصميماً بالخط الثلث بها نص الدعاء: (اللهم أعنى بحولك وطولك)، على شكل دائرة، والتصميم غير مؤرخ أو موقع. وتصميم بالخط الفارسي للآية الكريمة: (فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ)، التصميم موقع بمختار (الأستاذ أحمد مختار زوج ابنة الشيخ محمد عبدالرحمن)، وغير مؤرخ.
كما تضم المجموعة لوحات مصورة عن الأصل للشيخ محمد عبدالرحمن، وأيضاً لكبار الخطاطين المعاصرين له في تلك الفترة:
• لوحة بالخط الفارسي تضم الآية الكريمة (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)، وهي اللوحة الواردة في ديوان الخط العربي في مصر ص 289. بخط محمد عبدالرحمن ونقش محمد لطفي، وأصلها حالياً من مقتنيات الأديب محمد المر.
• صورة لوحة مهداة للملك فاروق الأول ملك مصر، وهي مزخرفة في الوسط بالخط الديواني بصيغة (فاروق الأول ملك مصر)، ويحيط بها طبق مزخرف بزخارف إسلامية نباتية. قمة اللوحة البسملة، ثم سورة الملك بخط الثلث، وفي الأركان بقية الآيات بالأسفل حتى قوله تعالى (وَيَنصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا)، وتوقيع الشيخ محمد عبدالرحمن، وتؤطر اللوحة بعض الآيات القرآنية بالخط الفارسي في هيئة دوائر وبحور بخط النسخ قد تكون آيات قرآنية (غير واضحة في الصورة)، اللوحة مؤرخة بعام 1944م.
• صورة فوتوغرافية للوحة تضم أسماء الله الحسنى، أهداها الشيخ محمد عبدالرحمن للملك فاروق، سنة 1944م، وتلقى عليها خطاب شكر من ديوان جلالة الملك.
• صورة لوحة مهداة لمسجد السيدة سكينة بنت الحسين، بالخط الثلث، وأربعة أبيات شعرية بخط النسخ، للشيخ محمد عبدالرحمن. واللوحة غير مؤرخة.
• صورة من أصل لوحة جامعة (بها أكثر من نوع خط)، وهي إهداء من الأستاذ سيد إبراهيم إلى الشيخ محمد عبدالرحمن بصيغة: هدية إلى أخي وصديقي الشيخ محمد عبدالرحمن الخطاط المعروف من المخلص سيد إبراهيم، سنة (1355هـ/ 1937م).
• صورة من أصل لوحة جامعة (بها أكثر من نوع خط)، وهي إهداء من الأستاذ علي مكاوي إلى الشيخ محمد عبدالرحمن، سنة (1346هـ/ 1928م).
• صورة من أصل لوحة (وَمَن يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَّحِيمًا)، خط الأستاذ إبراهيم السيد (1354هـ/ 1935م).
• صورة لقطعة خطية للشيخ محمد عبدالعزيز الرفاعي، بها نص (لا فتى إلا علي لا سيف إلا ذو الفقار)، والقطعة بالخط الثلث والنسخ.
• صورة قطعة بالخط الرقعة للشيخ محمد عبدالرحمن، بها قوله تعالى: (أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا...)، تم إهداء تلك القطعة للملك فاروق بمناسبة زواجه من الملكة فريدة سنة 1938 م. ضمن هدايا مدرسة تحسين الخطوط الملكية.
وضمت المجموعة أيضاً خطاباً يتضمن شعراً للشاعر محمد الأسمر بخط وكتابة الأستاذ محمد عبدالقادر بالخط الديواني والخط النسخ، كتبها إهداءً للشيخ محمد عبدالرحمن سنة 1365هـ/ 1945م. وهو مميز في زخارفه، وقد علا فيه التاج الملكي، بجانب مجموعة من الخطابات من الديوان الملكي وبتوقيع أحمد حسنين باشا رئيس الديوان الملكي وقتها.
***
المجموعة في مجملها تؤكد على الريادة والتنوع في النتاج الخطي الذي شهدته المدرسة المصرية في فن الخط العربي والزخرفة العربية والإسلامية المبتكرة وغير المكررة، كما تفتح المجال لدراسة مجموعة من المزخرفين الذين زخرفوا تلك الأعمال للشيخ محمد عبدالرحمن، وهم: (عبدالمنعم الشاكري، فؤاد وهبة، أحمد لطفي)، وهو أمر نادر أن نجد توقيع المزخرف على الأعمال الخطية خلال تلك الفترة. وتوضح تواريخ الأعمال الخطية فترات الازدهار الفني التي تظهر للفنان، وتطور أعماله الفنية، ورؤيته الفنية النهائية للعمل، خصوصاً وأن العمل في صورته النهائية يكون مسؤوليته، وبناء على خبراته التراكمية التي نالها بالممارسة والعمل.
الشيخ محمد عبدالرحمن واحد من عشرات ولا نبالغ لو تحدثنا عن مئات الخطاطين المصريين الذين شهدت فترة النصف الأول من القرن العشرين ازدهاراً شديداً لأعمالهم ونتاجهم الفني والإنساني، ويحتاج هذا التراث إلى تضافر المؤسسات العاملة في حقل الثقافة والتراث لجمعه وتوثيقه، وقراءته فنياً وتاريخياً.

ذو صلة