يعد الفن التشكيلي الجزائري حلقة من حلقات الفن العالمي، وكان الخط العربي في جميع المراحل التطورية لهذا الفن يروم ويسعى لتشكيل الجمال، حتى انتهى إلى الفنانين المعاصرين في الجزائر فأكسبوه صوراً جديدة لم تكن مألوفة من قبل ونقلوه إلى صور جمالية تشكيلية.
اعتمد الفنان الجزائري على الخط العربي وشكل بذلك مدرسة فنية متميزة وبرز العديد من الفنانين في هذا المجال، ولفهم ما وصل له فن الخط العربي في التشكيل الجزائري لابد لنا من الوقوف أمام أهم المحطات التاريخية التي مر بها:
حركة الخط العربي في الجزائر قبل القرن العشرين:
انتشر الخط العربي في المغرب العربي الكبير ومن ضمنه الجزائر بانتشار الإسلام، خصوصاً وقد كانت حروفهم هي التيفيناغ التي هجر استعمالها بإقبال الناس لتعلم الدين الجديد الذي أتاهم، وبهذا يكون قد سافر الخط مع العرب الفاتحين للجزائر ويشير المؤرخون إلى أن أول نوع خط استقدم للمنطقة هو الخط الكوفي (الكتابة الوافدة هي ما يطلق عليها اسم الكوفي المجرد من النقط والشكل كما كان في المشرق وقتئذ)، كما اشتهرت بعض المدن الجزائرية بالنُّساخ والخطاطين (حتى مثلهم بعض الكتاب بابن مقلة في حسن الخط، ومن أبرز هؤلاء أبو عبدالله بن العطار والشيخ إبراهيم الحركاتي ومحمد الزجاي) وبكير حفيظ خوجة وحسين بن عبدالله الجزائري، الذي أسهم في إدخال الخط المشرقي إلى الجزائر، و(من أهم العائلات الجزائرية التي برزت بهندسة البناء والنقش والخطوط خاصة عائلة ابن صارمشق بمدينة تلمسان، ومنها المعلم محمد بن صارمشق الذي وجدت نقوشه الخطية على عدة آثار عمرانية، وغيره كالأصطا حسين وعلي بن محمد التونسي وأحمد بن عمر التونسي وكذلك إبراهيم الجركلي الذي نقش الآيات المحفورة بجامع كتشاوة، والمعلم اللبلابشي الذي نقش باب جامع علي بتشين)، ومن هنا فإن الخط العربي بالجزائر في تواصل مستمر مع الماضي، فاستجابته لنوازع الخطاطين الإبداعية جعلت منه عنصراً تشكيلياً مهماً، فحاولوا الاستفادة من قدراته الإبداعية الهائلة على التنويع والتعبير والتشكيل.
الخط العربي بالجزائر خلال الفترة الاستعمارية:
رغم محاولات طمس الهوية العربية الإسلامية من طرف المستعمر الفرنسي إلا أن الجزائر قاومت وبكل والوسائل، ففي بداية القرن العشرين حظيت بخطاطين حافظوا على أحد أهم الموروثات ألا وهو الخط العربي فأتقنوه وتفننوا فيه ومن أبرزهم: الشيخ محمد السفطي الذي كان فناناً متكاملاً فعلاوة على اهتمامه بالخط كان يعمل على تجليد الكتب والنقش على الجلد، ويعد الشيخ من الأشخاص الذين حازوا فضل كتابة المصحف لثلاث دفعات، يتميز الخط العربي عنده كما وصفه الأستاذ محمد شريفي (بالرسو على السطر بوتيرة موحدة تدل على تمكن يده، وصبره الدؤوب على مواصلة الكتابة بنفس مركزة، وبرصانة).
ونذكر أيضاً الخطاط السعدي حكار، درس بجامع الزيتونة وتعلم الخط على يد الأستاذ الخماسي، سجن لمدة خمس سنوات على يد السلطات الفرنسية من 1954م، إلى غاية 1959م، وخط مجموعة من القصائد والأدعية عام 1960م، كما قام بتدريس الخط العربي بالمدرسة الوطنية للفنون الجميلة، توفي سنة 1963م.
كما لا يجوز عدم ذكر فضل عائلة راسم لما لها من فضل ودور في إثراء فن الخط العربي والفن الجزائري على العموم، عرفت هذه العائلة بالخط والزخرفة، وقد أنشأ أبناؤها (علي وأخوه عبدالرحمن ومحمد) مرسماً أصبح منتدى لكبار العلماء والمفتين، ومن أكثر المؤثرين في الفن الجزائري هو الحفيد عمر راسم ابن علي، ارتبط اسمه بعدة مجلات، فهو خطاط كبير اشتهر بخطه العربي الجميل ومقدرته على رسم المنمنمات، ومهتم بالإصلاح الديني والاجتماعي والصحافة فهو من أنشأ جريدة (الجزائر) 1908م، ثم أصدر جريدة (ذو الفقار) 1913م، وفي هذا العام سجن وحكم عليه بالنفي وخرج من السجن بعد سبع سنوات، وكان الفنان عمر راسم بارعاً في فنّه الذي تعلّمه بفطرته على يد والده وعمّه، وكان أستاذاً في الرسم ولقبته مجلة المباحث التونسية بشيخ الفنانين حيناً، وبكبيرهم أحياناً.
كما شهدت الجزائر وفي أشد أزماتها الاعتناء بالفنانين وأكبر مثال هو اعتناء الثورة التحريرية بالفنان فارس بوخاتم الذي كان يعمل ضمن جيش التحرير الوطني، وكان خطاطاً وراسم المطبوعات والمناشير الخاصة بالثورة الجزائرية، وبعد الاستقلال درس بالمدرسة الوطنية للفنون الجميلة عام 1963.
الخط العربي فجر الاستقلال إلى يومنا هذا
شهدت الحركة التشكيلية في هذه الفترة عودة الفنانين من المهجر، حيث بدأت مجموعات من الفنانين تتخرج من مختلف أكاديميات العالم ومن أبرز الخريجين الفنان الخطاط عبدالحميد إسكندر من مدرسة تحسين الخطوط من القاهرة، والخطاط محمد سعيد شريفي من مدرسة تحسين الخطوط بالقاهرة ممن لهم شرف كتابة المصحف الشريف، وهو يرى أن الحروف العربية كتابة أو خطاً اكتسبت حظاً لا يطال من الإبداع الفني، ومحاولة تجريدها انتقاص لهذا الإبداع فهو من رواد الفن الكلاسيكي. كما شهدت الساحة الفنية في هذه الفترة الخروج عن النمط الكلاسيكي فتحول بعض الفنانين إلى الحروفية أي الظاهرة الإبداعية التي استخدم فيها الخط العربي كمفردة تشكيلية وقد استطاعت الحروفية قراءة معالم الاتجاه الفني الجديد بتحدياته الجديدة، فبدأ التدقيق والبحث عند بعض الفنانين والدراسة لتطورات شكل الخط العربي ويصعب تحديد أو تعيين أول رواد الحروفية الحديثة في الجزائر، فمن المعروف أن تراث الحروفية قديم قدم التاريخ، ولكن الحروفية التشكيلية الحديثة بدأت بداية جادة في أواخر الستينات من القرن العشرين، وذلك على أيدي مجموعة من الرواد الذين بدؤوا تجاربهم في ميدان استلهام الحرف العربي كما ذكر سابقاً.
ونذكر من الفنانين المؤثرين دوني مارتيناز من مواليد 30-11-1941م ولد بمرسى الحجاج بوهران، وأثر على العديد من الفنانين الموجودين حالياً بالساحة الفنية، وأحد المؤسسين، مع شكري مسلي، لمجموعة (الوشم) (Aouchem) عام 1967م، وقد جعل من الخط العربي مادة لينة يحولها ويحورها كما يشاء فأبدع في ذلك، حيث قام بتحوير أشكال الخطوط العربية مستعيناً بالخط النسخي وخط الثلث لإنجاز مجموعة من اللوحات التعبيرية يمكن من خلالها رؤية مدى تمكن الفنان من إتقان العمل التعبيري.
و نذكر عميد الحروفية بالجزائر الفنان رشيد قريشي فهو من أشهر الفنانين المعاصرين العالميين من مواليد 1947م، درس بالمدرسة العليا للفنون الجميلة بالجزائر، وتخرج من معهد الفنون الزخرفية ومدرسة الدراسات الحضارية في باريس، ينظر هذا الفنان للعالم بعيون المتصوّفة، ويمارس فنّ الخطّ العربي عنده تعبيراً فلسفيّاً كطرحه لفلسفة ابن عربي وترجمته لأعمال ابن الرومي.
أما من الشباب الصاعدين والنشطين حالياً في الساحة الفنية وممن كان الخط العربي المادة الأولية لأعمالهم فيبرز الفنان حمزة بونوة ممن فهم أن للخط العربي مفهوم العالمية فاتخذ منه رمزاً يميّز فنه ويعرضه على العالم، كما أنّ الخط العربي بالنسبة له انسيابي الحركة ويمكن التعامل معه بطرق مختلفة وعلاقته به دينية صوفية وجمالية حيث يعبر عن فكرة الجمال مع التدين في آن واحد.
ويرى المتتبع للفن التشكيلي المعاصر بالجزائر أن الخط العربي وجد صدى واسعاً في وجدان الفن المحلي، وقد أثبت الفنانون من خلال الخط العربي مقدرتهم على الانتفاع الواعي بتراثنا الفني.