تزخر التنويعات الفكرية والقراءات المنهجية حول فنون الخط العربي وتاريخه العريق بمراحل تجريبية متجددة، تكسب الباحث فسحة مغايرة في مقامات الحرف والإبداع وتمثلاته التشكيلية، وانتشرت فنون الخط في رحاب الوطن العربي لينزل إرثاً متداولاً ومتلقناً من جيل لآخر. يكتسب الخط بدوره ضمانة جمالية متجددة في جواهر تطويع الحرف وتعبيراته الوظيفية وتحولاته التجريدية في تاريخ الممارسات الإبداعية بشمال أفريقيا عامة وتونس خاصة، التطبيقية منها والنظرية. ويتضح مفهوم الأصالة من خلال طرق التفعيل الجمالي والفكري لكل الامتدادات التاريخية لفن الخط وممكناته التطويعية في قواعد وأصول الجماليات المعاصرة. فكيف يرسم المبدع اليوم أسس فنون الخط وريادته التاريخية؟ أي موقع لفن الخط بتونس وكيف يستثمر فن الحرف في الإبداعات التعبيرية الراهنة؟ كيف يطرح الخط كوسيلة ثقافية معاصرة وفق مبدأ الثقافة المشتركة والأستيطيقا الكونية؟
لم تفتر الطاقات الفكرية والنظرية حول فن الخط العربي الإسلامي، وتعددت الدراسات واختلفت ميادين الطرح التاريخي لجذوره ونشأته وسبل انتشاره وتجديد المفاهيم المتولدة من مفرداته وقواعده التكوينية. فماهي أصول الخط العربي في تونس وأي خصوصيات تعبيرية للهوية الإسلامية؟ وكيف استثمر التشكيلي المعاصر آليات البناء التعبيري للحرف وإعلائه كمدرك فني في عالم من الوسائط التقنية والبصرية؟
الخط العربي بتونس بين التأصيل التاريخي والجماليات المعاصرة
ارتبط تاريخ الخط العربي بتدوين النص القرآني ورسمه بإتقان وحرفية شديدة، لما يحمله النص من أبعاد مقدسة وجب التفرد في رسم حروفه وزخارفه المصاحبة. فلم يكتب المسلمون النص بطريقة متداولة واعتيادية بل اعتمدوا قواعد جمالية وتركيبية للخطوط ونسبها الدقيقة في علاقة الحرف بالحرف وحركاته المتعددة فيذكر المقريزي في ذلك قائلاً: (فهي كتب جليلة المقدار معدومة المثيل في سائر الأمصار صحة وحسن خط وتجليد...).
قطعت جهود المماليك المتعاقبة لتعليم الخط واكتسابه كحرفة مميزة في الثقافة الإسلامية، شوطاً كبيراً في انتشار نوعيات مختلفة من الخطوط العربية وتعدد استعمالاتها في النقوش والعمارة وشواهد القبور وغيرها من الممكنات الجمالية للحرف ودلالاته الثابتة التي يسعى الخطاط لتملكها وعدم إهمال قواعدها. وتضمنت مناهج فنون الخط سياقات تدعيم اللغة العربية وانتشارها وتوسع الحضارة الإسلامية في مشارق الأرض وغربها. (فلم تحظ أية أمة بفن الخط كما حظيت الأمة العربية الإسلامية لأنه جزء لا يتجزأ من تراث أمتنا وثقافتنا لذا فهي تفتخر به وتعتز بوجوده فهو أداة اتصال لنقل أفكارها وإضافة إلى أنه مرتبط بلغتنا وتطورها الثقافي من مرحلة الشفاهة إلى مرحلة التدوين والكتابة ثم مرحلة الاتصال مع الآخرين.. وقد جمع الحرف العربي بين النفعية والجمال فكان سبباً في تطوره وازدهاره كما كان للدين أثر واضح في تطوره الشكلي من الكوفي إلى النسخ وما لازم ذلك من تشكيل وتنقيط للحروف وبالتالي أصبح أحد مرتكزات الحضارة العربية الإسلامية كونه يمثل الشكل العام للكتابة). وحصدت تونس بدورها تاريخاً حافلاً من سبل تطويع الخط العربي وازدهاره منذ انتشار الإسلام فيها، وتعددت أنواع الخط بين الكوفي القيرواني والكوفي المتطور والنسخ وغيرها من الفنون الخطية التي وضعت على رأس الاهتمام والرعاية. ومثلت القيروان الحاضنة الأهم لمجموع المصاحف المخطوطة بطرق فنية متميزة بقيت شاهداً على أهمية ودور الخطوط في رسم تاريخ من الازدهار والتوسع الثقافي بالمنطقة. وتمثل نسخة المصحف الأزرق الذي خط بماء الذهب على الرق الأزرق من بين النوادر الخطية التي تضاربت الدراسات المختلفة حول أصول ناسخه وتاريخ تجميعه وتعددت سبل انحسار المراجع المدعمة لمصدره تحديداً.
تحفظ بعض الأوراق من المصحف الأزرق بمكتبة جامع القيروان الكبير والمعروضة بمتحف رقادة للفنون الإسلامية، وتنسب ندرته لنوعية الخط الكوفي البسيط والذي يعود في الأصل إلى الخط المغربي، وللونه الأزرق الفاقع وخلو الأحرف من التنقيط. كما تختلف أنواع الخطوط التي نسخت بها المصاحف بين الكوفي البسيط والكوفي القيرواني مروراً بخط النسخ المشرقي والخط الأندلسي وفق تعاقب المماليك واختلافها على الدولة التونسية ويكتب التاريخ أسماء مشهورة من الخطاطين الذين مثلوا رموز الفن الخطي مثل الحارث بن مروان وعلي بن أحمد الوراق ودرة الكاتبة التي أسهمت بتميز واضح في خط مصحف الحاضنة.
وتنافس الخطاطون بتونس على تجويد فنون الخط وتملكه وحذقه، واتباع جماليات الحرف وانسجامه وفق مبدأ التأثير والتأثر بكل المدارس الفنية للخط العربي المشرقية منها والشامية والمغربية والتركية التي ساهمت وبشدة في إبراز وجه مغاير لمدرسة فنون الخط وانتشار خط النسخ في المصاحف والمخطوطات وغيرها والتي (حملت لواء هذا الفن وبه تلتصق جذور المدرسة التونسية القديمة والمعاصرة.. لقد تنافس الخطاطون والوراقون والنساخ التونسيون في تجويد الخط العربي انطلاقاً من أصوله الأولى باعتماد هندسة (ابن مقلة) في الحفاظ على انسجام الحروف واتباع قواعد الكتابة الفنية).
يتضح جلياً تأثر المدرسة التونسية للفنون الخطية بالعثمانيين وما جلبوه من تقاليد ومناهج تعبيرية وقواعد تكوينية للحرف وامتداده ونوعية الزخارف وأشكالها، في رحاب الدولة المرادية، واستمر (هذا اللون طول القرنين 18 و19 وعلى نفس النسق التركي والخط العربي في تونس لم يبلغ منزلة الفن الرفيع كشأنه عند الأتراك إلا عندما انتهت رئاسة الخط العربي في العصر الحاضر بتونس إلى الأستاذ الفنان والخطاط محمد الصالح الخماسي، صاحب كراريس المنهج الحديث لتعليم الخط العربي، وقد واكبه في هذا الفن نخبة من الخطاطين أمثال توفيق بوغدير، عصمان منصور، فتحي الزليطني، عبدالعزيز الخماسي، المنجي عمار، نجا المهداوي الذي طور الخط وأدخل عليه جمالية الرسم) فكيف تعمر الجهود التحديثية لفن الخط العربي أروقة البحث التشكيلي؟ وإلى أي مدى انبثقت تجليات الحرف ومداخله الجمالية المعاصرة في الناتج التعبيري التونسي؟
الأنساق الحروفية المعاصرة في جماليات التكوين: تجربة نجا المهداوي نموذجاً
تجددت محطات استلهام الحرف وطرق تكويناته التشكيلية في البحوث الفنية بالعالم العربي وبتونس خاصة، فتولدت أسماء مختلفة من الباحثين الذين اتخذوا من الخطوط ملاذاً جمالياً مشبعاً بالحركة والتجديد غير المتعارف عليه. وضمن الفنان التونسي نجا المهداوي مكانة فاعلة في تاريخ الفنون الخطية بالمدرسة التونسية واحتملت أعماله كل مباهج الفسحة البصرية المعلنة والمخفية. فكيف يرسم نجا المهداوي رحلته الحروفية في تكويناته التشكيلية المعاصرة؟ وإلى أي مدى تحولت الحروف العربية في منجزه التشكيلي إلى كائنات مستقلة ذات كينونة وهوية ثابتة في عصر المتغيرات المتجددة؟
(في جهد ريادي متميز سعى نجا المهداوي إلى استخدام الخطوط العربية ضمن نمطية مألوفة حتى إذا ما حاولت أن تتلمس نفسك في غاية من كلمة مقروءة فلن تقع إلا على أشكال لكلمات جردت من خصائصها المعنوية وفرغت من أية دلالة، وليس ما يذكرك بالكتابة غير نسجها الخطي وغنى حركتها وانسيابها بعد أن ألقى بها خلفية لأشكال كبيرة تتقدم اللوحة وتبدو أحياناً وكأنها كتبت بعفوية وأحياناً تبدو مصممة بضرب من ضروب الخطوط الموروثة على مثل ماهي في الكوفي أو الديواني أو الثلث دون أن تحمل بذاتها معنى لكلمة أو لجملة، فهو يسعى كما يقول إلى أن يفرغ الحرف من معناه ويكف عن حمل أي خطاب). انتهج نجا المهداوي طريقاً متفرداً في رحلة البحث عن إثراءات الخط العربي وتشبعه بمعايير الجمال التركيبي والهندسي وارتباطه بإجادة النسب والمعايير الفنية. يتواصل الفنان مع سياسات العلاقات بين الحروف وتحريك ثبات الخط وتملصه من المقروئية المباشرة، ويضرب بمجمع حروفه توليفات بصرية متوهجة ومتكاملة ضمن نسيج تصويري متصوف، ليؤكد قول المستعصمي: (الخط هندسة روحانية بآلة جسمانية) ويؤكده الفارابي (بأن الخط أصيل في الروح وإن ظهر بحواس الجسد).
ازدهرت مزارات النظم الجمالي بتونس، وتعددت الصيغ والخصائص التعبيرية للخط العربي وتحولاته الفنية والهندسية، وامتدت فضاءات إحياء الحرف وتناغماته الخصوصية في أغلب التوجهات المعاصرة للفنون العربية الإسلامية، لتكتب المعادلة التشكيلية المتولدة من عناصر حماية الهوية الجمالية وتجليات الموروثات التقليدية بمناهج استحداثية، ناطقة وراهنة، توشم العلاقات الجدلية بين الحرف واللون. فيقول أدونيس: (الكلمة أنثى حبلى بطاقات البداية.. وهي تضعنا دائماً في أفق ما لا ينتهي وهذا نفسه ما نفترضه حين تتحول إلى خط. ذلك أن الحرف إذ يتحول إلى خط يدخل في لا نهاية المكان ينحني يتماوج يتشابك يتقابل يتدور ينبسط يلبس الحركة في جميع أبعادها ويختزن جميع الإشارات).