مجلة شهرية - العدد (581)  | فبراير 2025 م- شعبان 1446 هـ

المعلوماتية الحيوية

عندما يبدأ الطلاب في دراسة مجال (التكنولوجيا الحيوية) Biotechnology قد يغدو الأمر من حيث استساغة المُصطلحات غاية في الصعوبة. فكيف يستوعبون هذه المُصطلحات العلمية (الجديدة) جُملةً واحدة؟ بل وفهمها، وهضم مضامينها، وتقديمها للمُجتمع بديلاً فعالاً لمفاهيم أخرى أصابها العطب. ولكن رويداً رويداً.. أصبحت مُصطلحات كثيرة معروفة ومُنتشرة ويستخدمها الكثيرون، ومنها (المعلوماتية الحيوية)، وغدا هذا العلم حلم كثير من الطلاب بسبب إمكاناته التطبيقية والمستقبلية الواعدة لمن يحمله. فما هي (المعلوماتية الحيوية)، وما صلتها بالتكنولوجيا الحيوية؟ وما فوائدها الحالية والمستقبلية؟
من المعلوم أن حجم المعلومات البيولوجية يتضاعف بوتيرة متسارعة، لذا كان لزاماً اللجوء إلى التقنيات المعلوماتية التي تتضاعف قوتها كذلك بالوتيرة نفسها تقريباً، فهذا الثراء المعرفي المتنامي في انبثاق المعلوماتية الحيوية تطلب دمج علوم الرياضيات والإحصاء والظواهر الحيّة وعلم الوراثة والأحياء الجزيئي والجينوم البشري مع الحاسوب والتقنيات الرقمية. وذلك لحسن إدارة وتحليل وفهم الكم الهائل من المعلومات الناتجة عن هذه الثورة المعلوماتية، وبخاصة في إطار علم الأحياء الجزيئي والجينوم البشري. ويدين ذلك العلم أيضاً للتطورات التقنية في لغات البرمجة، والتقدم الحاصل في تنسيق عمل الحواسيب، ما يُسمى (تكنولوجيا الحاسوب العنقودي) Cluster Computer، وزيادة قوة التخزين في الأقراص الصلبة والمتحركة، والتقدم في الشبكات، مثل ظهور الإنترنت السريعة، وغيرها.
ويمكن تعريف (المعلوماتية الحيوية)/ (بيوإنفورماتيكس) Bioinformatics، أو (علم الأحياء الحاسوبي) Computational biology بأنه: (استخدام الرياضيات التطبيقية والمعلوماتية وعلوم الحاسب للتعامل مع المعلومات البيولوجية)، أو (استخدام الحاسوب لتخزين/ التعامل/ البحث عن المعلومات الحيوية والجينية والشفرات الوراثية، والبروتينات المُتّصلة بعمل هذه الجينات ووظائفها). وقد ظهر هذا المصطلح في الأدبيات العلمية عام 1991، لكن إرهاصاته الأولى كانت عام 1965 حيث نشر العالم الأمريكي (روبرت ليدلي) (Robert Lidly) مقالاً في مجلة العلم (Science) بعنوان: (أساسيات التفكير في التشخيص الطبي) (Reasoning Foundations of Medical Diagnosis) حيث دعا إلى استعمال التكنولوجيات الرقمية في مجال الطب والأحياء. لكن بداية استخدام المصطلح ترجع إلى عام 1968 مع ظهور كتاب (أطلس البروتينات الأساسية وتراكيبها) لـ(مارغريت دايهوف) (Margaret Oakley Dayhoff) التي تُعد رائدة المعلوماتية الحيوية. فقد تمكنت مع (روبرت ليدلي) عام 1984 من تأسيس قاعدة البيانات (PIR) المُحتوية على جميع سلاسل البروتين المعروفة آنذاك والمدونة في كتاب مارغريت سابق الذكر. ومن هنا تم دمج تطبيقات الرياضيات مع الحوسبة في مجال البيولوجي والكيمياء الحيوية وبناء قواعد بيانات للبروتين والحمض النووي.
الرياضيات.. (شِعر العلوم)
 يختص علم (الرياضيات الحيوية/ البيولوجية) Biomathematics، بتطبيق الرياضيات وتحليلاتها على المنظومات الحيوية (الطب، والزراعة، الأحياء، والبيئة.. إلخ)، وتجاربها المعملية. ويستخدم المختصون في الرياضيات الحيوية المفاهيم والخصائص الرياضية في محاولة وضع إجابات عن أسئلة علم الأحياء. وبالرياضيات يمكن تحديد ضربات القلب والنبضات العصبية وأحوال الطقس ونظم التواصل بين الحيوانات ووسائل التنقل الحديثة والاقتصاد المعرفي واستكشاف الفضاء وانتشار الشائعات.. إلخ.
لذا تثبت الرياضيات (شِعر العلوم) حضورها العام في الحياة، فحياتنا أرقام بادية واضحة، وقد تختفي الرياضيات وراء الظواهر الطبيعية والتكنولوجيات والذكاء الاصطناعي، حيث يمكن مقاربة الأشياء بطريقة رياضياتية، بل إن الرياضيات (علم البرهان العقلي، والتحليل المنطقي، والتفكير المجرد)؛ وجدت من أجل هذا. يقول (جاليليو): (الكون مكتوب بلغة رياضية). ولقد أمّنت الرياضيات للمعلوماتية الحيوية تقدماًُ بمعدلات سريعة، وحققت قفزات تتلاءم مع حجم المعلومات الحيوية المتضاعفة. ويتغلغل علم (الرياضيات الحيوية) في جميع مستويات المنظومات والوظائف الحيوية، بدءاً من ترتيب الجزيئات الكبيرة الحيوية المتمثلة في طي البروتين وخواص تحديد المواقع النشطة في الإنزيمات والمستقبلات، وانتهاء بالغلاف الجوي البيئي بأكمله!
الجينوم البشري..نقلة نوعية في المعلوماتية الحيوية
كانت النقلة النوعية في هذا العلم عند العمل في مشروع الجينوم البشري. ففي عام 1990 قام (المعهد الوطني للصحة الأمريكي) بإطلاق مشروع طموح يتمثل في تشفير جينوم الإنسان. وضعوا لذلك مخططاً لمدة خمسة عشر عاماً وميزانية تقدر بثلاثة بلايين دولار، وشارك في المشروع مئات من العلماء. وبالإضافة للمختبرات الأمريكية شاركت عدة مخابر موزعة على ثماني عشرة دولة. ونظراً لكبر حجم الجينوم البشري حوالي 3,3 بليون (مليارات) زوج قاعدي تؤلف جزيء DNA البشري. وتم تقطيع الحمض النووي إلى أجزاء تحتوي على أجزاء مشتركة، وتم توزيع كل جزء على مختبر ليقوم بتشفيره بشكل مشابه للعبة تركيب الصور المقطعة.
وتمكن العلماء من إكمال المشروع في خمس سنوات فقط، وقاموا عام 2000 بنشر نسخة أولية عن الحمض النووي، ونشر النسخة النهائية عام 2003. وفي بعض الأحيان وجدت تصحيحات طفيفة، وكان آخر تصحيح عام 2009. ويمكن تصفح الجينوم البشري في موقع جامعة كاليفورنيا في (سانتا كروز) (UCSC). واكتشف العلماء أنها البداية، فالطريق مازالت طويلة. فقد ظهرت مفاجآت منها أن واحداً بالمئة فقط من الحمض النووي يقوم بدور في الخلية (الجينات)، أما الباقي فهو نفايات تثير التساؤلات. كما إن عدد الجينات المرمزة للبروتين أقل بكثير مما كان يتوقع، حيث قدرت بنحو 100,000 جين. لكن المفاجأة كانت أن جسم الإنسان يحتوي فقط على ما بين 20,000 - 25,000 جين، وهو عدد أقل بكثير من عدد الجينات الموجودة في بعض الحشرات. مما أثبت أن التعقيد البنيوي للكائنات لا يعكس بالضرورة تعقيداً على مستوى الخلية.
إن نجاح مشروع ترميز الجينوم البشري ساهم في فتح باب أوسع للبحث: (كيف يمكن تفسير هذه السلسلة الطويلة من الرموز وكيف يمكن استخلاص معلومات منها؟). فالحصول على مجموعة من A، C، G، T لا يكفي لاستخراج نتائج بطريقة بدهية. لكن من المؤكد أن نهاية هذا العمل أدت إلى الخروج من (عصر الجينوم)، الذي بدأ مع اكتشاف بنية الحمض النووي على يد (واطسون، وكريك) عام 1953، والدخول إلى (عصر ما بعد الجينوم) (Post-genomic era). فهل كان بالإمكان الانتهاء من هذا المشروع بالعين المجردة، وتخزين بياناته على الأوراق؟ لقد جاء مشروع الجينوم البشرى على رأس تطبيقات المعلوماتية الحيوية، ومنها أيضاً تطبيقات الذكاء الاصطناعي وأبحاث تحويل الجُزيئات الحيوية كالحمض النووي كـ(مخزن للبيانات). ولهذا العلم (نصيب الأسد) في الاستثمارات المُتعلقة بمجال التكنولوجيا الحيوية، خصوصاً في شركات كُبرى مثل (جوجل - Google) و(مايكروسوفت - Microsoft) بسبب ما يوفره من أدوات لها الكثير من التطبيقات، وفي الوقت نفسه لا تحتاج رؤوس أموال ضخمة في بادئ الأمر، وهناك تطبيقات أخرى كثيرة في مجال الطب وتصميم وتصنيع الدواء. والحق، أن أحد أهم التحديات التي تواجه المعلوماتية الحيوية هي كيفية تحويل الملاحظات البيولوجية إلى نموذج يستطيع الحاسوب فهمها.
الجينات.. وبنوكها
في بداية الثورة الجينية، انصب اهتمام المعلوماتية الحيوية على إنشاء قاعدة بيانات لتخزين معلومات البيولوجي، بما في ذلك مقارنة المعلومات وتحليلها. ثم انعكس التطور الكبير في تقنيات التعرّف إلى الخريطة الجينية للكائنات المختلفة، والشفرة الوراثية على نمو المعلوماتية الحيوية وتطورها، ما مكّنها من توفير الأرضية التقنية لمساعدة الاختصاصيين في التعامل مع الكميات الهائلة من البيانات في هذا المجال. وتضمنت (أي الشفرة الوراثية)، والمركبات الخلوية التي تتفاعل معها، وما ينتجه ذلك التفاعل من بروتينات وإنزيمات وغيرهما من المُركّبات المسؤولة عن قراءة الشفرة الوراثية المُرسلة والتعامل مع معطياتها، بما في ذلك نسخ المعلومات التي تحملها. وبذا، استطاع العلماء التعرّف إلى تلك المعلومات التي تُحدّد تركيب الجسم وطبيعة عمله ونسق نموه. وأدّت تلك التطورات إلى نمو نوعي في معلومات البشر عن الظواهر البيولوجية وتراكيبها وآلياتها.
وتحفظ المعلومات في قواعد بيانات بيولوجية يتراوح عددها بين 500 - 1000 قاعدة. ومن أشهر قواعد البيانات: مركز التعاون الدولي لتسلسل النيوكليوتيدات (INSDC)، والأرشيف الأوروبي للنيوكليوتيدات (ENA)، والبنك الياباني لبيانات تسلسل الحمض النووي (DDJB)، وبنك معلومات الجينات الوظيفية (RDP)، وقاعدة بيانات الجينات الأمريكية (Gene bank)، ويختص هذا الأخير بحفظ معلومات شفرة الحمض النووي (DNA). والذي يتألف من سلاسل بروتينية، باعتباره كتاباً فيه 67 مليون ملف من المعلومات المُشفّرة في سلاسل من 71 مليون (حلقة)، تُسمى كل منها (قاعدة مزدوجة). كما توجد قواعد بيانات تحتوى على مئات الآلاف من الجينات من كائنات حية تمت دراستها. وهناك الكثير من الجينومات الكاملة للكائنات النموذجية في علم الأحياء. وهناك قواعد بيانات للبروتينات فقط، وأخرى لـ RNA.. وغيرها تخصص في البكتيريا والفيروسات وأخرى للميكروبات حقيقيات النواة.. إلخ.
ولضمان دقة المعلومات المخزنة في هذه القواعد أسست لجنان مختصة في تنقيح والتدقيق فيها. فمثلاً إذا اكتشف فريق بحث بُنية بروتين غير معروف أو تركيبة حمض نووي لفيروس أو بكتيريا أو أي كائن حي آخر يمكنهم إرسال هذه المعلومة إلى قاعدة البيانات المختصة حيث تجري مراجعتها ومراجعة الطريقة التي أجريت بها التجارب ومن ثم إضافتها.
كيف تصل إلى المعلومات المطلوبة؟
شمل تطور القواعد البيانية ليس فقط مسائل التصميم، وإنما تطوير وصلات وروابط إلكترونية بينها، لتضمن توفير المعلومات بطريقة سهلة وديناميكية، فضلاً عن إمكان إدخال بيانات جديدة وتنقيحها. مع توافر الأداة التي تمكن المستخدم من البحث في قاعدة البيانات المعينة، وجلب المعلومة التي يبحث عنها. وتشمل نشاطات الـ(بيوإنفورماتيكس) الأساسية مستويات عدّة، بداية من العمل النظري وصولاً إلى صنع جداول إحصائية يستطيع الكومبيوتر التعامل معها، ما يُمهد لصنع أدوات التحليل المختلفة.
وظهرت مجموعة من البرامج المهمة في هذا المجال: مثل برنامج SRS الذي يُعتبر من أهم برامج البحث المتخصّصة في هذا المجال. كما يضم الموقع الخاص بـ(المعهد الأوروبي للبيوإنفورماتيكس)، عدداً من البرامج المُشابهة. وتستطيع تلك البرامج إعطاء المعلومة المطلوبة، واستنطاق القاعدة البيانية عبر أسلوب استفسار مُرَكّب. وكذلك ذاعت شهرة بعض محركات البحث المتخصّصة في هذا العلم، مثل Entrez المتوافر على موقع  NCBI الشهير. ويعتمد (إنترز) على البحث النصي، ما يسمح للمستخدم بالبحث في الكثير من قواعد البيانات المهمة، ومن ضمنها الإصدارات العلمية الهائلة والمخزّنة في قاعدة البيانات الطبية المعروفة. (PubMed).
ومن أهم تلك الأدوات وأكثرها استخداماً، برنامج BLAST، ويقوم هذا البرنامج بمقارنة سلاسل القواعد المزدوجة والبروتينات الأساسية، لمعرفة ما يُشابهها في قواعد البيانات. وبهذا يمكن استخدام  هذا البرنامج لاستنتاج العلاقة الوظيفية بين البروتينات الأساسية في الخلية والقواعد المزدوجة للجينات، إضافة إلى التعرف إلى الفئة التي ينتمي إليها الجين. كما يشغل التنبؤ بتركيب (البنية ثلاثية الأبعاد للبروتين) حيزاً كبيراً في علم (بيوإنفورماتيكس). فمنذ أن حُدّدت البنية التركيبية الأولى للبروتين، طوّر العلماء برامج للحاسوب قادرة على رسم ملامح البنية الثلاثية الأبعاد للبروتين. ومن أهم هذه الطرق وأكثرها دقة ما تعرف بالنَمْذجّة التماثلية. وتبني هذه التقنية صورة ثلاثية الأبعاد للبروتين، انطلاقاً من المعطيات الأولية عن تركيبه.
علم الأحياء الجزيئية ومقارنة التشكيلات الوراثية
بسبب الأهمية المتزايدة لعلم الأحياء الجزيئية (molecular biology) فقد تلقى هذا المجال دفعات متنامية عبر دراسة وفهم آليات علم الأنسجة الحيوية، ونظرية علم الإنزيمات، ونمذجة ومحاكاة مرض السرطان، ونمذجة ردود فعل مجموعات الخلايا الحية، والنمذجة الرياضية لإعادة تشكيل الأنسجة المتضررة، والنمذجة الرياضية لعناصر الخلية، والنمذجة الرياضية لدورة الخلية. ويعتبر المجال الأخير (دورة الخلية الحية) دورة معقدة جداً ومن أكثر المواضيع التي تدرس، حيث أن أعطالها تؤدي إلى مرض السرطان.
بينما يُعطي التحليل المقارن للتشكيلات الوراثية Comparative Genomics، نموذجاً من تلك الأدوات التقنية المتقدمة في علم (بيوإنفورماتيكس). ويمكّن هذا التحليل من التعرّف إلى العلاقة بين الكائنات، عبر اكتشاف أماكن التشابه والاختلاف في تراكيبها الجينية. كذلك تساعد على فهم أفضل لعمل جينات الإنسان، وبالتالي صوغ إستراتيجيات أفضل لمكافحة الأمراض. وفي هذا السياق، بيّنت تجربة مثيرة أن التركيب الوراثي للإنسان يتقاطع مع التركيب الجيني في ذبابة الفاكهة، بنسبة 60 %. والأهم أن ثلثي التشابه ظهر في الجينات المُتصلة بالسرطان عند الإنسان. والأكثر غرابة أن ذبابة الفاكهة عانت ما يُشبه أعراض مرض (الشلل الرعاش) (باركنسون) Parkinson’s Disease.
 فوائد المعلوماتية الحيوية
وفرت المعلوماتية الحيوية فهماً أفضل لكيفية انتظام وتتابع الجينات، ودورها في الخلية وفي بنية الكائنات وصحتها ومرضها. مما يفتح الباب واسعاً لحسن تصميم/ تصنيع عقاقير وعلاجات تتناسب مع المواصفات الوراثية للإنسان، وفهم المشاكل المرافقة للتقدّم في العمر. وكان تحديد وظيفة عمل البروتينات الأساسية، ومعرفة تراكيبها الهيكلية، قد أصبح من التحديات الكبيرة في هذا المجال. كما أمست المعلومات الجينية أداة لتحسين الكثير من التراكيب الوراثية لعدد كبير من مسببات الأمراض (بكتيريا وفيروسات.. إلخ) وكذلك التراكيب الوراثية للمحاصيل الزراعية والحيوانات ذات الأهمية الاقتصادية. والخلاصة: يشهد البحث العلمي (تطوراً تاريخياً) لا مثيل له حيث يراكم إنجازاته بصورة متسارعة. فعلينا الإلمام بنتائج البحث العلمي والتقني وأسس المعلوماتية الحيوية. إذا كلما غصت قليلاً في المعرفة كلما زودتك بمفاتيح التحضر وفهم الكون والحياة والأحياء.

ذو صلة