ستشعر بنعمة الأم، وأنها مملكة تضحية، ستدرك بشيء من الرهافة أن الأم هي النجمة السريَّة التي صَنَعَتْ كل الأحداث الكبيرة وقامتْ بكل التضحيات في الخفاء، ستعرف أنها تحمَّلت قسوة لا تتحملها الصخور، وأنها نجمة لم تظهر بإرادتها طوال الفيلم، فأنت ستتابع الفتاة الشابة (إنسية) طوال المشاهدة على أنها النجم السري ثم ستدرك أن كل سيدات الفيلم نجمات سريات: الأم، والفتاة، والجدة. إنه فيلم يجعلك تقشعر مع قلب الأم وأنت تتابع مشاهدته حتى النهاية.
المتعة البصرية تطالعك من أول ما تتفتَّح الشاشة على خضرة واسعة، وأشجار تدعوك للمحبَّة، قطار ينطلق في الحقول قادماً من بعيد وصوت غناء يأتيك من داخله، الثواني الأولى للفيلم تشعرك أنك ستدخل حالة بهجة تؤكدها الكاميرا حين تدخل لقلب العربات فتجد فتيات وسيدات، وكأن صُنَّاع الفيلم يقولون منذ بداية الدخول للعربة الخاصة بالسيدات في القطار إننا سندخل بهذا الفيلم لعالم المرأة الخاص والسري.
تأخذنا الكاميرا لوجه فتاة، جميلة برَّاقة ومبهجة والتي قامت بها الممثلة الشابة (زايرا وسيم) في دور (إنسية)، أحسن المخرج في اختيارها لاكتساب تعاطفنا معها منذ الطلة الأولى وهى تنظر للحقول، تسطع على وجهها الشمس وتبتسم فتخرج الكاميرا من القطار وساعتها تبتعد الفتاة بخيالها عن كل ما يحدث وتنفصل عن الجميع وتستمع لصوتها الداخلي وترى الطيور حرة في السماء، ويتبادر للذهن تساؤل، هل هذه الفتاة تبحث عن الحرية؟! وحين تمسك الجيتار وتعزف وينصت لها الجميع نتأكد أنها البطلة وأن الكاميرا لن تفارقها وتبتسم الفتاة وهنا يظهر اسم الفيلم (Secret Superstar) (نجمة في الخفاء) الذي كتبه وأخرجه (أدفيت تشاندان) وقام ببطولته: عامر خان، زيرا وسيم، ميهير فيج، راج أرجون.
قساوة الزوج صنعت أسطورة المرأة
غالباً يأتي ذكر الزوج (فاروق) في تلافيف الفيلم وحواراته، فهو في الخلفية، كأنَّ الأحداث تتحرك حوله متخفية، هو موجود كحارس مآتة، كل شيء يدور حوله وهو لا يدري به، والأم (ناجما) حريصة على عدم معرفته لما يحدث، حريصة على إبعاده الدائم عن الضوء الحقيقي للأحداث، لأنه يرفضها ويفسدها بقساوته وطبعه الغبي، فظهور الزوج (فاروق) على الشاشة يأتي دائماً عَبوساً كأنه يخرج من العتمة، قال لابنته (إنسية): (لقد تورَّطتُ بالزواج من أمك، ولن يفعل الجميع مثلي) حتى أنه في مشهد بارع للعنف مزَّق أوتار جيتار (إنسية)، بدا صوت أوتار الجيتار يئن على الشاشة، وقلب (إنسية) كاد ينفجر كأنه مزَّق أوتار قلبها وقطع شرايينها، ففي لحظة قَطَعَ صلتها بموهبتها وبالعالم، كانت قوته غليظة وهو في غاية الهدوء يمارس عنفه بيسر وسهوله وكأنه يقتل بقلب بارد.
ذات مرة كان (فاروق) يرتدي بدلة مبهرجة، تلمع بلا ذوق، وابنه يرتدي بدلة، استعداداً للخروج، فربط للصبي الحذاء، بدا واضحاً أنه يعتني بالذَّكَر أكثر وأنه يمكنه أن يسامحه أكثر، كان منتمياً لعالم ذكوري متخشب، حتى أنه غفر للولد عندما دلق عليه المشروب ولو فعلت ذلك زوجته لعاقبها بشدَّة.
قسوته فظيعة، فقد شمَّر أكمامه وخلع الجاكت وكأنه سيدخل معركة، وضرب زوجته (ناجما) على وجهها أمام أبنائها، يبدو من داخله المريض يحارب أنثى ويضربها، وزاد من تأثير القسوة الطريقة المتقنة التي وُضِع بها المكياج على وجه (ناجما)، وكرهنا هذا الرجل للأبد، وأردنا أن تتحرَّر (ناجما) من هذه القسوة التي كانت سبباً في إظهار قوة تحملها وأسطورة وجودها.
الأم.. صمود حتى النهاية
الطلة الأولى للأم (ناجما) والتي قامت بها الممثلة (ميهير فيج) طلة بارعة ورهيفة وملائكية، بأنها تحمل المسؤولية والتضحية، فما إن ظهرت حتى أخذت الحقيبة المدرسية من ابنتها (إنسية) لتحملها وتُخَفِّفَ عنها عبئها، كانت (ناجما) ترتدي نظارة وكان يبدو أنها مصابة، وحين سألتها ابنتها (إنسية): (ماذا حدث لعينك؟) قالت: (لا شيء، لقد فتحتُ خزانة المطبخ وارتطم بابها بعيني) نظرات عينيها ولجلجة كلماتها جعلتنا نستشعر أنه قد تم الاعتداء عليها من زوجها العنيف الجاف، وأنها تتحمَّل هذا الاعتداء من أجل ابنتها، كانت إصابة عين (ناجما) تعطينا الرغبة في معاقبة الفاعل الذي شوَّه هذا الجمال الملائكي، وعلى الرغم من كل هذا كانت ابتسامتها الرائقة الحنونة المليئة بالأمومة الخالصة لا تفارق وجهها، لتعطى لابنتها الأمل وقوة الحياة.
في لقطة بارعة خاطفة لم تستغرق سوى ثوانٍ معدودة على الشاشة كَشَفَتْ مدى العلاقة بين (ناجما) وزوجها (فاروق) فحين خرج (فاروق) للسفر لعدة أيام ودَّعته (ناجما) وأغلقت الباب وراءه، رقصت بصمت، فرح داخلي يعتريها ظهر بدون مقدمات، رقصة سعادة داخلية وكأنها ستطير، جسَّدتْ أمامنا الممثلة (ميهير فيج) الفرح الصامت المعبر من الداخل، لقد بان أنها لا تطيق حبسته وأنها تطلب الحرية، لقد رحل مؤقتاً من كان يكبس على الروح وهذا يدعو للفرح والرقص، وهنا أشرقت الشمس على وجه (إنسية) وكأننا سندخل حالة بهجة من ذهاب هذا الرجل الشرس الغبي، لقد كانت فترة سفر (فاروق) القصيرة فرحة غامرة، رأينا لحظات سعادة حقيقية على الشاشة عاشتها الأسرة بدون (فاروق) وعلمنا أن وجوده يمثل عكارة الروح، لماذا تتحمَّله هذه الأم وتتحمَّل كل قسوته؟ يظهر أن أبناءها كنزها الخاص تحافظ عليه بكل صبر وجَلَد، وأنه يمكنها أن تتحمَّل أكثر من أجلهم.
مجتمع ذكوري متخشب
ظهرت (ناجما) متوجسة من زوجها (فاروق) على الدوام، فحين طلبت ابنتها (إنسية) أن تذهب لمسابقة الغناء وافقتها على الرغم من تأكدها أن زوجها لن يوافق، واشترطت عليها أن تذهب دون أن يعلم والدها، هنا تتكشف شخصية الزوج الأب (فاروق) قبل أن نراه على الشاشة، فهي تريد أن يتم الأمر دون علمه، فهو من ضربها بتوحش حيواني مما جعلنا نكره هذا الزوج قبل أن يلج أمامنا على الشاشة، هو من يهدد بكسر جيتار ابنته من وقت لآخر كما تقول (ناجما)، لقد رأينا شراسته قبل أن نرى وجهه، رأيناه عنيفاً لا يحب الفنون.
حين دخل الزوج الأب (فاروق) للمرة الأولى للشاشة كان دخوله مميزاً جداً، قام به الممثل (راج أرجون) ببراعة وإتقان، كاشفاً بوضوح طبيعة شخصيته الظلامية، لقد كانت الشاشة سوداء، وشعرنا أننا سندخل للظلمة، فإذا به يقتحم السكينة والهدوء، والنوم، كان الجميع في حالة راحة واسترخاء ودخل البيت كطلقة جرحت صمت السكينة، كأن صُنَّاع الفيلم يقولون إن هذا الرجل الزوج الأب ظلام، يأتي من الظلام في الظلام، ليزعج الراحة والطمأنينة، وحين رأينا وجهه للمرة الأولى رأينا رجلاً جافاً بلا مشاعر، حتى أنه لم يبتسم لابنته الجميلة التي ابتسمت لها الشمس منذ قليل وحلَّقت حولها الطيور، لم نشعر أن له مشاعر حسَّاسة، وكأنه لا يمتلك التعاطف، كان كقطعة خشب ميتة، لقد كان اختيار الممثل (راج أرجون) لأداء هذا الدور اختياراً ناجحاً، فقد حصل عن هذا الدور على جائزة زي سين كأفضل ممثل لدور سلبي، كان وجوده على الشاشة مستفزاً، يجبرك على التعاطف مع الابنة والأم أمام هذا الجفاء والقسوة، كيف يحتضن الشوك نقاوة الورد، ما إن حضر حتى أحضرت له (ناجما) الطعام، وهو أعطاها بالمقابل جوربه المتسخ، أعطاها القذارة، وفجأة صفع الصينية ودَلَقَ الطعام على ملابسها، كان عنيفاً في كل حركات وجهه الجامد الصلد، كيف يمكننا أن نتحمَّل هذا الوجه على الشاشة؟! لقد جعلنا صُنَّاع الفيلم نكره وجوده، وبالتالي نحب الأم، فكان هو محور الحديث ومعرقل الأشياء الجميلة، فهو يخرج معاناته الشخصية كرد فعل عنيف على أسرته، وفى ذات الوقت نرى الأم (ناجما) ناعمة وجميلة وملائكية لأقصى درجة، تتحمَّل كل القساوة، حتى أن ابنتها قالت لها: (أمي أظن أن عليك الطلاق من والدي، إنه ليس الزوج المناسب لأجلك)، إلا أن قلب هذه المرأة عجيب، فعلى الرغم من كل تلك القساوة، إلا إنها كانت تودعه عند الباب وتقول له: (حفظك الله) أي قلب لهذه المرأة.
الأم نجمة متخفية من أجل أبنائها
يظهر التخفي جيداً في حياة الأم (ناجما) حين تعلم أن ابنتها (إنسية) تريد رفع فيديو أغنيتها على اليوتيوب، اقترحت عليها الأم أن تغني وهى ترتدي النقاب، هنا تظهر عبقرية التخفي الداخلية للأم فبإمكانها أن تفعل ما تريده ولكن في الخفاء، كأنه منهج حياة في التخفي لصناعة المستحيل، فهي ستعرض قدراتها الغنائية عن طريق إخفاء وجهها، لكنها ستظهر موهبتها جليَّة، وهنا نعرف أن الأم لها قدرة على إخفاء الجوهرة لحين يأتي وقت ظهورها الحقيقي، كما فعلت مع ذاتها وأخفت قوتها حتى نهاية الفيلم. قالت لابنتها: (لكي تكوني نجماً لا بد أن يعرفك الجميع، أما أنت فستبقى هويتك سرية)، وتؤكد: (لا ينبغي أن يعرف والدك شيئاً).
وتأتي لحظة كشف الفيلم الكبرى التي توضح أن هذه الأم (ناجما) على عكس ما تظهر به من تحمل قد يبدو استكانة وضعفاً، تبوح الجدة للفتاة (إنسية) بأن أمها شجاعة للدرجة التي جعلتها تهرب بها وهى جنين في بطنها، لأن والدها (فاروق) أراد أن يتخلَّص منها وقال: (ما نفع العالم بوجود فتاة) لكن الأم (ناجما) أصرَّت وأنجبت الفتاة (إنسية) واتخذت أكبر موقف شجاع في حياتها، لأنها قررت الاحتفاظ بأنثى لا يرغب فيها والدها، لقد أنجبت طفلتها على الرغم من رفض الجميع لهذه الطفلة، هذه الأم الملائكية التي تم الاعتداء عليها طوال الفيلم وتحمَّلت بصبر غريب، ذات يوم وقفت أمام الجميع بجسارة وتحدَّت رغبات الكل من أجل ابنتها.
إن اعتراف الجدة أخرج النجمة السرية التي داخل الأم (ناجما) وكشف عن معدن الأم الصلب القوي المتحدي، ظهرت شجاعة (ناجما) الحقيقية بجلاء وقوة وهدوء في المشهد البارع قبل نهاية الفيلم، حين رفض الأب (فاروق) أن يأخذوا الجيتار معه في السفر فأصرت (ناجما) على أخذه في موقف تحدٍّ قوي لفاروق أظهرته الممثلة (ميهير فيج) بإتقان ونعومة، حتى أننا رأينا الأم (ناجما) الملاك الرهيف تحمل قوة داخلية عجائبية، فالأم إذا لم تفعل ذلك سيضيع حلم ابنتها التي واجهت المجتمع من أجل إنجابها، لأن الجيتار حلم (إنسية)، فالجيتار ليس قطعة خردة كما يقول الأب.
لقد ظهرت قوتها الخفية وظهر أنها النجمة السرية، حين اتخذت قراراً جريئاً بترك زوجها من أجل حلم ابنتها، رحلوا وتركوا (فاروق) وحيداً خلف الزجاج يصرخ ويشتم والزجاج يمنع صوته من الظهور وكأنه بلا صوت أصلاً في هذا العالم، لقد نال ما يستحقه، وأتت الحرية على يد الأم (ناجما) النجمة السرية الحقيقية. وكشفت (إنسية) للجميع عبر شاشات العرض في حفل فوزها كلمة سر الفيلم، قالت: (أنتم تظنون أنني النجمة السرية، لكنني لست ذلك، أمي من سطَّرت قصتي، أمي هي النجمة السرية). وينتهى الفيلم باحتضان أمام الجميع وفي الخلفية تتردَّد الأغنية الأثيرة: (يا أعز الناس لنفسي يا أمي). ونخرج وقلوبنا منحنية للأمومة التي تتحمل قساوة الحياة وشراستها من أجل الأبناء.