يستند الاستنتاج والتحريض في الفنون التشكيلية على الأساليب المتعلقة بفن العصور القديمة وصولاً إلى الفنون المعاصرة، ووفق العديد من الخصائص البعيدة عن الانتقائية العشوائية، بل ترتبط بشدة بالتكامل والاستنتاج والانغماس بالمعايير التي تهيمن على الأسس الفنية وسيمائيتها.
والمبادئ التي تحدد جمالية اللوحة بصرياً من خلال العناصر الفنية والبنية العقلانية المثيرة للنقاشات الضمنية، والأكثر قابلية للاستنتاجات القادرة على إيجاد عدة معادلات يمكن من خلالها اكتساب الجماليات الخاصة في العمل الفني الذي يتفرد بخصوصية منهجية قائمة على الديناميكية والمنطق. مما يجعلنا نشعر بالدهشة رغم الاختلافات في الأحاسيس الناتجة عن رؤية العمل الفني والقدرة على محاكاته من خلال القواعد، وفقاً لشروط الاستنتاجات الناتجة عن التنوع في الوسائل، وأصالة الالتزام الفني المعاصر بالتراكيب المألوفة في المجتمعات العربية دون جدلية لا يمكن إخضاعها لاستنتاجات خالية من التعقيد. وقد تبدو محفوفة بالتساؤلات والغموض حول العمل الفني وابتكاراته التي تتطلب عدة قراءات فنية، ومن نواح مختلفة. لتبرز آلية دقة العمل وتحليلاته، مما يزيد من قيمة التفاصيل الأخرى. فهل تنطوي شخصية الفنان التشكيلي على استفزازات ذات قوة بصرية تخلق فجوة بينه وبين العمل الفني؟ أم أنه يعالج مشكلات الفن المعاصر برمزية يستبطنها بجمالية في أعماله؟ وما قيمة الاستنتاج والتحريض في العمل الفني بشكل عام؟ نقطة الانطلاق لفهم العمل الفني تبدأ من الأسس البصرية التي يرتكز عليها إلى جانب التحليلات والاستنتاجات الافتراضية المتخيلة، والناتجة عن المنطق الاستنتاجي المرتبط بالمفهوم الفكري أو الهندسي أو الجمالي وغير ذلك. مما يؤدي إلى الكثير من البديهات التي تنشأ عن الحقائق الظاهرة كالحجم والخطوط والمتناقضات مع القدرة على الالتزام بالمبادئ الفنية التي تستند على توضيحات قادرة على إيجاد عدة نظريات تنبثق كل منها عن معادلات رياضية التزم بها الفنان مثل أعمال الفنان اللبناني (الدكتور فضل زيادة) التي ترتكز على قاعدة من البيانات الجيومترية والهندسية، لتبقى ضمن الاتزان البصري الذي يفرضه عليها من حيث المكان وواقعيته وفضاءاته التي لا تنفصل عن الواقع المتخيل للشكل، ومبدأ النظام وفق ترتيب أوليات اللوحة، وبهذا قد تلتقي أعمال الفنان (فضل زيادة) التشكيلية مع العمل الفني المسمى (القبة) للفنان السعودي (عبدالناصر غارم) من حيث الاتزان البصري وجمالية الفكرة، وما تفرضها من تأصيلات أو استنتاجات لظواهر خفية تصاحب اللوحة أو العمل الفني دون الوقوع في تصورات خاطئة. فما الفاصل بين الذاتية والموضوعية بين الأعمال الفنية كافة، وهل ترتبط الأعمال القديمة مع المعاصرة في كثير من النواحي الجيومترية أو الجمالية؟
تحث الأعمال الفنية بشكل عام على الاستقراء البصري، وبالتالي على التحريض لفهم منطق العمل الفني وأهدافه واتجاهاته والاستنتاجات الخاصة به، للانتقال بالمتأمل له من الحالة الجمالية العامة إلى الحالة الجمالية الخاصة أو الأحرى التذوق المعرفي أو الفكري للعمل بغض النظر عن الإحساس به من حيث الألوان ووجدلنيتها، مع الحفاظ على ما تمثله من تحليلات فكرية أولية، وهنا أعود إلى قبة الفنان السعودي (عبدالناصر غارم) بدائريتها وفراغاتها وقدرتها على فرض التحليلات المختلفة الناتجة عن التشابه والتناظر والسيمترية، وكذلك أيضاً أعمال الفنان الدكتور (فضل زيادة) مع اختلاف الأسلوب الظاهر في كل منهما. إلا أن كل واحدة تشترك بخصائص بصرية صحيحة من حيث التصور المنطقي لمكونات العمل الأساسية، لأن الأسس الرياضية تحكم المبدأ الذي انطلق كل منهما من وإلى لب العمل الفني أو جوهر بناء اللوحة الفنية التشكيلية أو العمل التركيبي الهندسي. فهل من شوائب تصدر عن التفكير في قيمة الاستنتاج والتحريض في العمل الفني؟
يسمح التفكير بقيمة الاستنتاج والتحريض في العمل الفني على فهم ما يستهدفه الفنان من رؤيته الفنية التي تحتكم للمنطق، وإن اختلفت الطرق والأساليب لترجمة جمالية العمل بذهنية بصرية تنقلنا من العام إلى الخاص، وفق مخيلتنا المرتبطة بقواعد العمل الفني، وفن التفكير المرتبط به، كما في الجمال الكلاسيكي وأقصد هنا لوحة (الموناليزا) وما تحمله في طياتها من خطوط هندسية وهمية تجعلها متزنة بصرياً، وقادرة على جذب الحس التأملي نحوها بقوة، لأنها بعيداً عن الألوان هي تزدان بخارطة هندسية مبنية على التوازن البصري الظاهري، والتوازن الهندسي المبطن استثنائياً من حيث قوة الأبعاد والانغماس بالتأثيرات الحسية الخارجية، الناتجة عن الكثير من الاستنتاجات التي تحرض على الاستكشاف بعمق في التفاصيل والمعاني، وامتداد شخصية الموناليزا والتعبيرات الممزوجة بمحتويات اللوحة التي تشير إلى كيفية قياس الخطوط وتأثيراتها من حيث تكوين فكرة العمل على قاعدة من البيانات الهندسية الشديدة الاتزان، مما يجعلها تثير الدهشة بعيداً عن عبثية التحليل الفني، وبالتالي محاولة بذل المزيد من الجهد لاكتشاف قيمة الاستنتاجات البصرية التحريضية، الناتجة عن الكثير من التساؤلات التي تهدف إلى فهم شبكة التوازنات المبنية على مقاييس محددة مازالت محيرة للكثير من نقاد الفن الذين يبحثون عن قيمة الاستنتاج والتحريض في العمل الفني، أو الأحرى في لوحة الموناليزا تحديداً رغم الكثير من الدراسات التي صدرت حتى الآن. فهل يمكن الخروج بمعادلة فنية تؤدي إلى حفظ قيمة الاستنتاج والتحريض في الأعمال الفنية التي تصل إلى المزادات العالمية والأخرى التي تبقى ضمن المعارض المحلية؟
تتيح قراءة الأعمال الفنية إلى فك شفرة العمل، والسعي لفهم مسيرتها أو ولادتها وكل ما يتعلق بها وإن افتراضياً غالباً. إلا أنها تحتفظ بالجانب المزدوج من الاستنتاج والتحريض، ولا تنفصل عن رمزية التحليلات ومنطقها، مما يمنحها الثراء في مسألة القيمة الفنية التي تحتل نسبة مهمة في استكمال تقييم العمل ونجاحه، وإن تم تحريض الحواس أو الذهن المتلقي، إذ تتوازى الرؤية غالباً رغم الشذوذ اللوني أو العشوائية الحركية الاحتمالية المرتبطة بفلسفة التحريض البصري، وإثارة التساؤلات بأسلوب استقرائي ينتج عن الخبرات في دراسة حالات اللوحة وقياساتها المنطقية دون تجاوز النتائج بما في ذلك الأبعاد، كما في لوحات دكتور (فضل زيادة) و(قبة عبدالناصر غارم) ومستواها البنائي وقيمتها الهندسية. فهل يمكن العثور لاحقاً على نظرية خاصة بجماليات الفنون بمجملها في مستقبل يحمل الكثير من التقنيات المختلفة تكنولوجياً؟
لوحة الصرخة وخروجها عن المألوف هندسياً إلا أنها تتوازن بصرياً في الطول والعرض، وفي مختلف المقاييس رغم التناقض اللوني فيها. إلا أنها تعتمد على الحس الافتراضي بالصرخة وذبذباتها، وبالتالي إبراز الحركة كناتج عن الكثير من المخاوف، وبهذا تتصدر قائمة التحريض الفني لما ينتج عنها من استنتاجات كثيرة. إذ مازالت تحتل مرتبة كبيرة في الدراسات النقدية والفنية، ومازالت الاستنتاجات تحريضية في بعض منها. إلا أنها تعيد صياغة رؤيتها في كل مرة يحاول دارسها فك شفرتها، مما يجعلها تعطي أساساً منطقياً للجمال المثير للكثير من التساؤلات غير الكافية في تحديد الحقائق الصادرة عنها، لتؤكد أن معايير الجمال الفني قابعة في معرفة قيمة الاستنتاج والقدرة على إيجاد قوة تحريضية تنتج عن العمل نفسه الذي يتخذ من بنيته قاعدة جمالية يرتكز عليها، وإن بقيت وهمية مرتكزة على أسس التوازن البصري للشكل بشكل عام. فهل من حقائق نستخلصها على أساس هذين المبدأين الاستنتاج والتحريض؟ وهل يمكن التقاط جمالية الأعمال الفنية دون تحريض حسي يضعنا أمام توازناتها وفك شفراتها؟
تقودنا الأعمال الفنية إلى اتجاهات معاكسة تدهشنا وتثير التساؤلات العديدة، كما تثير لذة الاكتشافات لقوانينها ومعاييرها، وأسسها وطبيعتها، ومكانتها في الفن من حيث الأجناس، ومن ناحية أخرى تحث على منطق الاكتشاف وفهم قانون التوازن الجمالي الذي يحكم البنية، وبتعبير آخر التماسك البصري في العمل الفني وتطوره من حيث قوته على التحريض الذهني أو الحسي أو استدراك مراحله وتطوره المشروط بعوامل بنيته وفروقاتها مثل أعمال الفنانين الذين ذكرتهم في هذا المقال ولاسيما المفاهيم المختلفة التي تحتكم لها من حيث ماهيتها الفنية، وتأثيراتها البصرية وقوتها الاستنتاجية والتحريضية والقابلة منطقياً للتحقق منها، مما يرفع من قيمتها ويضعها ضمن سمات الفن الجمالي الذي ينبثق عنه الفهم الحدسي الخاضع لمقترحات قيمة الاستنتاج والتحريض المرتبط بالتفاعلات التي تنطوي على مؤثرات بصرية تشكل نوعاً من الاستدلالات الخاصة التعميمية تتعلق بمدى قابلية العمل الفني للتحريض والاستنتاج معاً، وإن بدرجات مختلفة. فهل مكونات التحريض البصري الحقيقية تنتج عن عدة معايير مختلفة؟ وهل الاستنتاج مجرد تخمين أو فرضيات تتراءى للناقد قبل المتلقي؟ أم أن الإحساس المعرفي بالعمل الفني هو الذي يفرض التحريض والاستنتاج؟
ــــــــــــــــــ
*اللوحات للفنان اللبناني دكتور فضل زيادة لكن في المقال ذكرت القبة وهي عمل فني للفنان السعودي عبدالناصر غارم ولوحة الموناليزا والصرخة