لقد ازدهر الاهتمام بالتراث في المسرح المغربي، حتى أصبحنا نرى أشكالاً جديدة تعتمد توظيف جميع أبعاد الفرجة الشعبية من رقص وموسيقى وحلقة. كما تعتمد على الراوي الشعبي، وذلك من خلال انفجار الخشبة الإيطالية بجدرانها الأربعة، الأمر الذي يؤكد أن (علاقة المسرح المغربي بالتراث ثابتة وجديرة بكل اهتمام، بل إن دراسة تجلياته في النصوص المسرحية ضرورية إذا ما رمنا رسم ملامح المسرح العربي... ولو نظرنا إلى العناوين التي أطلقت على أغلب المسرحيات التي ألفت على مدى الممارسة العربية للفن الدرامي، لتبين لنا من خلالها أن أغلبية هذه المسرحيات تدور حول أحداث تاريخية أو شخصيات تراثية أو أسطورية أو ذات صلة بإحدى السير أو القصص الشعبية).
ويبدو لنا من خلال هذا أن عناوين مسرحيات عبدالكريم برشيد أيضاً تتناول التراث لتقدمه في شكل مسرحي متميز قد يساهم في إنارة الطريق نحو البحث عن قالب مسرحي مغربي. ومن مسرحياته التي توحي باستلهام التراث: (سالف لنجة)، (عطيل والخيل والبارود)، (عرس الأطلس)، (عنترة في المرايا المكسرة)، (ابن الرومي في مدن الصفيح).. وغير هذا من المسرحيات. فمن خلال هذه العناوين يتضح لنا أن عبدالكريم برشيد ينطلق من شخصية تتوافر على العناصر الدرامية التي يتطلبها العمل المسرحي، غير أننا سنركز في هذا الجزء على (مسرحية ابن الرومي في مدن الصفيح) باعتبارها مسرحية احتفالية يتقاطع فيها ما هو اجتماعي معاصر مع ما هو تراثي وأدبي تاريخي. وتعتبر مسرحية ابن الرومي في مدن الصفيح من أهم المسرحيات التي ألفها عبدالكريم برشيد، وقد كتبها في أواسط السبعينات، وهي تمثل النظرية الاحتفالية لديه. يقول في هذا الصدد: (إن مسرحية ابن الرومي في مدن الصفيح، وهي عمل درامي يعتمد على فلسفة مغايرة وعلى تقنيات جديدة وعلى اجتهادات جريئة في ميدان البناء الدرامي؛ لا يمكن تفسيرها إلا اعتماداً على الرجوع إلى الفكر الاحتفالي، فالمسرحية تجسيد شامل لمفاهيم الواقعية الاحتفالية).
ويقر برشيد أن هذه المسرحية خير نموذج مسرحي من إبداعاته الدرامية التي تجسد النظرية الاحتفالية في جانبها التطبيقي التمثيلي. ويحمل عنوان المسرحية مفارقة رمزية ودلالية بين شاعر عربي عاش في العصر العباسي في حياة شعبية قوامها الفقر والانكماش والخوف والتكسب؛ ومكان معاصر هو المدينة بأحيائها القصديرية الصفيحية التي تشخص التفاوت الطبقي والصراع الاجتماعي. ويحيل العنوان كذلك إلى جدلية الماضي والحاضر وتداخلهما، ومن خلاله يتبين لنا أن الكاتب يعصرن التراث، ويحاول خلقه من جديد عن طريق محاورته ونقده والتفاعل معه، ويعني هذا أن عبدالكريم برشيد يشتغل كثيراً على التراث حتى أصبح نموذجاً يقتدى به من قبل المسرحيين الهواة، وحتى من قبل رواد المسرح الاحتفالي مثل (الطيب الصديقي، وعبدالله شقرون..).
وتحتوي مسرحية ابن الرومي في مدن الصفيح على سبع عشرة لوحة احتفالية تجسد عالمين: عالم الخيال وعالم الواقع. فحين يدخل ابن دانيال صاحب خيال الظل بعربته الفنية ليقدم فرجته للجمهور مع ابنته دنيازادا، فإن المسؤول عن الستارة يرفض السماح له بالدخول ما دام العرض المسرحي لم يبدأ، لكنه سيتعرف عليه بعد أن يكتشف أنه من كبار المخايلين المتخصصين في خيال الظل، وقد جاء إلى الركح بأوراق صفراء ليظهر ما لديه من الحكايات والمرايا بدلاً من هذه المناظر والمشاهد التي يسعى أصحابها إلى بنائها، وفيها يفضلون الأغنياء عن الفقراء، بينما المسرح حفل واحتفال ومشاركة جماعية.
(عامل الستار) سأرفع الستار ولكن ليس الآن، عمال المناظر لم يكملوا البناء بعد.
ابن دانيال: عمال البناء؟ لكن، أي شيء يبنون الآن؟ أريد أن أعرف ذلك.
عامل الستار: لن ترى.
ابن دانيال: ماذا أسمع؟
عامل الستار: ...فمنذ كان المسرح والمناظر محصورة في شيئين القصور للأغنياء..
ابن دانيال: ...والأكواخ للفقراء...
(تسمع الدقات التقليدية الثلاث، ينسحب عامل الستار).
حيث يعرف ابن دانيال بنفسه وابنته، ويقدمان نفسهما للجمهور، ويقدمان له مجموعة من شخصية خيال الظل قصد تسليته وإفادته بأن ابن دانيال المخايل نزل من التاريخ المنسي إلى هامش الحاضر ليزرع بشارته وأمله في المستقبل. (ابن دانيال: أحبتي أتيتكم من بين الصفحات الصفر الباليات، من الزمن المعلب النائم فوق الرفوف، كنت حرفاً تائهاً، معلقاً منشوراً فوق جبل الزمن، فجئتكم كدفقه نور كموجة صوت...).
يتبين لنا في هاته المقاطع أن مسرحية ابن الرومي في مدن الصفيح مسرحية مركبة من لوحتين منفصلتين: واقع المدينة بأحيائها القصديرية وبؤسها المأساوي وانتشار الفكر الاستغلالي والتفاوت الاجتماعي والطبقي؛ ولوحة ابن الرومي التي يعكسها التخيل الدرامي عن طريق خيال الظل (التخيل التاريخي والتراثي)، كما أن المسرحية تزاوج بين الأصالة (ابن الرومي) والمعاصرة (واقع المدينة). وتبقى المدينة فضاءً درامياً لكثير من الكتابات المسرحية لما لهذا الفضاء المعاصر من آثار سلبية على الإنسان. كما يتبين لنا أن هذه المسرحية مسرحية احتفالية اجتماعية واقعية جدلية تستحضر التراث لغربلته وتعريته لتشخيص عيوبه قصد إضاءته من جديد بناءً وإصلاحاً عبر النقد الذاتي والتغيير الداخلي. يقول مصطفى الرمضاني: (فبرشيد قد وظف شخصية ابن الرومي كرمز للمثقف العربي غير المتموضع طبقياً، لأنه يعيش أزمة التراجع بين طموحاته الطبقية المثالية التي يعيشها في المجتمع، لهذا وجدناه يصور ابن الرومي كشخصية مركبة: ابن الرومي الوصولي، ابن الرومي العالم، ابن الرومي الثائر. فابن الرومي شخصية قد خلقها برشيد من خياله حقاً، ولكن من المؤكد أن لها ما يعادلها في الواقع. ثم إن المبدع ليس مطالباً باستنساخ هذا الواقع حتى نطالبه بأن يعكسه لنا عكساً فوتوغرافيا، فالواقع معطى تاريخي ولكنه أيضاً حركة لا تعرف الاستقرار، لهذا فالمبدع مطالب بتشريحه في أبعاده المختلفة والمعقدة عبر متغيراته وثوابته من أجل تغييره وخلق المستقبل).
لكن على الرغم من هذا كله تبقى الشخصيات الدرامية المجسدة في المسرحية أقنعة رمزية لشخصيات مثالية وتراثية تنتمي إلى الماضي الشعبي والأسطوري (كابن دانيال، ودنيازادا، وشخصيات واقعية معاصرة تنتمي إلى الحاضر، وكادحة في الاستغلال (سعدان، رضوان، حمدان) من طرف شخصيات تملك الجاه والسلطة أمثال:المقدم والخادم يازمن، ورئيس المجلس البلدي.
فهذا التفاوت بين الشخصيات يجسد لنا صراعاً حاداً بين المثقف ضد الاستلاب والاستغلال، وذلك من خلال صورة ابن الرومي الشاعر ورئيس المجلس البلدي وسماسرته المزيفين وصراع أهل الحي القصديري (حمدان رضوان سعدان) ضد المقدم ورؤساء التخمة، كما يجسدان لنا صراعاً طبقياً اجتماعياً بين الفقراء وأهل الجاه وبين الفكر المثالي (ابن دانيال- ابن الرومي في بداية المسرحية ووسطها) والفكر الواقعي.
وبهذا يبقى الفضاء السينوغرافي للمسرحية يتموضع في فضاءين متقابلين بين بغداد التراث بأكواخها والمدينة المعاصرة بأحيائها القصديرية الصفيحية، دون أن ننسى الفضاء الاحتفالي وهو الخشبة بخيال ظلها، حيث وظف الكاتب تقنية المسرح الفقير كالستائر والمصطبة والإطارات والنوافذ التي تشكل دور القصدير ودار ابن الرومي والدكاكين الصغيرة والساحة، أما الإكسسوارات والملحقات فكانت وظيفة احتفالية كعربة خيال الظل والشمع وآلة العود والأقنعة والمناشير والكتاب.. كما تبدو الموسيقى التصويرية وظيفة تتغير بتغير اللوحات والمشاهد الدرامية، كما تتخذ الملابس عدة دلالات كأثواب الغجر كما عند ابن دانيال وابنته أو لباس العمال كما عند رضوان أو لباس الوسترن الأمريكي كما عند عاشور، إنها دلالات مختلفة ذات شفرة رمزية احتفالية. أما اللغة فهي لغة احتفالية تقوم على الحوار والشعر والرقص والغناء والفصحى والعامية والسخرية والمفارقة والفكاهة. وبهذا يثبت مصطفى الرمضاني (أن المسرح احتفالي، على المستوى السينوغرافي يعتمد على تقنيات بسيطة وموحية، فالديكور ينبغي أن يعتمد على طاقات حية وإنسانية من خلال اللغة والحركة والحوار).
فكل هذه الصفات تجعل برشيد يسمي (ابن الرومي في مدن الصفيح) مسرحاً احتفالياً، حيث نجد عنده احتفال المسرح بدل العرض المسرحي، (لأن الاحتفال عند برشيد بديل لكلمة (العرض)، وهو يفضل الاحتفال لأن العرض كلمة متداولة في سوق التجارة، وهي تعني وجود بضاعة تعرض على المستهلك نسميه جمهوراً، هذا الجمهور الذي انحصر دوره في أمرين، هما: دفع ثمن التذكرة والتصفيق).
ومن هنا تتمظهر النظرية الاحتفالية بامتياز في هذه المسرحية، حيث نجد استخدام الذاكرة الشعبية كاستنطاق خيال الظل المرتبط بدنيال وتوظيف السينما والمسرح داخل المسرح (مسرحية الجواري الثلاث لمعلمتهن رباب وهي تصدر أوامرها)، والاعتماد على لغة متنوعة كالحوار والشعر والسرد الحكائي الذي نجده لدى ابن دنيال علاوة على لغة الرقص والغناء (لغة الجواري) ولغة التصفيق عند المتلقي، كما تتداخل لغة التراث الفخمة ولغة الواقع المعاصر.
كما تحضر الاحتفالية في الواقعية الشعبية التي تتجسد في معانقة هموم الفقراء والطبقة الكادحة وتصوير مدن الصفيح ومعاناة سكانها من الطرد التعسفي والاستغلال والظلم وتهديدات أهل الجاه والنفوذ والسلطة، وتتجلى هذه الشعبية في ذلك التواصل الحميمي بين الممثلين والجمهور وبين الراوي والطبقة الشعبية وابن الرومي مع أهل حيه.
كما تنتهي المسرحية بخاتمة احتفالية تتمثل في الأمل والتغيير والتبشير بمستقبل جديد ما دامت هناك إرادة التحدي والإصرار والكفاح: (دنيازاد: أنت واهم يا أبي، ليس هناك إلا عالم واحد ومدينة واحدة... الكلمة التي تفتقر إلى الحركة هي كلمة زائغة تماماً كعملة بلا رصيد، ووجودنا داخل المدينة وعذابنا أشياء لا يمكن للفقر أن يتعالى فوقها يا أبي...عذاب الفقر ما كان يوماً فرجة ولن يكون أبداً...).
وخلاصة القول إن (ابن الرومي في مدن الصفيح) خير نموذج درامي ونص مسرحي يعبر بكل وضوح وجلاء عن النظرية الاحتفالية باعتبارها بديلاً للمسرح الغربي الأرسطي، كما أن هذا النص الاحتفالي يشكل مرحلة مهمة في تأصيل المسرح المغربي وتأسيسه، ولكن تبقى المشكلة الأساسية في هذا المسرح كما يطرحه النص في صعوبة التحرر من الخشبة الإيطالية ومستلزماتها السينوغرافية والإخراجية التي تتناقض والنظرية الاحتفالية التي تدعو إلى فضاء مفتوح كالساحات والأماكن العمومية والفضاءات المنفتحة وأماكن الحلقة، ومهما تفهمنا تبريرات عبدالكريم برشيد عن استحالة وجود هذه الفضاءات الاحتفالية لعدة أسباب سياسية وأمنية فإن الكثير من المسرحيين لم يقبلوا باحتفالية جزئية تلبس قلباً أرسطياً غربياً ومضموناً عربياً.