مجلة شهرية - العدد (579)  | ديسمبر 2024 م- جمادى الثانية 1446 هـ

الكتابات السينائية المبكرة وتطور الأبجدية عند العرب

انتشرت في الآونة الأخيرة مبادرات رصينة وجادة نحو إعادة ترتيب أوضاع الكتابة التاريخية أو كتابة التاريخ بصفة عامة، وتاريخ المنطقة العربية بصفة خاصة. تنامت هذه المبادرات نظراً لظهور أدلة أثرية جديدة تبعث أطراً مستحدثة لصياغة الإطار العام لتاريخ المنطقة العربية. في هذا الصدد، يعد تاريخ الكتابة من أهم بل -أعتقد- هو أهم نقاط التشابك الفكري، والمناقشات العلمية بين المتخصصين من أجل فهم كيفية ظهور الكتابة في العالم العربي، أو بالأحرى، ظهور الحرف العربي المستخدم في العالم العربي حالياً.
بداية ظهور الحرف العربي:
حقيقة الأمر، يُعزى ظهور الحرف العربي أو الكتابة العربية الحالية إلى الكتابة النبطية، والتي خرجت من رحم الكتابة الآرامية، والأخيرة تأثرت تأثراً مباشراً بالحروف الفينيقية، والفينيقية بدروها جاءت من الكتابة السينائية المبكرة أو كما يطلق عليها الكتابة الكنعانية المبكرة. ويميل كاتب المقال إلى استخدام مصطلح الكتابة السينائية المبكرة دون الكنعانية المبكرة، وذلك لعدم إغفال النطاق الجغرافي التي عثر فيه على هذه الكتابات للمرة الأولى في سيناء.
وإذا كنا أمام ملف ينشر تحت اسم (إعادة كتابة التاريخ) فإن موضوع الكتابة السينائية المبكرة أو الكتابة الكنعانية المبكرة يثير اهتمام الباحثين في مجال اللغات القديمة وتاريخ الكتابة، وذلك نظراً لظهور بعض التفسيرات القيمة أو ظهور بعض الأدلة الأثرية الجدية التي تضيف تفسيراً قيماً لتاريخ الكتابة.
البداية كانت في منتصف القرن التاسع عشر عندما عثر المستشرق الإنجليزي إدوارد هنري بالمر على النقوش السينائية في شبة جزيرة سيناء، حيث عمل بالمر مترجماً عند إنشاء هيئة (لاستكشاف فلسطين)، والتي كرست جهدها لاستكشاف شبه جزيرة سيناء، ومسار بني إسرائيل في صحرائها، واهتم بالمر بتسجيل عادات البدو وأعرافهم. في عام 1870 عاد بالمر ثانية إلى شبه جزيرة سيناء لاستكشاف شمالها الشرقي ثم سافر إلى القدس، ولبنان، ودمشق، وإسطنبول وقد وصف هذه الرحلة في كتاب من جزأين. تبعه في ذلك عالم الآثار الإنجليزي الشهير السير فلندرز بتري، واكتشف العديد من هذه النقوش في عام 1905، أي منذ 115 عاماً. يتراوح عدد النقوش التي عثر عليها حتى الآن ما بين 50-75 نقشاً، اكتشف منها بتري 11 نقشاً بين عامي 1904-1905، ثم اكتشفت مجموعة ثانية 34 نقشاً بين أعوام 1937-1945، ثم حديثاً اكتشف الفرنسي بيير تاليه العديد من هذه النقوش، ومنها ما هو محفوظ بالمتاحف المصرية والعالمية مثل المتحف المصري في القاهرة، ومنها الذي لا يزال في مكان اكتشافه. اكتشف معظم هذه النقوش في منطقة سرابيط الخادم، ووادي النصب في جنوب سيناء، وكذلك تم اكتشاف نقشين في عام 2004 على الطريق بين فرشوط والأقصر في جنوب مصر.
لفتت هذه النقوش أنظار علماء الآثار، وتحديداً علماء اللغة وتاريخ الكتابة، إذ تم الانتباه إلى أن هذه النقوش تشير إلى كتابة تختلف عن الكتابة المصرية القديمة، وأنها ليست كتابة معروفة أو مألوفة. زادت أهمية هذه النقوش بعد التأكد من أنها تستخدم نظاماً كتابياً أبجدياً وليس أسلوباً كتابياً تصويرياً أو مقطعياً، بالإضافة إلى ذلك أن محتوى النصوص المدونة بهذه الكتابة يعكس لغة مختلفة، قد تكون لغة سامية.
فمن المعتقد أن تلك النصوص استخدمت أبجدية كانت هي المصدر لكل من الأبجدية الكنعانية المبكرة (القرن الخامس عشر/ الرابع عشر ق.م.) والأبجدية الفينيقية (القرن الحادي عشر/ العاشر ق.م)، والفينيقية هي تلك الأبجدية التي يعدها الباحثون الأصل الذي اشتُقت منه الأبجدية اليونانية، وبالتالي أصل الأبجديات الأوروبية الحديثة. كما أنه قد لوحظ التشابه الكبير بين هذه الأبجدية وبين الأبجدية الكنعانية المبكرة في مفردات مثل رسائل النجف وغيرها من الكتابات الكنعانية.
تصدى السير الإنجليزي الشهير ألان جاردنر لهذه النقوش السينائية، حيث كان أول من أرسى مجموعة من الحقائق المهمة حول هذه النقوش، واللغة المستخدمة في تدوينها، وكذلك العالمان الألمانيان فرانك كامرتسيل، والعالم المصري الدكتور محمد شريف، والعالم السوداني عبدالقادر محمود عبدالله، والبروفيسور السعودي سليمان الذييب، ثم أخيراً العالم الألماني لودفيج مورينز. والذي نشر في عام 2011 مؤلفاً كبيراً باللغة الألمانية تحت عنوان Die Genese Der Alphabetschrift: Ein Markstein Agyptisch-Kanaanaischer Kulturkontakt (نشأة الكتابة الأبجدية، حجر الزاوية في العلاقات الثقافية المصرية الكنعانية) ويتناول الكتاب بالتفصيل طبيعة الكتابة السينائية، ودورها في تكوين الأبجديات اللاحقة، ويناقش الكتاب النظريات المختلفة حول أصل الكتابة السينائية.
أما أهم ملاحظات العلماء السابقين عن النقوش أو الكتابة السينائية فتذكر أن هذه النقوش مكتوبة بنظام أبجدي، وليس تصويرياً صوتياً كما هو الحال في النصوص المصرية الهيروغليفية، بالإضافة إلى أن هذه الكتابات رغم ذلك قد استعارت أشكال علاماتها من العلامات الهيروغليفية. كذلك انتشر مبدأ الأكروفونية Acrophone (اختيار الصوت الأول من الكلمة للدلالة عليها، فإذا أراد الكاتب أن يكتب كلمة «بيت» فإنه يختار حرف (الباء) للدلالة على الكلمة، وهو المبدأ المطبق لاختيار علامات هذه الكتابات المستخدمة كحروف أبجدية. وأخيراً، استخدمت لغة غير مصرية في كتابة هذه النقوش.
أما عن تأريخ هذه النقوش، فقد انقسم علماء تاريخ اللغات القديمة وتاريخ الكتابة. رجح الفريق الأول منهم أنها تعود إلى عصر الأسرة الثامنة عشرة في مصر القديمة أي حوالي 1550 قبل الميلاد (القرن السادس عشر قبل الميلاد)، وعلى الجانب الآخر هناك فريق يعتقد بتأريخ هذه النقوش إلى عصر الدولة الوسطى في مصر القديمة أي حوالي 2000 قبل الميلاد، ولكل فريق أدلته التي تعضد من رأيه، لكن كاتب هذا المقال يميل بشدة إلى نسبة هذه النقوش إلى عصر الدولة الوسطى أي الألفية الثانية قبل الميلاد، وهو ما يتفق مع الأدلة الأثرية التي تم العثور عليها في مناطق سرابيط الخادم، ووادي النصب في شبه جزيرة سيناء، في مصر. إن النقشين اللذين تم العثور عليهما حديثاً في وادي الهول في مصر العليا (بالقرب من الأقصر) تم تأريخهما بشكل مبدئي ببداية الألف الثاني قبل الميلاد أي ما يقابل بدايات الدولة الوسطى في مصر (حوالي 2046 ق.م.) أو الفترة المبكرة من العصر البرونزي الوسيط في فلسطين، وهما بهذا التأريخ -إن صح- يعدان أقدم أمثلة هذه الكتابات حتى الآن، بل قد يرجعان ببداية ظهور مثل هذه الكتابات إلى فترة بدايات الدولة الوسطى. وهكذا ربما تكون الأبجدية في العالم قد ولدت في شبه جزيرة سيناء في فترةٍ ما من الأسرة 12 من تاريخ مصر القديمة (1962 قبل الميلاد-1763 قبل الميلاد)
لكن السؤال الذي يشغل عقل القارئ: ما هو سياق ظهور النقوش أو الكتابة السينائية؟
في حقيقة الأمر، خلال عصر الدولة الوسطى في مصر القديمة (2046-1550 قبل الميلاد) كانت هناك مجموعات من العمال الآسيويين الذين كانوا يعملون في بعثات التعدين المصرية في تلك المنطقة، وظهرت الحاجة إلى طريقة للتواصل بينهم وبين عمال المناجم من المصريين القدماء، بحيث يجعل من التعامل التجاري والتواصل الحضاري أمراً أكثر سهولة ويسراً.
لم يستطيع العمال الآسيويون استيعاب اللغة المصرية القديمة بشكل كامل، لذلك توصلوا إلى طريقة سهلة للكتابة وأيسر للتعبير عن بعض أفكارهم البسيطة حيث جاء محتوى العديد من النصوص والكتابات والنقوش السينائية على شكل نصوص قصيرة أو أدعية دينية بسيطة. وفي الحقيقة، إن الأمر الذي يشكل صعوبة في فهم الكتابات السينائية هو أنها وردت بشكل قليل سواء في عدد النقوش أو عدد الحروف المستخدمة، وفي حالة غير مكتملة.
نشأت هذه الأبجدية نتيجة للتفاعل الحضاري العفوي بين العمال الكنعانيين، الذين كانوا يعملون بشكل موسمي في أعمال تعدين النحاس والفيروز في سرابيط الخادم في عصر الأسرة الثانية عشرة من مصر القديمة، وبين العمال المصريين، الذي كانوا يستخدمون الهيروغليفية في التواصل فيما بينهم في لوحات سرابيط الخادم الشاهقة الارتفاع. وحقيقة القول إن البروفيسور سليمان الذييب يرى أنه من الصعب أن يقوم مجموعة من عمال المناجم باختراع هذا النظام الكتابي الفريد نظراً لخلفيتهم الثقافية الضعيفة، بل يرى أنهم كهنة يعملون في معبد حتحور لخدمة المسافرين من الساميين الذي يأتون إلى مصر. كذلك يرى الدكتور عبدالقادر محمود عبدالله، أنه ليس من المنطقي أن يقوم مجموعة من عمال المناجم والمحاجر باختراع طريقة كتابية تلقى القبول لدى العديد من الشعوب المحيطة، ولذلك فهو يرى أن الكنعانيين (سكان فلسطين) قد جاؤوا بأسلوبهم اللغوي والكتابي إلى سيناء، واستخدموا هذه الأبجدية في كتابة نصوصهم. لكن كاتب هذا المقال يبدي تحفظه على هذه النقطة، فإذا كنا نتفق على محدودية الخلفية الثقافية واللغوية لعمال المناجم في منطقة سرابيط الخادم، فإنه من الصعب تقبل فكرة أن الكنعانيين هم من جاء بهذه الأبجدية، خصوصاً أنه تم العثور على نقوش سينائية مبكرة في منطقة وادي الهول في جنوب مصر، بالقرب من الأقصر. فهل جاء الكنعانيون إلى منطقة وادي الهول، وتركوا لنا كتابتهم ونقوشهم، علماً بأن هذه النقوش تعود لفترة أقدم مما عثر عليه في سيناء أو في أرض كنعان؟
لكن يعتقد أنه من خلال هذا التواصل الثقافي والحضاري استطاع هؤلاء العمال -المصريون والكنعانيون- أن ينجزوا نقلة حضارية ونوعية في استخدام وابتكار طريقة كتابة عابرة للشعوب والمناطق، يمكن استخدامها في التواصل، ويمكن أن تعبر عن لغات عدة. وتكمن أهمية هذه الكتابات في أنها تمثل الأصل أو المصدر الذي استخدم بعد ذلك في الأبجديات السامية، الأمر الذي مثل نقطة فاصلة في تاريخ اللغة والكتابة بشكل عام، بل ويمكن أن نقول بشكل شبه مؤكد إن هذه الأبجدية وطدت لظهور الأبجدية الفينيقية، والتي مهدت الطريق لظهور الآرامية، والتي اشتقت منها الحروف والكتابة النبطية، وهي أصل الحروف العربية الحالية.
لذلك تمثل المرحلة النبطية حلقة الوصل بين الكتابة العربية والسينائية (الكنعانية) المبكرة، لأن الكتابة العربية متفرعة عن النبطية، وهي المتفرعة بدورها عن الكتابة الآرامية، والأخيرة هي متفرعة عن الفينيقية، وهي منحدرة من السينائية المبكرة. استخدمت الحروف أو الكتابة النبطية في ثلاث ممالك نبطية قامت في ثلاث مناطق هي: مملكة تدمر في سوريا، والبتراء في الأردن، والحِجر في المملكة العربية السعودية، وكانت لغة نقوشها عربية خالصة بها مفردات آرامية. استخدم الأنباط في بداية الأمر الكتابة الآرامية، لكن مع زيادة المفردات العربية في النقوش الآرامية، وتميز الخط تدريجياً عن الآرامي، صارت نقوشهم عربية اللغة، بها بعض المفردات الآرامية، مثل كلمة (بر) أي (بن). ويمكن التمثيل ببعض النقوش النبطية مثل نقش النجف المؤرخ للنصف الأول من القرن الثاني قبل الميلاد، ، ونقش مجيرة من مدائن صالح والمؤرخ بسنة 76 قبل الميلاد، حيث إنه من النقوش المهمة في الكتابة النبطية التي تؤرخ لوصل حروف الكلمة الواحدة، والذي ظهر في الكتابة العربية فيما بعد.
أما النقش الأخير الذي يمكن أن نضعه هنا لتتبع أصل الكتابة العربية هو نقش حران في سورية، ومكتوب باللغتين العربية واليونانية، ومؤرخ بسنة 568 ميلادية، كما جاء في نصه، والذي يتضح فيه بشكل واضح الحروف المتصلة في الكلمة الواحدة، والعين المفتوحة إلى أعلى، كذلك يحتوي على أنواع المد المختلفة، وإظهار همزة الوصل (الألف)، وكذلك إمالة العصي بشكل يذكر بالرسم الحجازي للمصحف الشريف فيما بعد.
إن حقل دراسات تاريخ الكتابة واللغات القديمة يعد حقلاً مهماً لتاريخ العالم العربي، وذلك لفهم كيفية نشأة وتطور الحرف العربي، وكيف تأثر بالكتابات واللغات القديمة التي كانت معاصرة له، ويمهد الطريق لدراسة كيفية انتشار الحرف العربي في العالم، واستخدامه لكتابة لغات شعوب أخرى مثل الفارسية، والأردو، والبشتو، والكردية، والمالايو، وصولاً إلى إعلان الأمم المتحدة يوم الثامن عشر من كل عام يوماً عالمياً للغة العربية بمناسبة إدراج اللغة العربية ضمن اللغات الرسمية الست المستخدمة داخل المنظمة.

ذو صلة