الذي يجلس في سوق العياشة، سيرى العجب العجاب، لكن هذا السوق انقرض الآن، أصبح في مكانه رخام لامع وممرات، لم يعد مكانه مترباً، ولا مظلماً إذا أقبل الليل، مع إطفاء لمبات (سعيد الطحان) التي كانت تطلق إنارتها الكابية عند الغروب، وحالما يتهيأ الناس لصلاة العشاء، يغلق (سعيد) اللمبات، ويقفل أبواب الطاحونة، حتى فجر اليوم التالي، حيث يبدأ هديرها من جديد، مع أكياس القمح، التي يوردها، الفلاحون والخبازون، وبائعو الحلوى والطباخون، كان (سعيد) رجلاً غامق اللون، خفيف الروح والخطوة، تعتقد باستمرار أنه موجود في كل مكان، بينما يكون مختفياً، في مصنع الثلج المجاور، أو في المقهى، أو عند بائع الجبن والزيتون!
هذا السوق كان يقطعه (حميد)، صبي مخبز التاجوري يومياً من التاجوري وحتى الباب المصري، في خطو سريع، وعلى يديه ثلاث من شقات الخبز الساخن، كيف يذهب؟ وكيف يعود؟ دون أن يسقط أو يتناثر الخبز، هذا هو سره، الذي يحافظ عليه، وهو يحتفظ بصوته عالياً على الدوام، من الصباح الباكر، وحتى المساء الباكر، سريع سريع، وكأنه القطار المجري، الذي سمعت صوته للمرة الأولى في مصر، حينذاك، لم أتذكر غير (حميد)، وهو يركض بحمولته من الخبز، دون أن يطالبه أحد بذلك، بل دون أن يكون ملزماً بذلك، ثم لماذا لا يوضع الخبز، على دراجة هوائية بثلاث أرجل؟ مثل تلك التي كان قهوجي قباء الكفيف، يقودها من أمام مسجد قباء، ويخترق بها طريق قباء، حتى يصل إلى سوق العياشة، ليملأها بالسكر، والشاي، والتمباك، والسحلب، والزنجبيل، والخبز، دون أن يعترضه أحد! كانوا يقولون لنا: إنه يحتفظ بربع عين، وهناك من يقول: إنه يحرص على إسدال الكبوت، ثم يدّعي لمزيد من الإثارة، أنه كفيف البصر، مع أن كافة الشواهد، لا تقول ذلك، وإلا كيف يخترق حشود الشوارع في مشوار قد يستغرق نصف الساعة دون أن يتعرض لحادث؟ ثم كيف بعد أن يعود من مشواره يحمل على يديه صواني الشاي، والأواني الفخارية، المليئة بالماء البارد، ويوزع كل ذلك، على رواد مقهاه، دون أن يصطدم بكرسي أو زبون؟ بل كيف يميز الريال، من الأربعة قروش، والنصف قرش، وهو أعمى؟ هذه كلها أسرار أو فرضيات، وإن كان الجميع يرون كما أرى، أنه رجل كفيف، لكنه يتميز مثل (سعدون) و(حميد) بخفة دم، ورشاقة، ودماثة خلق، قلما تجتمع في واحد، من الذين يرتادون سوق العياشة، كل صباح!
وفي الصباح الباكر، غير ما ذكرناه، سوف يمر من أمامك، إذا كنت من مدمني سوق العياشة مثلي، من يحمل تيساً صغيراً على كتفيه، ويجر عنزاً، منادياً على ما يحمل ومعدداً مزاياه، ومعلناً في الوقت نفسه، عن المزيد من الأغنام، الموجودة في حظيرته، وكان هناك من يوقفه، ليعاين البضاعة، ثم يعيد الكبيرة ليده، والصغيرة على كتفه، دون أن تختل عمامته (الغباني)، الملفوفة على رأسه، وفي نفس الوقت، هناك رجل طويل، يخترق السوق، من شماله إلى جنوبه، محرجاً بصوت جهوري، على (حمار إبليس!) وحمار إبليس، هذا كان سيكلاً أو دراجة عادية، في غاية من الأناقة والرشاقة، مزينة بالعديد من الإكسسوارات واللمبات والأجراس، وكان راكبها رجلاً فاحماً، وطويلاً، وممصوص العود، لكن خفة دمه، كانت تجعل كافة رواد السوق، يصرفون النظر عن بضاعته، ويتجمعون حوله، لتبادل الحديث والنكات معه، حول الأحوال، وحمير إبليس الأخرى، الموجودة في حظيرته!
إن المساحة الضيقة للسوق، وأنا أنظر له من بعيد، لا تزيد عن مساحة فيلا كبيرة، لكننا كنا نراه، عالماً قائماً بذاته، يمور بكافة الوجوه الاجتماعية، أو النماذج البشرية، وبعضها الآخر، ينفع لتأدية دور في أحد المسارح الكوميدية، والسوق كان يضم كل شيء، لكن عنايته بالتخصص، لا تخطئها العين، ففيه من تخصص، في بيع السمن، أو الأرز، أو السجاير، أو الأجبان، وفيه من يقوم بالحلاقة، وخلع الأسنان، والطهور معاً، وهناك مصلح (الأتاريك والدوافير) وفي نهايته، بعد باب المصري، هناك من يقوم بترميم الصحون والأباريق، وكافة الأواني الصينية، وبجانبه المتخصص، في صنع الأقفاص. وفي الوسط هناك من يبحثون عن عمل، يجلسون أو يقفون من بعد صلاة الفجر، وحتى طلوع الشمس، بجانب مقهى (حريقة) لعل أحداً يستعين بهم، في البناء والتعمير أو التحميل. لقد انقرض السوق، وما حوله من الأسواق، التي كانت متخصصة في الطباخة، التمور، إصلاح الأحذية، بيع الحبوب، وأصبح الدكان الواحد الآن، يضم كل شيء، مع استثناء من يحرجون على الأغنام، وحمار إبليس، هؤلاء باتت تقوم بدورهم، إمبراطورية إعلامية ضخمة، تنطلق من السوبر ماركت، إلى كافة أرجاء العالم. إنني أسترجع الآن واقع السوق، الذي انقرض، وكان صرة المدينة، ويا ليتني أستطيع التجول فيه، والتمعن في كافة تفاصيله، من جديد، لكن هل يعيد التاريخ نفسه؟ هل تتكرر الوقائع؟
عندما أتأمل شارع أو سوق العياشة، بعد إزالته لتوسعة المسجد النبوي الشريف، أجد أن ذلك الشارع الترابي، الذي لا يزيد طوله، عن نصف كم، كان عالماً متكاملاً، فيه من الأشياء الغريبة والعجيبة الكثير، وسوف أرصد هنا، بعض تلك الظواهر، التي تثير الضحك الآن، بينما كانت في ذلك الوقت، من صميم حياة الناس، وأبدأ من دكان (أبو سلامة) للحلاقة، وكان هذا الرجل حلاقاً ماهراً، يقوم إلى جانب الحلاقة، بطهارة الصبيان، وخلع أو مداواة الأسنان! وكثيراً ما رأيت، من يخرج من دكانه، متطوحاً من شدة الألم، وكانت الغالبية من هؤلاء الضحايا، من الفلاحين، وأبناء البادية، فلا بنج ولا أجهزة حديثة، مجرد كُلابة، تدخل إلى الفم، ولا تخرج منه، إلا بالضرس، أو السن، أما العلاج، فلم يكن يزيد عن حشو مكان السن المخلوع بالملح!
ولم يكن ينافس (أبو سلامة) في الحلاقة، وطهارة الصبيان، وخلع الأسنان، سوى (الخسته) ودكانه في نهاية سوق العياشة، ولم أرَ الخستة، رأي العين، وإن كنت سمعت بمنجزاته، وكان في السوق أخ آخر، لـ(أبوسلامة) يقوم بنفس المهام. هذا الرجل، أصبحت أتحاشى النظر إليه، أو المرور بجانب دكانه، عندما قال لي والدي، إنه هو الذي طهرني!
وغير بعيد، رجل ذو همة عالية يجلس يومياً، من بعد العصر وحتى العشاء، وأمامه كومة عالية من النوى المطحون، والذي خُمر في الماء لعدة أيام قبل طحنه، وهو يباع بعد طحنه بـ(الصاع) أو (المد) ويستخدم علفاً للغنم والأبقار، ويقال إن تأثيره أقوى من تأثير البرسيم والأعلاف الأخرى، وهذا البائع يحصل على النوى، من محلات بيع الملح والحبوب، المنتشرة أمام مسجد الغمامة والخالدية (كان يطلق هذا الاسم على مركز الشرطة) وهذه المحلات تتحصل على النوى من الأهالي، الذين يقدمونه لهم، ويأخذون مقابله ملحاً أو حبوباً! أما بائع النوى المطحون فإنه يكتفي بجلسته اليومية، ويتفرغ صباحاً لتخمير النوى وطحنه. هل هناك الآن من يبيع النوى المطحون؟
وإذا أردت شراء (فول نابت) فلن تجده، سوى في سوق العياشة، فهناك العديد من الأشخاص الذين يجلسون من الصباح، أمامهم صحون كبيرة، مليئة بالفول النابت، والذي يستخدم، في ذلك الوقت، كوجبة خفيفة، أو شربة، وكان يوصف، لمن يعانون، من بعض المشاكل الصحية، وهو يحضر مثلما تحضر الحلبة، وكان الإقبال عليه شائعاً وسط الأسر التي تنحدر من جذور مصرية أو يمنية خصوصاً، هل هناك من يأكل، أو يعرف الفول النابت، الآن؟!
حتى الرجال والنساء، كان هناك من يحرج عليهم، في ذلك السوق، قبل إلغاء الرق، وكان من يقوم بهذه المهمة، رجل طبعه ساكت، وهادئ، يبحث عن زبائنه بعناية، والمؤلم أن الرقيق كان يمشي بجانب دلاله وكأنهما صديقان! لاجلاداً وضحية، دون أن تراوده نفسه بالهرب!
وسوف أبقى مع عجائب هذا السوق، وهي كثيرة ومتنوعة، لأختم بحيز واسع، كان يشكل سوقاً نسائية، تباع فيه الدواجن والبيض والأقفاص والمراوح والمكانس، ويتم فيه في الوقت نفسه الاتفاق على علاج المرضى، في منازل البائعات، فمنهن المتخصصة في الكي، ومنهن المتخصصة في اللوز، ومنهن المتخصصة في أمور نسائية، أبرزها إحياء الأفراح، وحياكة الملابس!
وغير بعيد عن هؤلاء النسوة، هناك محل كامل، مخصص لبيع الخل، وفي هذا المحل، يتم تحضير الخل البلدي وبيعه، وهو محضر بعدة طرق، ولا أعتقد أن مثل هذا الخل، موجود الآن، وأشهره، الخل (الطوري)! كان سوق العياشة علامة من علامات المدينة المنورة.