مجلة شهرية - العدد (579)  | ديسمبر 2024 م- جمادى الثانية 1446 هـ

دور الحب في المدونة الفلسفية الإنسانية

الحب لم ينل الاهتمام الكافي من المدونة الفلسفية الإنسانية، مما يثير الدهشة والعجب، فموضوع يحتلّ دوراً بهذه الأهميّة في الحياة الإنسانيّة، لم ينظر إليه الفلاسفة بعين الاعتبار، لذا قامت الباحثتان الفرنسيتان ماري لومنييه وأود لانسولان بدراسة تلك العلاقة الشائكة بين الفلاسفة والحب، على مدى التاريخ الإنساني الحديث انطلاقاً من سقراط وفلاسفة اليونان القدامى ووصولاً إلى فلاسفة الوجوديين في كتاب (الفلاسفة والحب، الحب من سقراط إلى سيمون دي بوفوار) الذي ترجمته المترجمة المصرية دينا مندور وصدر عن (دار التنوير).
تعرض الكتاب لعلاقة الفلاسفة بالحب من زاويتين أساسيتين: الزاوية الأولى هي العلاقة الفلسفية مع هذه العاطفة الإنسانية وتحديد رؤية وتعريف الفلاسفة المعنيين بها: أما الزاوية الثانية فهي زاوية كشف الغطاء عن الحياة العاطفية لكبار الفلاسفة والمفكرين في الحقب السابقة، وحيث كان هذا الجانب من سيرة حياتهم مخفياً إلى درجة كبيرة.
قسمت الكاتبتان الكتاب إلى عدة فصول منها: (أفلاطون: نشيد للحب) (لوكريس: تحدي الحب) و(جان جاك روسو: حياة الرومانسية وموتها) و(إيمانويل كانط: صحراء الحب) و(آرتور شوبنهاور: الحب المغتال) و(سورين كيركيغارد: الحب المطلق)، و(فريديريك نيتشه: الحب على غرار ضربات المطارق) و(مارتن هايدغر وحنّة أرنت: خفقات أجنحة الغرائز)، ثم ينتهي بفصل يحمل عنوان (جان بول سارتر وسيمون دوبوفوار: الحب في إطار الحرية).
يُفتتح الكتاب بالحديث عن كتاب ظل لقرون عديدة يرسم معالم الرؤية الغربيّة للحب، ويعتبر مرجعاً لأيّ تفكير في هذا الجانب، إنه كتاب (المأدبة) أفلاطون. وبناء عليه قامت الباحثتان برصد الحكايات الساخرة التي أوردها أفلاطون حول سقراط وزوجتيه، ونظرة المسرحي أرستوفان إلى الرغبة، وكيف سعى في أعماله إلى التعريف اللاجنسيّ لعلاقات الحب الأفلاطوني.
ثمة اتفاق عام يتم تداوله عبر العصور وهو أن الحب والفلسفة لا يوجد بينهما علاقة جيدة، رغم أن الحب شرط للسعادة بالنسبة للسواد الأعظم من البشر، بل ويعتبر مادة شيقة للكتابات الأدبية، لكن الفلاسفة يتعاطون معه بقدر كبير من التعقل. وبما أن الفلاسفة يحملون همّ تحرير الإنسان من كل أشكال الاغتراب العقلي، فإنه يمكن فهم نظرهم إلى هذه العاطفة الجامحة بكثير من التروي، بل التشكك، مما أدى إلى النظر إلى عاطفة الحب بقدر كبير من الاستخفاف، وكأنها لا تستحق التفكير والتأمل، وبالتالي التفلسف، وكأن الفلاسفة تركوا هذا الموضوع الحيوي للشعراء والروائيين، أو ربما لعلماء الاجتماع.
إن الكثير من الفلاسفة عاشوا في الوحدة والانفراد، بل التوحد منذ الفلاسفة اليونانيين القدامى، سقراط وأفلاطون وأرسطو، الفلاسفة (المؤسسون) كما يطلق عليهم، مما جعلهم لا يتعاطون مع الحب الذي هو رديف التواصل الاجتماعي والصخب والعاطفة المشوبة بكثير من التشكك، وربما هذا يبرر أنهم قاموا بتصوير (كوبيدون)، ملاك الحب، بصورة (صبي بريء)، ولكنه يخبئ تحت جناحيه (سهماً قاتلاً).
إن الحب ظاهرة معقّدة في تاريخ البشر، خاصة في رؤية الفلاسفة لها أو عيشها. لقد شكّل الحب نوعاً من (العودة إلى الخلود) بالنسبة لأفلاطون، ولكنه لم يكن سوى (وهم قاتل) بالنسبة للوكريس و(تحدٍ لحياة الإنسان كاملة) بالنسبة لكيركيغارد ونوع من الدهاء الذي تمارسه الغريزة الجنسية كما رآه شوبنهاور. أما بالنسبة لجان جاك روسو، مخترع الرومانسية، فقد كانت عاطفة الحب مصدر تأثير كبير، ليس على حياة الفلاسفة فحسب، وإنما على حياتهم كلها.
الحُبّ ما هو إلا شعور بالانجذاب والإعجاب نحو شخص ما، أو شيء ما، وقد ينظر للحب على أنه كيمياء متبادلة بين اثنين، وهناك اعتقاد سائد يفيد بأن أصحاب العقول الكبيرة يعانون من قلوب محطمة على الدوام، وكلما زاد العقل لمعاناً أصبح الفشل أكثر صعوبة.
فلماذا لا تدخل الفلسفة الحب، فتخضعه هو الآخر إلى مقاييسها، فتوجهه إلى وجهتها، ليكون رائداً لعواطف الإنسان المدروسة سلفاً ولوجدانه المليء بالأحاسيس المنفعلة والعواطف المتأججة؟.
تبرز المؤلفتان المقارنات بين الفكر والحياة الشخصية عند جان جاك روسو، في مطابقة أفكاره بأفكار أخلاقيّي القرن السابع عشر، وآرائه في سلبيّات الممارسة الجنسية من دون عاطفة، خلافاً لما كشفته اعترافات خادمته تيريز لافاسو التي قالت إنّه (يُملي على البشرية أخلاقاً لا يقوم هو نفسه بتطبيق شيء منها). وبعكس روسو، كان (عفيف الفلسفة وشريفها)، إيمانويل كانط، يصوغ حياته بلا نساء وعلاقات شرعية أو غير شرعية، لتتطابق أفكاره مع حياته في مفهوم الجنس، حيث من خلاله (يهبط الإنسان لما هو أدنى من مرتبة الحيوانات)، وتستند المؤلّفتان في ذلك إلى بيبلوغرافيا قصيرة عن كانط كتبها شاب يدعى بوروسكي. أما عن شوبنهاور، فقد قالت المؤلفتان إننا (إذا أردنا تلخيص الفكر المتّقد لشوبنهاور حول الحب، لوجدناه عبارة عن سلسلة من الشقلبات الساخرة التي يؤديها اثنان من الحمقى)، إذ إنه (لم يُخلِص إلّا للعزوبية والجيش الألماني). هذا اختصار فصل (مايسترو التشاؤم: شوبنهاور)، الذي لخّص فكره عن الحب بنصيحة ألقاها على أستاذ فلسفة يدعى بول أرموند شالومل لاكور: (اجعل الحب وسيلة لتمرير الوقت، إذ إن تناسل النوع صناعة لا تهدف إلّا إلى استمرارية الإنتاج).
أما عن سورين كيركيغارد فقد أوردت المؤلفتان حكاية غرائبيّة عنه، إذ تركَ حبيبته ريجينا ابنة مستشار الدولة أولسن، ذات الأربعة عشر عاماً، بعد أن أمضى ثلاث سنوات يتقرّب منها، وانتهت بخطبتها له. دوّن كيركيغارد في مذكراته في اليوم التالي للخطوبة: (أعرف أنني ارتكبت خطأً). بعد أحد عشر شهراً فقط، أعاد الفيلسوف الدنماركي إليها خاتم الخطوبة، فبعث له أخوه الأكبر: (ها قد خسرت)، فردّ بعد سنوات طويلة: (ومع هذا فإنني إن كنت قد أصبحت شيئاً، فتلك الخطوة هي ما أهلّني إلى ذلك).
وعند حديثهما عن نيتشه يوردان حكاية حدثت في مدينة سان بطرسبرغ، فقد عاشت فتاة في الثامنة عشرة من عمرها تُدعى لو. كانت تغوي قسّاً اسمه جيلو أثناء تعليمها الفلسفة واللاهوت. وبعد انتقالها إلى جنوة، أوقعت بالناقد بول ري، في تلك الأيام، وبعد ترحال طويل للبحث عن أماكن أكثر مواءمة لصحته العليلة، التقى فريديرك نيتشه دعوة لزيارة جنوة. هناك، التقى بـ(لو)، فكتب: (أنا متعطش إلى هذا النوع من البشر، بإمكاني مواجهة زواج من سنتين)، إلّا أنّ خطّته لم تنجح. بعدها، تزوّجت من المستشرق فريدرك كارل أندرياس، لتترك الألمانيّ الأكثر وحدة، أو كما قال عنه ستيفان تسفايغ (لقد كانت تراجيديا نيتشة صحراء من الوحدة).
ثم تكشف المؤلفتان عن علاقة الفيلسوف هايدجر بالحب، فخطاباته المنشورة عام 2007، والتي تكشف أن صاحب (الكينونة والزمان) خاض في علاقات مع العشرات من طالباته، إضافة إلى حنّة أرندت، إلا أن الثابت الوحيد كان زوجته ألفريد. في عام 2005، نُشرت مراسلات هايدغر وزوجته ألفريد التي يملك حقوقها الابن الثاني لصاحب (دروب موصدة)، الذي هو في الحقيقة ابن طبيب صديق لوالدته منذ الطفولة يدعى فريدل كايسر. لم يؤثر ذلك على عاطفة هايدغر تجاه الطفل حينها. كانا متفهمين للأساس الوحيد المتفق عليه بينهما، الحفاظ على الزواج.
كما أن المؤلّفتين عند حديثهما عما حديث في علاقة جان بول سارتر وسيمون دو بوفوار تحيلان الأمر إلى فلسفة الفرنسي شارل فورييه (1772 - 1837) الذي اقترح (عصياناً تاماً للجنس البشري ضدّ كل التشريعات التي تتطلّب منه هذا الإخلاص العاطفيّ السرمديّ والذي يفرض الزواج قانونه)، حيث قام الاتفاق بين سارتر ودو بوفوار على حرية العلاقات بناء على هذه الفلسفة لفورييه.
بعد قراءة الكتاب يتكشف لنا (جانباً دونجوانياً) كبيراً لدى جان بول سارتر، (غياب) شبه كامل لأية غرائز(حسية) لدى إيمانويل كانط وميل فريديريك نيتشه نحو الفتيات الشابات و(تأليف) مارتن هايدغر لـ(أشعار رديئة) موجهة للفيلسوفة (حنّة أرنت) حيث كانا قد تقاسما الحياة المشتركة لعدة سنوات وتبادلا عشرات الرسائل بعد هجرة حنّة إلى فرنسا ومنها إلى الولايات المتحدة الأميركية.
هكذا يبدو هناك تباين كبير في سلوك الفلاسفة أمام مسألة الحب بين (الاندفاع) و(القلق) و(القسوة) و(الحكمة) الباردة وحساب الأمور والسيطرة على النفس، كما تبين بعض الصفات التي تستخدمها المؤلفتان في توصيف علاقة الفلاسفة بالحب.

ذو صلة