هل يمكنك التأمل في زهرة فترى فيها محاسن الوجود، وأن تشاهد المحيطات الفسيحة في قطرة؟ وهل يغمرك شعور بـ(الامتلاء) عندما تحتفي بقليل الطعام، ومفردات الأشياء، وبالمسافات بينها؟ وهل (تحب الانفتاح على الفراغ) في عوالم العمارة والتصاميم الداخلية أم تأخذك (الرهبة منه) فتسعى إلى ملئه بمفردات وتفاصيل لست في حاجة إليها؟ هل وصلتك مقولة: (انزع شيئاً واحداً عنك، تُفسح المجال لأخرى كي تتألق)؟ إذن دعنا نطوف في عجالة لنجيب عن هذه الأسئلة، وغيرها، عبر الوقوف على تجليات هذا الأمر في العمارة، وفي الحياة اليومية والعامة. ففي البيوت التي تحتوي كثيراً من المفردات، لا يتم تمييز أي شيء عن الآخر، ولكن بالتركيز على الفضاء الخالي وتوسيعه، فإن الأشياء الموجودة فيه وحوله ستنبض بالحياة، وتجذب إليها الأنظار. فذلك الفضاء ليس (فراغاً موحشاً)، بل (وعاء) يحتضن الأشياء وتبرز عبره، فنتأملها، ليصير لها معنى. كما يعطي عدداً لا متناهياً من الإمكانات الواعدة، مثل الوعد الذي ينتظر الوفاء به.
إن المسألة تكمن ليس حول وجود كثير من الأشياء، ولكن حول عدم وجود ما يكفي من الوعاء الذي يحتويها. إنه مفهوم جمالي، يكشف عن كيفية النظر إلى معمارنا العصري. ولقد تبنى مبدأ (الأقل هو الأكثر) المعماري الشهير (لودفيغ ميس فان دير روه) Ludwig Mies van der Rohe) 1969 - 1886) أحد أشهر معماري القرن العشرين. حيث بلور مدرسة للعمارة الحديثة اشتهرت بالبساطة والجمال. وتعد من أبرز مآثر القرن العشرين في فترة ظهرت فيها النظريات الحديثة إبان الحربين العالميتين. وأقام أول مبنى ذي إطار من الفولاذ عام 1927م في معرض فيركبوند الذي أداره في شتوتجارت بألمانيا. وبعد عامين بنى مقصورته الألمانية الشهيرة في معرض دولي في برشلونة بإسبانيا، والتي اشتملت على جدران فاصلة من العقيق اليماني الأسود وسقف من الألواح المتأرجحة، وجدران من الحجر الجيري.
كان المبنى يحيط بفضاء بشكل تجريدي من خلال عناصر الجدران غير المتناسقة، التي امتدت فيما وراء جسم المبنى. وفي عام 1930 بنى (دار توجندات) في (برنو) (جمهورية تشيكيا الآن)، حيث طبق فيها مبدأ التكوين التجريدي على المعمار المحلي.
وكما أسس لمدرسة (الباوهاوس) العالمية وأصبح مديراً لها عام 1930. وتشتهر بنظامها التدريسي المتميز الجامع بين الفن والتكنولوجيا. ومع إغلاق المدرسة بعد نحو ثلاث سنوات كان عليه الانتقال إلى شيكاغو حيث استقر ومارس التعليم والتصميم المعماري. وقد عرض عليه منصب رئيس القسم المعماري فوافق بشرط تكريس برنامجه الأكاديمي الذي طوره في ألمانيا، ومن ثم في نيويورك. وقد عرفت عمارته (بالمنطقية التي تستند إلى قواعد وأصول علمية واضحة وصريحة من خلال اعتماد الأشكال الناتجة على طبيعة مواد الإنشاء المستعملة). وفي عام 1939م بدأ في تخطيط حرم جديد لمعهد إلينوى، فترك الهياكل الصلبة المتناسقة للمباني مكشوفة، ومزج بينها وبين رُقع واسعة من الزجاج وأسطح من القرميد جيد الترتيب. ويعد مبنى سيجرام في نيويورك الذي اشترك في تصميمه مع (فيليب جونسون)، واحداً من أكثر المباني إثارة للإعجاب، ويظهر هذا المبنى حبه للمواد الرقيقة والأشكال المتسقة التي كان يؤمن بإمكان استخدامها في أي نوع من المباني. كما ترك بصماته من خلال مجموعة من المشاريع أبرزها: المتحف القومي برلين، ومجموعات من المباني المكتبية والتجارية.
(بيت فارنسورث):أيقونته المتألقة وتحفته المعمارية
كان للمعماري (فان ديروه) فلسفته الخاصة في التصميم والعمارة والتصميم بلورها في أقواله: (إن العمارة قصيدة أبياتها حديد وزجاج)، كما قال: (المقلد يسرق مرتين مرة من نفسه ومرة من غيره) وله مقولة شهيرة هي: (القليل كثير less is more). ولعل جوهرة البساطة (Minimalism) في أنقى صورها، والتصميم الفني الرائع الملهم لأعمال أخرى. هو (بيت فارنسورث) (Farnsworth House). وصممه وبناه (فان دروه) ما بين 1945 - 1951 واعتبر معلماً تاريخياً وطنياً (عام 2006)، وبيع (عام 2003) بسبعة ملايين ونصف المليون دولار، وضُم إلى السجل الوطني للأماكن التاريخية (عام 2004). وحالياً يستخدم كمتحف تاريخي للحفاظ على معالم إلينوي. هو كمال أفلاطوني/ صوفي تم وضعه بترتيب لطيف في الطبيعة العفوية في بلانو، إلينوي. وهي منطقة تقع خارج شيكاغو في موقع منعزل مليء بالأشجار مساحتها عشرة أفدنة بجوار نهر فوكس جنوباً. ونفذه بتكليف من الدكتورة (إديث فارنسورث)، لتمضية عطلة نهاية الأسبوع، ولرغبتها في مكان يمكنها من التمتع بالطبيعة وبهواياتها مثل العزف على العود، وترجمة الشعر.
شيد البيت على ارتفاع عال تفادياً لفيضان النهر. وهو ذو طابق زجاجي شفاف واحد يتكون من 8 أعمدة من الفولاذ التي تدعم السقف والأرض. وفيما بين هذه الأعمدة توجد نوافذ محاطة بالمنزل، وتنفتح الغرف على الغابات المحيطة بها. وتوفر النوافذ جمال فكر هذا المعماري التي تعبر عن (التوحد) مع المحيط الهادئ. كانت فكرته عن التظليل والخصوصية من خلال الأشجار الكثيرة التي كانت موجودة بهذا الموقع. وأوضح (ميس) مفهومه في مقابلة قائلاً: (الطبيعة أيضاً يجب أن تحيا حياتها الخاصة. يجب أن نحذر من تعطيلها بلون بيوتنا وتجهيزاتنا الداخلية. حتى الآن يجب علينا محاولة جلب الطبيعة، والمنازل، والبشر معاً في وحدة أعلى).
والبيوت (سكن، يرتقي إليها) قدر الإمكان فرفع المنزل خمسة أقدام وثلاث بوصات عن الأرض، وتجد درجات السلم الواسعة ترتفع ببطء عن الأرض بحيث لا تحتاج لأي جهد للصعود، كما لو كانت تطفو إلى المدخل. تاركاً فقط أعمدة الفولاذ لتلاقي الأرض ولتمدد الخضرة أسفل المنزل. وحتى الأعمدة الموجودة بين زجاج النوافذ توفر الدعم الهيكلي لبلاط الأرضية. وفي جانب من الجدران في وسط المنزل تجد الحمامات (الوحيدة المحجوبة عن الأنظار)، وجاء تصميم الأرضية مفتوح بالكامل كتعبير عن التبسيط في أقصى صوره. وكان هذا التألق في تصميمه الفني الرائع مصدراً لإلهام أعمال أخرى، مثل بيت زجاج (فيليب جونسون). وكما ذكر (ميس) على إنجازه هذا: (إذا رأيت الطبيعة من خلال الجدران الزجاجية لمنزل (فارنسورث)، فستكتسب دلالة أكثر عمقاً مما لو نظرت إليها من الخارج. ولو نظرت إليه من الخارج وسط الطبيعة، فسيصبح قطعة صغيرة جميلة وسط صورة أكبر، جرم صغير وسط عالم أكبر).
في حياتنا اليومية نعبئ مخازننا ومبرداتنا بما يكفي لشهور أو سنوات. ونملأ أطباق مائدتنا اليومية بالكثير من الأطعمة لنشعر (بالوفرة). وهذا الشعور بالشبع/ التخمة/ الامتلاء يُفقد قيمة الشيء ولذته. وهل فكرت يوماً وبعد عدة أشهر من الانتظار لتجد مقعداً بالمطعم في تناول طبق (معكرونة تورتيلليني Tortellini) يحتوي على ست حبات معكرونة فقط لكنها ذات جودة ومذاق راق؟. ثم عقب الطعام.. هل فكرت في أن تغترف غرفة من ماء أو شراب دون أن تملأ معدتك بالمشروبات المتنوعة الألوان والطعوم؟ وفي دراسة أعدها (2018) مركز البحوث الطبية الحيوية بنينجتون في لويزيانا الأمريكية استنتجت أنه: (كلما أسرع الجسم في استقلاب الأوكسجين والحصول على الطاقة من خلال استهلاك الكثير من السعرات الحرارية تقلصت فترة حياة هذا الجسم أكثر، إذ من شأن ذلك أن يُتلف الحمض النووي والدهون والبروتينات، وبالتالي يسرع الشيخوخة، والعكس صحيح). وقديماً ذهب (الأصمعي) إلى أهمية مبدأ (القلة كثرة) فقال: (راحة الجسم في قلة الطعام، وراحة النفس في قلّة الآثام، وراحة القلب في قلة الاهتمام، وراحة اللسان في قلة الكلام).
في قلة الكلام والصمت ثمة إجراءات بسيطة، مثل التوقف أثناء النهار للتفكير والتنفس والصمت، إذ كلما قلت الكلمات دلت على مرادها وقيل في المثل: (ما قل ودل)، والبلاغة: (جوامع الكلم، وموجز الحديث، وثراء المعاني، وصدق التعبير، وقوة الإحساس، وموهبة الأداء). وهي خصلة تجتمع للكلام، وطريقة النطق به، وموضوعه وفحواه، وفترات الصمت في محطاته تجعل الكلمات أكثر بروزاً وتألقاً. ونحتاج، دورياً، إلى وقت هادئ يستقطع من حياتنا السريعة لتصبح لها معنى. فاستراحة الشاي في يوم مزدحم في مكان هادئ، يجعل المرء ينغمس في صفاء (الراحة) قبل العودة إلى حياته المزدحمة. وبالمثل (خلوة) تجدد وترمم وتطهر النفوس، وتحليها بالفضائل، وذلك دأب الكثيرين، و(صيام) يُخلي البدن من السموم، ويحلي النفس بالتقوي، ويجمل البدن بالعافية، وصوماً عن الدنيا، وفضول الكلام. أما في أوقات الفراغ فحدد أهم الأنشطة والهوايات القليلة التي تمنحك أكبر قدر من الراحة أثناء الإجازة، وحاول أن تواظب على ممارستها. يمكنك بهذه الطريقة أن تحصل على أكبر كم من الرضا والطمأنينة في من الوقت المحدد والمتاح للاستجمام.
مبدأ (باريتو): تجليات في الحياة
نحن نحشر منازلنا بالأثاث فلا نستطيع التحرك بحرية وانطلاق، ونملأ خزائن ملابسنا صيف شتاء، فلا نستعملها كلها، وتتبدل (مودتها). فهل انتبهتم أنكم تقضون 80 % من وقتكم داخل منزلكم، مستغلين 20 % فقط من مساحته؟. وهل تعلمون أنكم تستخدمون 20 % من أدوات المنزل، في 80 % من الأعمال المنزلية؟، وأن 80 % من المقتنيات لا تستخدم إلا للديكور ولا يستعمل منها سوى 20 % فقط. وهل لاحظتم من قبل أنكم تفضلون ارتداء 20 %فقط من ملابسكم المتراكمة، خلال 80 %من وقتكم، بينما لا تقومون باستخدام بقية الملابس (80 % منها) إلا بمعدل 20 %. وهل تدركون أنكم تستخدمون 20 % من الأوراق والملفات، التي يكتظ بهــا مكتبكم، بينما لا تستخدم 80 % من الأوراق والملفات المتبقية إلا بمعدل 20 % (سلة المهملات هي الحل للتخلص من الأوراق التي تستنزف الوقت). كما تقضون 80 % من وقت استعمالك لهاتفك الذكي، على 20 % فقط من تطبيقاته؟.
إنه مبدأ عالم الاقتصاد الإيطالي (فيلفريدو باريتو) أو قاعدة 20/ 80 التي أبان عنها عام 1899. حيث إن 20 % من أفعالنا، تؤدي إلى 80 % من نتائجنا، بينما 80 % من أفعالنا، تؤدي إلى 20 % فقط من النتائج. فهناك:20 % من العملاء هم السبب الرئيس في 80 % مــــن المبيعــــات، و20 % من الموظفين هم السبب الأساس في 80 % من الإنتاجية، ويحقق 20 % من مندوبي مبيعات الشركة، نحو 80 % من مبيعاتها تقريباً، و 80 % من الأرباح تأتي من 20 % من المنتجات. بينما 80 % من مجمل الاجتماعات تذهب في الكلام أما 20 % فتمثل النتائج مما يحتم ضرورة تقليص وقت الكلام ومنح الوقت الأكثر للاستنتاجات والقرارات والتوصيات. فالوقت المثمر، وإن كان قليلاً، فإنه يأتي بأوفر نتائج بينما الوقت الكثير العشوائي لا يحقق إلا أقل النتائج. وفي العموم، يتحكم ويستهلك 80 % من سكان العالم 80 % من موارده، بينما يبقى 80 % لا يحصلون إلا على 20 % فقط من تلك الموارد. وليس من الضروري أن تكون النسب دائماً 20/ 80، فقد تكون 20/ 70 أو حتى 30/ 80، أو 25/ 75، أو غير ذلك. المهم أن ترى: أي أعمالك يؤدي إلى أكبر النتائج؟ وتبدأ به وتركز عليه، وتعطيه الأولوية، وتقدمه على غيره من الأعمال. كذلك نقابل كثيراً من الناس، فوطد علاقاتك مع 20 % من الشخصيات المهمة فقط. ولا تستنزف نفسك مع الشخصيات غير المهمة في حياتك والتي تقع ضمن فئة 80 %. وستقوم بهذا التمييز بين الشخصيات داخل إطار أشمل وأعم لأهدافك الشخصية، وتطلعاتك المستقبلية، وطباعك النفسية.
لذا فإن العبرة في (الكيف الفاعل) التي تمتلك مقومات النجاح والعمل المثمر. وليست في (الكم الكاثر الواهن) غير المثمر: والخلاصة: إننا مطالبون بتقليص الهدر في جهودنا ومواردنا وعمارتنا وطعامنا وأوقاتنا وكلامنا. إنه مع امتلاك عدد أقل من الأشياء هناك مجال كبير للتركيز على جمالها والانتفاع بفوائدها دون أن يزاحمها غيرها ولا يتبقى من الوقت الكافي للاستمتاع بها كلها. ولا تنس دوماً أن (قليلاً تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه)، و(خير الأعمال أدومها وإن قل).