على عكس ما هو معروف في الثقافة العربية الحالية من شيوع القطيعة المعرفية بين الشعر والعلم. والتدابر الحاد بين الفصيلين، تظهر في الأفق ثمة علاقات قريبة جداً بين عالم الخيال والفن من جهة، وبين عالم المادة والتجربة المعملية من جهة أخرى، فهناك زواج متين العرى بين الطرفين، زواج تنتج عنه أفكار ونظريات وأشكال ومضامين جديدة تتطور بالفكر الإنساني إلى مراتب أعلى. والدليل على اتساق جزئيات هذه النظرية، وتناغم عناصرها أنها تنطبق على النظريات والقوانين الموجودة في العلوم الطبيعية والتجريبية والإنسانية على حد سواء، كما تنطبق تماماً على الأشكال والمضامين الأدبية في المستقبل.
العلم تجربة روحية
فوحدة هذه النظرية واتساقها ينبعان من وحدة العقل الإنساني، فنحن نجد معظم الأدباء المجيدين والعباقرة يستخدمون القوانين العلمية في خلق العمل الفني والأدبي سواءً بوعي أو لا، لأنها تفيدهم في تنظيم فكرهم وتشكيل وعيهم وفنهم. ومن السهل -كما يحكي الناقد الدكتور نبيل راغب عميد معهد التذوق الفني بالقاهرة سابقاً- أن نتتبع في الأعمال الأدبية الجيدة القوانين العلمية من أمثال قوانين الجاذبية عند نيوتن، والقوة المقاومة، ونظرية النسبية عند أينشتاين، والتفاعل الكيميائي، والتطور البيولوجي، وغير ذلك من إنجازات الفيزياء والرياضيات والكيمياء والبيولوجيا، حتى علوم الاقتصاد والجغرافيا والتاريخ استقى منها الأدب مضامينه وأطره العامة. فالعلم تجربة روحية، أكدتها الحقائق والنظريات في العصر الحديث.
الشعر والدبابات
ولعل هذا التزاوج بين العلم والأدب هو الذي دفع العملاق عباس محمود العقاد لأن يكتب مقالاً طويلاً بعنوان (الشِّعر والدبابات) دعا فيه إلى فتح آفاق المعرفة أمام حركة الأدب، باعتماد نوافذ جديدة أساسها العلم، يقول فيه العقاد: (وسّعوا أفق الحياة ولا تضيقوه، وأنتم على ثقة من صواب ما تعملون، وجدوى ما تعملون. أما خذوا هذا ودعوا ذلك، فهو كلام كسالى مهزولين، لا يصلحون للعلم ولا للأدب).
بل، الأعجب أن عباس العقاد دُعيَ في الأربعينات إلى إلقاء محاضرة في الموسم الثقافي بكلية الآداب بجامعة فؤاد الأول (القاهرة) الآن، كان موضوعها (التصوف ونظرية النسبية بين الإمام الغزالي وأينشتاين).
المنهج العلمي والشعر
ويرى الدكتور طه حسين: أن للشعر صفات تعصمه من الموت القريب، لا نجدها في النثر، وتلك هي الدروع المتقنة التي نسميها الوزن والقافية والموسيقى والصور والمنهج العلمي. لذلك بدأ الإنسان منذ فجر التاريخ ينظم أفكاره وموضوعاته العلمية ورؤاه الفكرية والحياتية، وأحاسيسه بالشعر، وما يرجو له طول البقاء وسعة الانتشار من أمثال وعلوم ومهارات وحِكم وأغاني للمهد وطلاسم وتعاويذ وغيرها، ليسهل حفظها وفهمها في ذاكرة الناس. وقد أدى هذا لنشوء الشعر العلمي أو ما يطلق عليه العلوم الشعرية.
ابن سينا مثالاً
ومن أقدم نماذج العلم الشعري في التاريخ الإنساني وأشهرها على الإطلاق ألفية ابن سينا في حفظ الصحة، والتي مطلعها:
الطب حفظُ صحةٍ، بُرء مرض
من سببٍ في بدنٍ عنه عرض
وقد بلغت هذه الأرجوزة العلمية شأواً عظيماً حتى إن (جيرار دي كريمونا) الإسباني في القرن الثالث عشر الميلادي -وهو من أشهر ناقلي العلم العربي إلى الغرب، وزعيم الممهدين لعصر النهضة الأوربي- قد ترجم هذه القصيدة الرائعة إلى اللاتينية، فتداولها طلبة الطب في أوروبا حتى القرن السابع عشر، وكانوا يتبارون في حفظها ودراستها للنبوغ في المهنة، وتُرجمت أيضاً إلى الفرنسية والإنجليزية كإحدى نفائس تاريخ العلم، كما يذكر البروفيسور محمد يوسف حسن أستاذ الجيولوجيا بكلية العلوم جامعة القاهرة.
هذا، وقد سار على درب ابن سينا في العلم الشعري، أو في المزاوجة بين العلم والأدب، العالم إراسموس داروين، جد داروين صاحب نظرية النشوء والتطور الشهيرة.
معادلات جبرية شعرية
ويزخر تراثنا العربي بنماذج جمعت بين علو الصياغة الأدبية وقمة التفكير العلمي ودقته، ومن ذلك قول النابغة الذبياني، الذي صاغ معادلة جبرية يونانية قديمة ببراعة، فقال:
واحكم كحكم فتاة الحي إذ نظرت
إلى حمامٍ سراع وارد الثمدِ
قالت: ألا ليتما هذا الحمام لنا
إلى حمامتنا مع نصفه فقدِ
فحسبوه، فألفوه كما ذكرت
ستاً وستين لم تنقص ولم تزد
فكملت مئة فيها حمامتها
حسبة حقة في ذلك العدد
ومؤدى هذه الأبيات العلمية الجميلة، هو المعادلة: س+س+1=100
ومن الأمثلة العربية الإسلامية المستوحاة من الشعر العلمي لبديع الزمان الأسطرلابي القاهري من القرن الثاني عشر الميلادي، وكان رياضياً فلكياً على معرفة بعلم (الآثار العلوية) أو ما يسمى الآن علم المتيورولوجيا، قال يمدح الخليفة:
أهدي لمجلسك الشريف وإنما
أهدي له ما حزت من نعمائه
كالبحر يمطره السحاب وما له
منٌّ عليه لأنه من مائه
وقال في قصيدة رياضية غزلية أخرى، يستخدم فيها أسلوب المواربة بمصطلحات علم الجبر:
وذو هيئة يزهو بخال مهندس
أموت به في كل حين وأبعثُ
محيط بأوصاف الملاحة وجهه
كأن به إقليدس يتحدث
فعارضه خط استواء وخاله
به نقط والخد شكل مثلث
أبو العلاء يسبق علماء الفلك
ويدهش عالم البحار والفلك والجيولوجيا كثيراً عندما يقرأ فيعرف سبق (أبي العلاء المعري) للشاعر الأوروبي (تنيسون)، عندما قال في لزومياته قبل تنيسون بنحو تسعمئة عام، عندما افتخر بشعره العلمي المعبر عن البحر والصخر:
أجبلت الأبحُرُ في عصرنا
هذا كما أبحرت الأجبُلُ
ويقول أيضاً المعري في (سقط الزند):
ويُقالُ: إن البحر غاض، وإنها ستعود سيفاً لُجّة الرّجّافِ
حيث التفت بذكائه وحسه العلمي إلى ظواهر العلاقات بين الصخور والجبال والبحار، وتأثير ذلك على التصحر، وهو ما قال به تنيسون لكن بعد المعري بقرون! وللقارئ أن يحار ويسأل: هل قرأ تنيسون المعري، وأخذ عنه؟!
قصة جيولوجية طريفة
وهناك قصة جيولوجية طريفة في غرض اجتماعي، وعنوانها (زوجة جيولوجي) وهي لشاعرة أوروبية مجهولة من القرن التاسع عشر، قالتها في وداع زوجها، وهو يستعد للقيام برحلة بحث جيولوجية لاكتشاف النفط والغاز والمعادن، وهي من ترجمة الدكتور الجيولوجي محمد يوسف حسن، عضو مجمع اللغة العربية بالقاهرة، منها هذه الأبيات:
(وداعاً، وداعاً/ شريك حياتي، وزوجي الحبيب/ دعتك الجيولوجيا لبحثِ جديدٍ/ فلابد أن تستجيب/ فلا، لا تعد لي قبل اكتشاف مفيد/ لخام ثمين: فإما نحاس وإما حديد/ وإما شواهد نفط وغاز/ عرفتك تهوى الصخور الجميلة/ هواك لزهر الخميلة).
وهناك قصيدة ذاتية علمية، بعنوان (طلاّع الثنايا) برع فيها صاحبها، عندما مزج بين الخيال المجنح، وبين المنطق العلمي الصارم، فجاءت قصيدته عذبة ندية، بلا تكلف ولا تصنع، يقول فيها الشاعر البروفيسور محمد يوسف حسن:
قضيت شباب العمر درساً وشيبه
لحذقهما حتى ملكت النواصيا
فكنت جيولوجياً ثلاثين حجةً
وسبعاً دؤوباً لا يشق غباريا
وقد دان لي علم الصخور مسلماً
عناناً وفي الآداب كنت مجليا
دأبت أجوب الأرض أكشف خبأها
لنفع بلادي كي تحوز الأمانيا
الجبل المغناطيسي
ومن الشعراء المعاصرين من يبدو وكأنه اتخذ موقفاً مضاداً للعلم، لكننا إذا تفحصنا قصائدهم سنجدها علمية من أولها إلى آخرها، ففي قصيدة سيسيل داي لويس (الجبل المغناطيسي) يقول بعذوبة أداء ونغم ومنطق معاً:
(اجعل لبن الأم مبتسراً معقماً/ ولتعبأ مياه الراحة في عبوات بالكيلو جرامات/ اصنع من الحب شيئاً طبياً، واترك نبض الإبداع/ لكي يرتبط بإيقاع توقيت جرينتش/ احرس المخلوقات/ لتربية السوبرمان)
مناظرة الفحم والألماس
وهناك قصيدة بعنوان (الفحم والألماس) لشاعر أمريكي مجهول من القرن التاسع عشر، كتبها في غرض اجتماعي إنساني فلسفي، وفي حوار ممتع وشائق بين الفحم والألماس، يقرب العلم من الأدب، على لسان قطعة من الفحم وبلورة من الألماس، يقول فيها معبراً عن فائدة الإنسان من الفحم والألماس في حياته: (كسرةٌ من فحمة في موقد/ قد توارت في رماد لا يبين/ حظها في ركنها النسيان في الدار/ والإنكار والوضع المهين/ وعلى مقربة في الغرفة/ تزدهي الماسة في سلة/ بفراش من نديف ناصع/ تستوي فوقه كالملكة/ قالت الفحمة للماسة:/ لا تغالي في التعالي والصلف/ إن أهل العلم قالوا: أصلنا/ واحد مثل اللآلي والصدف/ صاحت الألماسة في الفحمة/ كذب القائل إنا أقرباء/ الزمي حدك يا سوداء إن/ الذي قالوا لإفك وهراء/ قد حباك الله ومضاً وسناً/ يخطف الأبصار أو يسبي العيون/ وحباني فوق هذا إن حميت/ شعاعاً يمنح الدفء الحنون)
العلم أم الأدب؟
وعندما ظهرت بوادر النهضة الأدبية في مصر خلال القرن التاسع عشر ومنتصف القرن العشرين، بفضل المسحة العلمية التجريبية، التي سادت الوسط الثقافي والأكاديمي، بفضل علماء البعثات العلمية المتجهة إلى أوروبا، والتي كان من أعلامها: محمود باشا الفلكي، وعلي مصطفى مشرفة، وعلي باشا إبراهيم، ومحمد يوسف حسن، وغيرهم، كثرت الكتابات التي تدعو إلى اتخاذ المنحى العلمي في الفكر والأدب كأسلوب حياة. ولعل الدكتور أحمد زكي خير مثال على طراز العلماء المطعمين الفلسفة والأدب بالعلم، كما كان إيمان الأديب طه حسين بالعلم إيماناً راسخاً، لذلك فلا عجب عندما نسمع عن المناظرة التي عقدتها كلية العلوم بجامعة فؤاد الأول (القاهرة الآن) في أربعينات القرن العشرين، وكان عنوانها: (أيهما أهم: العلم أم الأدب؟) وقد كان المتناظران هما: الدكتور طه حسين الذي انحاز إلى العلم، والدكتور الفذ علي مصطفى مشرفة الذي انحاز إلى الأدب.
ولا ننسى دور العالم الدكتور محمد كامل حسين، الذي جمع بين حس الأديب ومنطق العالم. فقد أثبت قدرته على النقد الأدبي الواعي في كتابه الشهير (الشعر العربي والذوق المعاصر) المعتمد على المنهج العلمي في فهم حركة الشعر الحديث.
حتى إن الروائي العالمي نجيب محفوظ طالب بتأليف الكتب العلمية المشوقة المعتمدة على الخيال، لكي يفهم الطلاب العلوم التجريبية، ويسهل عليهم بعد ذلك الدخول إلى عالم الأدب.
وهكذا، تظل المعرفة منفتحة الأبواب، لا يفصل بينها حدود، ولا تعرف الحواجز الصناعية التي اخترعها العجزة والكسالى في هذا العصر.