انتهى كل من جوش صفدي، وبيني صفدي، بالتعاون مع رونالد برونستین عام ۲۰۰۹ من كتابة نص فيلم (Uncut Gems / جواهر غير مصقولة)، في الوقت الذي لم يملك فيه الأخوان في جعبتهما من أفلام سوی (غو غيت سم روزميري) وبضعة أفلام قصيرة، وكانت الفكرة الأولى لهذا المشروع، أن من سيقوم بدور هاورد يجب أن يكون ممثلاً يهودياً، ولم يروا شخصية هاورد راتنر إلا في الممثل آدم ساندلر، حيث قُدم له عرض وقوبل بالرفض، وتعثر المشروع قليلاً، ولم يتوقف الأخوان صفدي عند ذلك، بل شرعا في صناعة أفلام أخرى وبتعاونات مع برونستین أيضاً، أولها كان مع فيلم (هيفن نوز وات)، ومن ثم فیلم (غود تایم) حيث كان الوقود الذي أشعل نار الإخوة صفدي، محققین من خلاله نجاحاً مدوياً على جميع الأصعدة نقدياً وجماهيرياً حتى تمدد خبر ذلك النجاح في الساحة الفنية وصولاً لآدم، ما أتاح للإخوة صفدي تقديم الدور إليه مرة أخرى، وفيها كان القبول هو الإجابة.
فيلم (أنكت جمز) هو عن هاورد راتنر (آدم ساندلر)، الفائز الخاسر، سيئ الحظ هاورد، يملك متجراً للمجوهرات والأحجار الكريمة في المنطقة الألماسية الرئيسة في منهاتن، لديه عائلة مكونة من 4 أفراد ويملك أفخم المنازل المتواجدة على ضواحي نيويورك، ولديه أيضاً خليلة مثيرة تصغره ما يقارب العشرين عاماً، وزبائنه في المتجر هم من كبار الشخصيات في المنطقة أمثال (كيفن غارنت) النجم الأول لفريق بوسطن سلتيك، فإذا ابتعدنا عن المثاليات التي سنتحدث عنها في أكثر من مناسبة لاحقة فإن حياة هاورد تبدو كالنعيم التي يرغب بها كل من هم من شاكلة هاورد، لكنه يضل تعيساً، وعلى رغم أن ما يعيبه هو شيء واحد فقط، ولكنه عيب قاتل كالسرطان الذي كان يخشاه في أول ظهور له في الفيلم، إدمانه. فنحن نخوض في (جواهر غير مصقولة) دراما إدمانية ولكنها ليست كأي دراما إدمانية أخرى، حيث تنظر إلى الإدمان بعين ناقدة كمثل فيلم كارل ريز (المقامر 1974)، بل هو عمل يجعلنا كمشاهدين منخرطين بعملية الرغبة المستمرة في المراهنات على مباريات كرة السلة التي تؤدي بهاورد شيئاً فشيئاً إلى الهاوية، فالطريق نحو القاع هنا ليس لسوء حظه في ذلك، إنه يراهن رهانات ثلاثية ويصيب بها، ولكننا نراه يعير المجوهرات ويرهن مجوهرات الآخرين بمال ليراهن فيه بشكل مستمر وجنوني، حتى وإن ساءت الأمور هو جاهز تماماً لأن يعيد الكرة وأن يراهن من جديد، حتى لو كانت الأمور تؤدي إلى الهلاك فلن يتوقف هاورد بل سيرفع سيفه متحدیاً ذلك الهلاك إلى أن يصرعه قتيلاً على الأرض، إنها ليست الشخصية التي تطمح هوليوود في أن يكون بطلاً لفيلمها، إنها تخالف كل ما هو مثالي أخلاقياً، شخصية تخون مبادئ الزواج، تتشابك مع المجرمين وتحتال قانونياً، واستغلالية من كل النواحي، وتنظر إلى الرغبة كطموح مراد تحقيقه دائماً، هي ليست المثال المحتذى ولكنها الحقيقة الموجودة في الحياة الاجتماعية، وكل ما يفعله الإخوة صفدي هنا هو إظهارها دون أخذ موقف تجاهها، ربما هذا هو اهتمام السينما، في أن تُظهر لا أن تحل.
ليست شخصية هاورد فحسب التي حكي لنا عبرها عن أشخاص موجودين في حياتنا، عبر محاكاة موضوعية لكل ما هو سيئ وحسن بشكل متداخل في صورة واحدة، بل الجميع وعلى رأسهم جوليا (جوليا فوكس) في تجسيدها نوعاً من الشخصيات قد أغفلته السينما كثيراً حتى وإن أظهرته فسيكون ظهوره مائلاً للسطحية خالياً من العمق والتفصيلات، جوليا، الفتاة الساذجة التي لا يبدو في جوهرها الشيء الكثير، المهووسة في المشاهير والتي نراها تتحدث معهم بلغة تميل لكونها استقطابية لهم، ليس حباً بل هو ذلك الهوس في المنزلة العليا التي هم فيها، والذين قد أظهرهم الإخوة صفدي أيضاً دون تلميع خالين تماماً من أشكال المثالية، مثل (ذا ويكند) الذي ظهر بلقطة يغني فيها وأخرى يطارد فيها النساء ويتعاطى الكوكايين، فإذا كانت الشخصيات سيئة لهذا الحد فهذا لأننا نعيش واقعاً سيئاً ولا یكمن هذا على المشاهير فحسب، بل حتى على العلاقات والشكل الذي بنيت عليه، فجوليا تقيم علاقة مع هاورد رب عملها، والتي تبدو مؤشراتها إلى أنها جاءت لأسباب مادية من طرفها (الوظيفة، المسكن، المال) ومتعة بحتة من الطرف الآخر، علاقة ليست كعلاقات الحب التقليدية اللطيفة التي نراها في السينما في معظم الأحيان، بل هي مريضة إلى درجة قد تصيب بعض المشاهدين بنوع من الاشمئزاز تجاهها، إلا أنه يصعب إنكار وجود هذا النوع من العلاقات في وقتنا الحالي، ولكن يبدأ هذا الانطباع المبدئي في تحوله لأن يكون سؤالاً مهماً في أحداث الفيلم التالية، فبعد كل توبيخ أطلقه هاورد تجاهها، ما هو سر كل هذه التضحيات التي تقوم بها لأجله؟ أهو من أجل البقاء؟ أم مازال هناك بصيص من الحب الذي يسكن عالمنا المادي هذا؟
في الحديث عن الفيلم، يجب علينا أن نعي أن للفيلم بنائين تصاعديين، أحدهما يتمثل بشكل الفيلم الخارجي، وآخر يتمثل في وعينا كمشاهدين، فإذا قرأناه بشكله الخارجي فهو عن الأوبال التي اتخذها الفيلم عنواناً له (الجوهرة غير المصقولة)، إذ نرى أن الاهتمام الكلي الموجود بالفيلم هو الأوبال التي يفتتح الفيلم أيضاً بها عبر مشهد في إثيوبيا، حيث يخرج أحد العمال الإثيوبيين من المنجم مصاباً ومحمولاً من قبل زملائه وخلفهم رؤساء صينيون إيحاء إلى السيطرة والاستغلال للتمدد الصيني في أفريقيا، وعن الاستغلال لاحقاً نرى (كيفن غارنت) يعبر إلى (هاورد) كم هو لئيم في أن يعطي 100 ألف دولار لأشخاص لأجل أن يقدموا على عمل شاق يساوي في أصله المليون دولار -أجل إنها الطريقة التي يفوز بها منهم على شاكلة هاورد- يدخل بعد ذلك عاملان آخران إلى المكان الذي كان يضرب فيه المصاب حجره، ويجدون في حفرهم الجوهرة الثمينة، ولقطة تقريبية میكرفوتوغرافية تدخل في أعماق هذه الأوبال، كما تدخل هي عقلنا ولا تخرج من تفكيرنا في معظم مجريات الفيلم، لأننا ننظر من أعين هاورد التي تريد إعادة الأوبال التي أعارها إلى (كيفن غارنت) عبر وسيطه دیماني (لاكيث ستانفيلد)، ننظر أيضاً عبر هاورد هوسه المستمر في تحقيق الربح ولأن يجني مالاً أكثر على الدوام، نموذج قوي وجريء للشخصية اليهودية خرج من أفكار الإخوة صفدي اللذين
هما أيضاً
نیویوركيان
يهوديان، وفي
الجانب الثاني وفي
الشكل الداخلي، هو
وعينا بحجم الورطة التي
خلقها هاورد من خلال ما يفعله من لا مبالاة تجاه أرنو (إيرك بوغوسين) ورجاله والذي يدينهم بمبلغ ضخم من المال، وفي كل مرة يتم وضع هذا المبلغ على طاولة هاورد سريعاً ما يذهب ليصبح رهاناً، إنه يُضرب، يُهان، يُلاحق، إلى أن أصبحوا يطاردونه لكي ينزعوا من يده المال الذي يدين به إليهم قبل أن يضعه في أحدى الرهانات، إنها مسألة تسبب اضطراباً وتتزايد في كل مرة يقوم فيها هاورد بخداعهم أو احتيالهم، وفي كل فعل يقوم به لصالح رغباته الأمور تتفاقم، المنطق المثالي يقول إن تفادي الخوف والمصائب هو أهون بكثير من أن تحصل على ما تريد في وجودها، ولكن هاورد أعمى مسكين، فرغباته لن يوقفها لا ضرب ولا التهدید، هو مستعد لأن يحبسهم في مكان ويلعب دور المسيطر والمتحكم بكل استخفاف لكي تتحقق الرغبة المرجوة، وهنا يأتي أحد أروع مشاهد الفيلم، حينما كان أرنو ورجاله عالقين في الباب، محبوسين على يد هاورد، في أول مرة في أحداث الفيلم يبدي فيها سيطرته عليهم وهذا فقط لكي لا يعيقوا رهانه إلى أن تنتهي مباراة السلتكس والسفنتي سیكسرز، وهم في لحظة يأس يعيشونها ينظر إليهم هاورد ويحيي وجودهم بابتسامة استهزائية قبيل صافرة البداية، المنطق الذي لا يختلف عليه أحد يقول إن هذا الأمر لن يمر بسهولة، إن لم يكن على أرنو قريبه العائلي فهو على رجاله، ولأننا ننظر عبر هاورد الأعمى اللاواعي بتاتاً في حجم مشكلته التي هو فيها منذ البداية، فالرصاصة التي اخترقته كانت فاجعة، هي المنطق ولكن الفيلم كان ملتزماً في حفاظه على كونه موضوعياً، وبأن يقدم سینما خالية من أن تكون هادفة أخلاقياً، إنها تقدم المشكلة وتجعل الوسيلة تتربص بكل أدواتها لكي تدعم الفيلم بالشكل الذي تريد شخصياته أن تراه.
يقوم أسلوب الإخوة صفدي هنا على التغذي من حدة التوتر المتواجدة في مشاهد الفيلم، التوتر هنا قائم على الحركة الدائمة لهاورد عبر الاستدانة المستمرة من أشخاص عبر فترات متباعدة ولكن هذه الديون لا تزال معلقة، يطرق المدينون باب هاورد باستمرار في الوقت الذي يطرق فيه هاورد باب آخرين ليستدين، بعثرة خارقة للمنطق الأخلاقي مقابل الرغبة الجشعة لهاورد في تحقيق الربح، حالة من الجنون، بل قنبلة رأسمالية عنوانها الجشع، وصوت عدها التنازلي كان إيقاعاً للفيلم، يركض هاورد، لا هروباً بل إقبالاً نحو الانفجار! والنتيجة هي تجربة كاملة من القلق المتصاعد، تصل في صعودها عند نهاية الفيلم إلى الذروة وما بعدها، واضعة المتلقي على حافة مقعدة، متأرجحاً بين جنون هاورد ووعيه الأخلاقي كمشاهد، ولكن ما يدعم هذه الحالة الحارقة للأعصاب إضافة إلى الطاقة الإخراجية المشتعلة لدى الإخوة صفدي هو المونتاج الذي لا يقل جنوناً عن أحداثه، فقد سمعنا سابقاً في كون الكاتب مخرجاً لفيلمه أو المخرج بطلاً لفيلمه، ولكن أن يكون الكاتب (أندي برونستین) هو المونتير! هذا ما زاد من التصعيد حدة، جاعلاً (أنكت جمز) قوة ضاربة من حيث الإيقاع عبر تحكمه بطريقة تعاقب المشاهد في كل لحظة مع اختياره للأشكال التي يتم وضع المشاهد فيها، أما عن كامیرا دوریس خوندجي، فقد كانت محمولة على الأكتاف في أغلب أوقات الفيلم على الطريقة الوثائقية، تلتقط شخصية ما في إطار يظهر فيه أكثر من شخصية أخرى بشكل مربك، وإن لم يكن الظهور بصرياً فهو سمعي -من خلال الحوارات المكثفة التي لا تلتقطها كاميرا خوندجي- ربما كان هذا أسلوب الإخوة صفدي حتى في أفلامهما السابقة، والذي قد يذكرنا هنا قليلاً بسينما كازافاتیس، الأب الروحي للسينما المستقلة الأمريكية، لا أقول بأنه كان فيلماً كازافاتيسيا حتى وإن كانت فيه من روح فيلم (قتل وكيل المراهنات الصيني 1976)، هذا لأن قوة أفلام كازافاتیس تعتمد على حرية الممثل المطلقة في كل رمشة وفعل حيث يغامر كازافاتيس في كل لحظة في فيلمه، بالمقابل قوة الصفدي هنا كانت التحكم الكلي في كل الجوانب التي تدعم إيقاع فیلمهما حتى في جانب صوته.