مجلة شهرية - العدد (581)  | فبراير 2025 م- شعبان 1446 هـ

هذا العام الكئيب صرخ بالناس من الخلف: حاتم علي مات

مات حاتم علي. كان رحيله صادماً ومفاجئاً كبداية هذا المقال، لم يخطر ببال أحد في العالم العربي وهو يحتسي قهوته الصباحية يوم الثلاثاء 29 ديسمبر الماضي، أنه سيفتتح يومه بهذا الخبر الصادم والمؤلم. كان الجميع يستبشرون بعام جديد يعوضهم عن عام البلاء والوباء الذي حصد الأرواح واغتال الأفراح، ولقد وضعوا عامهم الكئيب خلف ظهورهم مستطلعين إلى بداية عام جديد ينسيهم أحزانهم ويغسل همومهم، وتفاءلوا أكثر لأنه يمثل بداية عقد جديد؛ العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين. لكن هذا العام الكئيب أصر على ألّا ينصرم بهدوء، وكأنه استفزه استدبار الناس له واستعدادهم للاحتفال بالعام الجديد، فصرخ بهم من الخلف : حاتم علي مات!
هذا الرحيل المفاجئ للجميع، ولي شخصياً، كمتابع منذ النشأة للدراما التاريخية، جعلني أستعرض شريط الذكريات في متابعة هذه الدراما التاريخية، خصوصاً مع أعمال الراحل.
كنت قد تعرفت على اسم حاتم علي في نهاية الثمانينات الميلادية، من خلال الشاشة الفضية، وكنت حينها طفلاً صغيراً لم يتعد العاشرة من عمره، حين بدأ صعود نجمه كممثل آنذاك مشاركاً في أدوار ثانوية في مسلسلات درامية سورية. وكان تلقي المشاهد لبدايات ظهوره في تلك المرحلة وما بعدها إيجابياً، ومن الممكن وصفه بأنه كان -كما يقال في التعبير اللبناني- مهضوم، له قبول سريع عند المشاهد.
كنت في ذلك الوقت مغرماً بالدراما التاريخية التي تعرض في القناة الأولى في التلفزيون السعودي، وذلك قبل انتشار الفضائيات، وأذكر أن الدراما التاريخية الموجودة في تلك الفترة هي مسلسلات تاريخية مصرية، كان لها الأسبقية والريادة في هذا المجال، وكان من أبطالها المشهورين، عبدالله غيث، وأشرف عبدالغفور، وعفاف شعيب، وغيرهم مما لا تسعفني ذاكرتي في تذكرهم،  وهذه المسلسلات  بشكل عام تتناول الحدث التاريخي بجانبه الديني الأخلاقي، وجانبه الجهادي الديني منه والسياسي.
في بداية التسعينات، بدأت الدراما التاريخية تطرق أبواب الكوميديا من خلال الطرائف والنوادر الموجودة في كتب الأدب العربي، وكان اتجاهاً جديداً، رسم الابتسامة على وجوه المتابعين، ونال رضاهم واستحسانهم، لكنها لم تلبث طويلاً، واختفت بعد اتجاه الدراما التاريخية إلى الفانتازيا في منتصف التسعينات.
وأذكر أن بداية الدراما التاريخية الكوميدية، كانت مع مسلسل (سحور على مائدة أشعب) بطولة صلاح السعدني، ودلال عبدالعزيز وبكر الشدي، وسعاد نصر . ووصل هذا الاتجاه ذروته مع المسلسل السوري الرائع (طرائف أبي دلامة)، الذي شارك فيه نخبة من نجوم الدراما السورية، وهو من بطولة زيناتي قدسية، ومنى واصف،  وسلوم حداد، وقد شارك فيه حاتم علي في دور ثانوي.
اتخذت الدراما التاريخية منحى آخر مختلفاً منذ منتصف التسعينات، عندما صدرت السلسلة التاريخية الشهيرة (الجوارح، الكواسر، البواسل)، ورغم أنها كانت تمثل نوعاً جديداً مختلفاً لم يعتده المشاهد العربي من الفانتازيا التاريخية، إلا أنها حققت نجاحاً كبيراً خصوصاً مع بداية انتشار القنوات الفضائية العربية آنذاك، ولمع معها اسم مخرج العمل السوري نجدت إسماعيل أنزور، وقد شارك الفنان حاتم علي في الجزء الأول منها (مسلسل الجوارح). ولكنهما هي الأخرى لم يكتب لها الاستمرار، أمام عودة الدراما التاريخية إلى خطها التراجيدي السابق ولكن بثوب جديد ورؤية مختلفة.
في نهاية الألفية الثانية، كان العالم العربي على موعد كبير مع مسلسل درامي تاريخي، جميع المشاهدين على شاشة واحدة من المحيط إلى الخليج بشكل غير مسبوق، هذا المسلسل هو الزير سالم الذي كان باكورة أعمال حاتم علي للمسلسلات التاريخية. حقق المسلسل نجاحاً باهراً لفت معه الأنظار إلى قدرته الكبيرة في إخراج هذا النوع من الدراما التي تسمّر معها المشاهدون في العالم العربي حول شاشة mbc طيلة شهر رمضان المبارك من عام 1421هـ/ 2000م، وكان عدد حلقاته أربعين حلقة، واستمر عرضه إلى العاشر من شوال. ومن الطريف أني أتذكر في عيد الفطر تلك السنة، حينما وقع الشباب في حرج بين حضور المناسبة العائلية المعتادة في يوم العيد، وبين متابعة المسلسل، فبعضهم حضر المناسبة مبكراً، ثم تسللوا دون أن يشعر بهم الكبار إلى استراحاتهم الخاصة لمتابعة الحلقة الثلاثين من المسلسل، وبعضهم الآخر - وقد تأثر بشجاعة الزير، وجرأة جساس، واستقلالية الحارث بن عباد - قرر عدم الحضور، ومشاهدة المسلسل، وترك مواجهة عواقب ذلك لاحقاً.
شكّل هذا المسلسل منعطفاً مهماً في مسيرة الدراما التاريخية العربية من كل النواحي، ابتداءً بالنص الذي كتبه الكاتب السوري الراحل ممدوح عدوان، ومروراً بالبيئة الجغرافية والأزياء والديكور الملائمة للمكان والزمان لتلك الحقبة التاريخية، ووصولاً إلى أداء الممثلين الرائع وتقمصهم المتقن للشخصيات التاريخية التي قاموا بأدوارها حتى أحسسنا أن الكاميرا سافرت عبر الزمن، وصورت لنا حقيقة الزير سالم ورفاقه. وأخيراً وليس آخراً، الموسيقى التصويرية الرائعة التي تدل على الإحساس العالي في تصور تلك المرحلة التاريخية بكل ظروفها وأحداثها، في السلم والحرب، في الغزل والصيد، حين الثأر وحين الكيد، كل هذا ممزوج بموسيقى مقنعة إلى حد كبير أنها تمثل تلك اللحظات، وجاءت عبر أثير الماضي، لتشكل مع المشاهد المصورة، ملحمة عربية أسطورية، تناقلها الآباء عن الأجداد، جيلاً بعد جيل، حتى وقتنا الحاضر، لكن لم ينقلها لنا عبر التاريخ، ويصورها لنا واقعاً ماثلاً أمامنا، كما فعل المبدع حاتم علي، وكأني به وهو يختار قصة الزير سالم، ويعرضها لنا في شهر رمضان؛ يستعيد معها فلكلوراً دمشقياً عريقاً، ألا وهو قصص الحكواتية الذين كانوا في زمن مضى نجوم هذا الشهر المبارك، حينما كانوا يتصدرون مقاهي الشام، ويلتف حولهم الناس، مستمتعين بسماع قصص الأبطال، التي يبدع الحكواتيون بروايتها، ويدخلون عليها أساليبهم الحماسية التي تلهب الحضور طيلة ليالي الشهر الكريم. وينقل لنا الكاتب الدكتور مهند مبيضين، جانباً من تلك الأجواء الرمضانية في المقاهي الدمشقية العتيقة في كتابه (ثقافة الترفيه والمدينة العربية في الأزمنة الحديثة: دمشق العثمانية)، فيقول: (وإذا كان الساهرون يطربون يومذاك، وهم يصغون إلى الحكواتي، وهو يروي في أداء وحركات تمثيلية سيرة الزير سالم بروايتها الشعبية الشامية، وعنترة العبسي أو الظاهر بيبرس أو حمزة البهلوان وعلي الزيبق وأبي زيد الهلالي وسيف بن ذي يزن، فإنهم من جانب آخر، كانوا يختلفون في الانتصار لهذا الجانب أو ذاك من شخصيات السيرة التي يسمعونها، وكان بين الحكواتية من يتخلى عن مكانه المخصص له في سدّة عالية، فينزل إلى الجمهور وقد أمسك بيده خيزرانة أو سيفاً، يلوح بها أو به، ضارباً مناضد الحضور، وهو يروي السيرة في انفعال حار يريد نقله إلى الآخرين). ومهما كان السبب في اختيار حاتم علي قصة الزير السالم لتكون باكورة أعماله التاريخية؛ فقد نجح نجاحاً باهراً، وحقق المسلسل نسبة مشاهدة عالية، وتسابقت القنوات الفضائية العربية على شراء حقوق البث، بعد عرضه على قناة mbc، حتى أنه عرض في معظم القنوات آنذاك، وتمت إعادته أكثر من مرة.
في السنوات اللاحقة، أصبحت الدراما التاريخية هي السائدة في معظم الأعمال الدرامية التي تعرضها القنوات العربية الفضائية، بعد أن شاهدوا النجاح الكبير الذي حققه مسلسل الزير سالم، ما جعل المنافسة كبيرة بين هذه الأعمال، ولكن استمر حاتم علي في توهجه، مغرداً خارج السرب، ومتقدماً بسنوات ضوئية عن أقرب المنافسين.
قدم حاتم علي تحفته الفنية الخالدة المتمثلة بثلاثية الأندلس (صقر قريش، ربيع قرطبة، ملوك الطوائف) والتي حلق معها عالياً في سماء الإبداع، وشكلت رؤية جديدة متقدمة في الإخراج الدرامي التاريخي. رؤية حولت من التركيز فقط على الجانب الديني والسياسي في الدراما التاريخية العربية القديمة، إلى تقديم المشهد التاريخي بكل جوانبه السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وتداخلاتها، وتأثير كل منهما بالآخر في عمل درامي واحد متماسك، فنياً وتاريخياً. هذه الرؤية التطويرية الجديدة نقلت الأداء التمثيلي نقلة نوعية، من أداء يغلب عليه الطابع المسرحي في تمثيل الشخصيات التاريخية الذي يقتضي المبالغة في كل شيء؛ حتى كنا نحس أن الممثلين على خشبة المسرح بسبب المبالغة في رفع أصواتهم أثناء مشهد يمثل حديثاً جانبياً بين شخصين متقاربين، أو القهقهة العالية، وكأن الأولين لا يضحكون إلا بهذه الطريقة المجلجلة.
لقد غير حاتم علي كل هذا الأداء المتخشب الذي لا يناسب الدراما ، والتي تحاول دائماً ملامسة الواقع، وإعادة نبض الحياة لهذه الشخصيات التاريخية، لينهضوا مجدداً ويعيدوا سيرة حياتهم لنراها ماثلة أمامنا؛ فعمل على أن تكون تصرفاتهم، وطريقة تعبيرهم طبيعية، لا مبالغة فيها حتى لا تخرج الشخصية من إطارها المعقول، ويفقد معها المشاهد ثقته بما يقدم له.
شكل حاتم علي مع الكاتب وليد سيف ثنائياً رائعاً، أعاد الأذهان إلى الثنائيات الفنية الرائدة في الزمن الجميل، كتب وليد سيف نصاً تحتار في تصنيف جماله، ما بين أن تصنفه نثراً أدبياً، أو زجلاً فنياً، أو موشحاً أندلسياً يطرب الآذان ويشنف المسامع، والإبداع، كل الإبداع؛ أن يجمع كل هذا الجمال في سيناريو حوار واقعي، لا تشعر معه بالمبالغة والتصنع، وهذا والله قمة الإبداع وذروة سنامه.
رغم التجديد والتطوير الكبير الذي قام به حاتم علي في أعماله؛ إلا أنه لا يقف عند حد معين، فكل عمل يقدمه، نشعر من خلاله أنه وصل لقمة الكمال ولن يأتي بأفضل منه، ثم يفاجئنا بعمل آخر أكثر جمالاً وكمالاً، وكأنه يقول لنا أن الإبداع ليس له حدود، وأنه يجب أن يزيد بتقدم العمر، وتراكم الخبرة، فبعد أن أتحفنا بمسلسل ربيع قرطبة، الذي قدم فيه شخصية الرجل الطموح المنصور بن أبي عامر، منذ أن كان رجلاً من عامة الناس حتى وصل إلى سدة الملك، متعمقاً بالتجربة الإنسانية الفذة التي ينتقل فيها الشخص من صاحب مبادئ مثالية في نظرته للحكم والسياسة، إلى إنسان يعمل من أجل مصلحة بقاء حكمه واستمراره، وهو ذات الإنسان الذي كان يصوب عليه سهام نقده في شبابه. بعد هذه التحفة الأندلسية الرائعة، قدم لنا تحفته الخالدة (ملوك الطوائف)، والتي تعتبر - بحق - جوهرة أعمال حاتم علي التاريخية.
ولأن الإبداع لا حدود له عنده في الأعمال الدرامية زمناً ومكاناً، قدم لنا أعمالاً عظيمة أخرى، مثل التغريبة الفلسطينية، ومسلسل عمر، والملك فاروق، وفاز بجوائز كثيرة تؤكد تفوقه عربياً.
الحديث يطول بنا عن الفنان الراحل، الركن الكبير في الجانبين الفني والثقافي خلال العشرين سنة الماضية، لكن عزاءنا في أن أعماله ستخلد إلى الأبد، وعزاءنا في أن تنجب مدرسته الإخراجية مبدعين آخرين يكملوا المسيرة ويضيفوا عليها لمساتهم الخاصة، وعزاءنا في المحبة الكبيرة التي رافقت الراحل إلى مثواه الأخير.
رحم الله حاتم علي وأسكنه فسيح جناته.

ذو صلة