مجلة شهرية - العدد (581)  | فبراير 2025 م- شعبان 1446 هـ

غياب إلياس الرحباني.. الفن يخسر

ثالث الثالوث الرحباني يغيب، انتهى موسمه الخاص، قبل أن ينتهي. ذلك أن إلياس الرحباني لم يستطع أن يشهق حين أصيب بالزهايمر بالسنتين الماضيتين. نسي من حوله، نسي ما فعل، نسي كل شيء، حتى أنه نسي أن يشهق لأنه أصيب بالزهايمر. نهاية لا متوقعة، لأن الشقيقين الراحلين، عاصي ومنصور، أولعا حتى الأيام الأخيرة بألعاب الذاكرة وألعاب الفكر. لم يجدا، خلال معرفتي الطويلة بهما، أن ثمة شجرة محرمة على التأمل والتفكير. اللحظات الموسيقية بغاية الأهمية، غير أنهما لم يجدا في ساعات رقصهما الطويلة على الميتافيزيق والوجودية ساعات نزوة. وجداها قبلة مخطوفة من العالم العادي إلى العالم اللاعادي. حَلَّق عاصي في عالمه الميتافيزيقي وهو يسأل عن الأجناس القابعة في هذا العالم. كاد العالم هذا يستعبده، حين راح منصور يروي لي كيف أنه يغار من الشجرة وراء نافذة بيته، لأنه راحل وهي سوف تبقى. كره الاثنان النقصان. وجد إلياس الراحل عن ثلاث وثمانين سنة، أن الاكتشافات الموعودة للأخ الأصغر، اكتشافاته، هي اكتشافات جسده وعقله لا اكتشافات الأخوين الكبيرين الأشبه بتوأم. وأن اكتشافاته، تحتاج ترجمة فورية، وهذا ما فعل. هكذا بقي الأخوان أخوين، حين بقي إلياس ثالث الأخوة بدون أن يدمج بأخويه، لأنهما (الأخوان رحباني). وإذا أضيفت السيدة فيروز على لغتهما، بحيث أضحت لغة الثلاثة لغة خاصة بالثلاثة، أصبح الدخول في اللغة المكتملة في الثالوث دخولاً مستحيلاً. لأن الولد الصغير المخربش على أوراقه، راح يحاول اللحاق بهما بدون أن يدركهما من اكتمال تجربتهما ولغتهما. هكذا، وجد الصغير نفسه تعباً وهو يقفز من آخر طريق الأخوين إلى أول الطريق الخاصة به. عانى وهو يسعى إلى الاندغام بحياتهما المرتبة على الأولويات. وعانى وهو يركض بسرعته الخاصة على طريقه الخاص. عانى إلياس الرحباني مرتين، حين رغب بأن يضحي الثالث في العائلة فنياً، هو الثالث في العائلة اجتماعياً. فَقَدَ نصفه أمام لمسات الأخوين الخبيرة وأمام هربه بأوراق نوتاته من البيت الرحباني المُعَرِّق على تجربة يشار لها بالرؤوس لا بالأصابع. لم يجد شيئاً من جدية أخويه لإشراكه في ضرباتهما ورناتهما ولياليهما وخياراتهما ومهاراتهما ونهاراتهما وأرباحهما وخساراتهما. كل من يظن أن إلياس الرحباني وُجِد في مربع الأخوين رحباني، وأنه حين وُجد انوجد، كل من ظن الآن الأمر على الصورة هذه مخطئ. لأنه لا يعرف كيف يقف أمام مغامرة الشقيق الثالث، من حافظ على سكوته وسكونه أمام قاطرة عاصي ومنصور الرحباني.
قصة إلياس الرحباني ليست قصة ماكينة، يقودها صاحبها أو تقود نفسها بنفسها بعد تنظيمها على شفرات خاصة، خوفاً عليها من اللصوص والتحولات التقنية. لم يشكُ إلياس الرحباني لا عذابه باستقرار لعبة الأخوين في رأسيهما ولا في ساعات ظهوره الأولى كشبح في واحد من نهارات الأخوين. حكى لي عن هذه المغامرة المزدوجة، بدون أن يتشكى، بعد أن وجد في الشكاية جريمة. لطالما قال لي: إن عاصي ومنصور ربياه إثر وفاة الوالد حنا الرحباني، صاحب المقهى الشهير في منطقة إنطلياس المطلة على العاصمة اللبنانية بيروت وعازف البزق، من ألهى بعزفه على بزقه قوات الاحتلال الفرنسي عن مطاردة وملاحقة المقاومين اللبنانيين لقوات الاحتلال. إلا أنني وجدت على الدوام أن الأخوين لم يريا الأخ الثالث إلا من خلال باب وهمي، وقف بينهما كما تقف الأوراق المالية بين المقامرين.
صحيح أن إلياس هو الأخ الثالث بالعائلة الرحبانية. الصحيح كذلك، أن إلياس هو أول نفسه في لعبة الموسيقى ولعبة المسرح ولعبة الإعلان. علق على جدران العالم مئات الإعلانات بقلب مشتعل بنشوة الاختلاف والتميز. لأن الأخوين ما خاضا في مجالات الإعلان أبداً. صعدت روحه بين روحي كاهني التجربة الرحبانية العريضة الحضور بالعالم العربي وفي جزء من العالم، في دورة طيران أطول مما توقع. إلا أنه في حبه للمعرفة بالقفز فوق صناعة الحياة لأخويه وتخصصه في مجاله (ما ميزه عن الكبيرين) إلا أنه بالأمر هذا هز صوته بين الأصوات، بحيث وجده يتقدم مدفوعاً بقواه الشخصية لا بقوى الريح ولا بقوى الأخوين. حفر في ثنايا الجدران بدون أن يحفر حتى في الصور الجامعة للأخوين وحدهما أو مع السيدة فيروز في مؤتمر صحفي أو عند العودة من رحلة إلى أوروبا أو الأمريكيتين أو دمشق أو بغداد أو الرباط أو تونس أو الجزائر العاصمة. الصور الجامعة قليلة، لكي لا أقول نادرة. لم يميزه الأمر، ما ميزه أنه لم يعد على الدوام إلى الوصفة أو الصيغة المعتمدة: الأخوان رحباني. اتخذ الأمر طابعاً صحياً، منح الأخ الأصغر مشروعه، بدون أن يغلق على نفسه. هكذا، بقي بصوته المبحوح على صوت الأخوين يبحث عما يخصه وحده. عبر تجربة الأخوين برياحه القلقة بدون أن يغادرها وبدون أن يغرق فيها. لا لأنه لم يرد ذلك، لأن اكتمال عالم الأخوين لم يسمح. حيث الالتصاق بالحمض الأخوي مهمة مستحيلة. خرج عليهما بدون أن يرتب لخروجه. لم يخض حرباً ولم يضفِ على صوت فيروز سوى خمس أغنيات، أبرزها (دخلك يا طير الوروار) و(حنا السكران) و(يا لور حبك). أغنيات بقوة استثارة الحواس النائمة لأي مخلوق يسمع بالرائحة ويرى بالصوت. خمس أغنيات، حين وصل تعداد الأغاني الملحنة من فيلمون وهبي لفيروز ( كمثال ) إلى خمس وعشرين أغنية. لهذا سلبياته وإيجابياته، أبرز الإيجابيات أن إلياس وجد رائحته في يده لا في أيدي الآخرين، عابراً البيت الرحباني إلى حياته الخاصة. كتب بكامل زهوه في المسرح والأغنية والإعلان والموسيقى التصويرية، ما لم يعتبره أحد تعبيرات بخوذات مثقوبة، سوى في الإعلانات. لحن لوديع الصافي ونصري شمس الدين وملحم بركات وصباح (كيف حالك يا أسمر وشفتو بالقناطر...). لحن لماجدة الرومي وباسكال صقر وصولاً إلى هيفا وهبي الموديل الجميل. بدا كبائع الحلوى وهو يلحن على الطلب بدون أن يعود إلى مقولة: صاحب التاريخ لا يقدم ألحانه لمن هب ودب. لم يمشِ مشية جادة أمام اسم، ما أخذه عليه المحبون والكارهون سواء بسواء. كما أخذوا عليه نقل الألحان من إعلان إلى أغنية كأغنية صباح (وعدوني ونطروني) عن إعلان (باريلا معكروني). هذا مثال واحد من أمثلة عديدة. ظهر الرجل كامرأة ولادة أو كمخرج أسماء من الغفوات إلى الخلوات وهو يلحن لمن يستأهل ومن لا يستأهل. لم يستعمل حريته الإبداعية مرة واحدة، استعملها لأكثر من مرة، حين روض اللحن الواحد لأكثر من عمل واحد. عاش في مركزه لا في مراكز الآخرين. لم يعش في الطبقة الخاصة الخائفة من لمس المجالات في رحلات لم تأبه إلا للوصول إلى حلبته. قفز من مقعد تلحين الأغنية إلى مقعد تأليف الموسيقى. رقيقٌ، موهوبٌ، شرسٌ، ماهرٌ في ترويضه المزاج الشعبي في الشروط الأكاديمية بالموسيقى التصويرية. موسيقى عازف الليل له. موسيقى منافسة لما وضعت من أجل خدمته. كما قدم موسيقات يستطيع من يرغب بعد سنوات طويلة على تأليفها، أن يسمعها وكأنها مؤلفة البارحة لا منذ أربعين أو خمسين سنة، من موسيقى فيلم دمي ودموعي وابتسامتي (حسين كمال) وحبيبتي (هنري بركات، مع فاتن حمامة ومحمود ياسين) وأجمل أيام حياتي (هنري بركات، مع نجلاء فتحي وحسين فهمي وعماد حمدي).
خاض الرجل في جل المجالات، خاص في المسرح والسينما والإذاعة والتلفزيون والإعلانات. لم يجد في مجال صاحباً أبيض ولا في مجال صاحباً أسود. ولأنه لم يجدهم كذلك، لم يرهم يتذابحون ولا يحفرون قبور بعضهم. كل مجال سلاح، يقوم بتنظيفه. ترأس أكاديمية روتانا، ثم لم يلبث أن انسحب من رئاستها، لأنهم (على ما صرح وقال) قاسموا أنفسهم الأنخاب، بدون أن يدعوه إلى مألوفهم. ثم إنه في أوقات (الراحة) من مألوفه، شارك في لجان تحكيم أستديو الفن، بأكثر من دورة على أجمل الغايات: عدم استبداد الأسماء السائدة بعالم الغناء والتقديم والشعر، بإطلاق المواهب الجديدة، مع أبرز مخرجي برامج المنوعات في التلفزيون سيمون أسمر. لم يخفِ رغبته بالانقلاب على عالم بات يتسلى بإطلاق النار على رأسه. آراء أخاذة وضحكات فريدة. مدينة في المدينة، حيث شوهدت الأسماء الجديدة تتقافز في سماء العالم الجديد، من راغب علامة إلى وليد توفيق ومن نانسي عجرم إلى نيشان ومن ماجدة الرومي إلى عبدالكريم الشعار وعبدو ياغي وعشرات الأسماء الأخرى. لم يحل السلام عليه وهو يقيم المشروع والآخر على مفاهيم المأسسة على غير مألوف الفنانين، إذ أنهى تنوع أشغاله ببناء وتجهيز أكاديمية إلياس الرحباني في بيروت وطرابلس بإدارة مشتركة بينه وبين غسان الرحباني ولده الأصغر. مؤسسة وقائع لا غيوم، حيث تتخرج مئات المواهب كل عام بالغناء والعزف على الآلات الشرقية والغربية. ما يذكر بأن بعض اللهو عند إلياس الرحباني ليس لهواً، حين لحن أغاني مكتوبة بالفرنسية والإنجليزية. أغنيات علامات لا عاملات، حاز عن بعضها جوائز في بعض أهم المهرجانات العالمية، كالجائزة الأولى في مهرجان روستوك في ألمانيا عن أغنية موري (Mory). وهو أضاء على أساليب عرض أخرى بالمسرح لا تشبه أساليب العرض في مسرح أخويه مع السيدة فيروز، حين قدم إيلا ووادي شمسين وسهرة الأحلام، فيها أجزاء من وجهه وملاهيه، بعيداً من نقدها، من طريقة اختيار القطع إلى تأثيرها على وعي المتفرجين بمختلف الأصعدة، الاجتماعية والثقافية، الجمالية والسياسية والفكرية. مسرحيات تذكارات منتبهة إلى ضرورة تقديم التصور الخاص بما يثير حماس المشاهد لاكتشاف ما يقع خلف العرض (نقدها بزمن ومكان آخر).
لم ينزلق ذهنه عن أهمية المؤسسة، مذ أقام أستديو إلياس الرحباني. خطوات لا علاقة لها بالنرجسية، لأنها عرفت أسماء كثيرة سوى اسم إلياس الرحباني. الأستديو نافذة على أحلام ومشاريع وأوراق الآخرين الناشفة، لا تتحرك إلا على زلاجات ريح مهنية إلياس الرحباني. لم تستطع التقانة أن تخادع آل الرحباني على مضي الوقت في تدخين الأحلام. هكذا، أقام زياد الرحباني الأستديو الخاص به في منطقة الحمراء/ زون الجامعة الأمريكية (باي باس) وأقام إلياس أستديوهاته في منطقة إنطلياس بالقرب من بيت منصور الرحباني وأولاده. كما أقام غدي مؤسسته الإنتاجية هناك، بعد أن أنشأ مروان مؤسسته الإنتاجية الضخمة في دبي. عند آل الرحباني الأغنية وحش جائع يأكل كل ما يقع أمامه، إذا لم تستطع ضبطه بالقبض على أنياب جنونه.
إلياس دائماً في هوائه المضحك. يمتلك الرجل برقه الخاص في المجال هذا، إذ لا تسجنه مناسبة جدية في جدية وقائعها أو ناسها. إنه وردة على النافذة، خلف زجاج غرفة التسجيل، وسط الأهل، الأصدقاء، الرفاق، الزملاء، الرسميين، كل من يجده مبذوراً حوله. إلياس دائم الخوف والقلق، حين لا يجد العالم معبداً يترافع فيه الناس حول الإصلاح والتقى. دائم الخوف من الطائرات. بالرحلة الأخيرة من دبي، أطلق أشجاراً من الدعوات، وراح يشد على كفي حتى كاد يطحنه، لما وقعت الطائرة في واحد من المطبات الهوائية. لم يخلف إلياس إلا الأولاد (ولداه: جاد وغسان). لم يخلف منصور إلا الأولاد (أولاده: مروان وغدي وأسامة). وحده عاصي أب بنتين ( ليال وريما) وولدين (زياد وغدي). لم يستجب إلياس للصراعات بين أفراد العائلة الواحدة، بقي قريباً من الجميع، بحيث بدا أن أصابع أفراد العائلة فرت من أيديهم، إلا هو. بقي كطفل ممسوك من شعره وسط الاصطدامات والاحتدامات ورمال الصخب الطالعة من الدعاوى المرفوعة من هذا على ذاك ومن ذاك على هذا.
بدا إلياس الرحباني وكأنه يخاطب أخويه من وراء الباب، كما بدا الأخوان يخاطبان آخر العنقود في عائلة حنا الرحباني من وراء الباب. هما حكيمان أزليان جدلهما الشك الدائم، وهو رحال في حبلهما السري. بحث عن ربيع الخلق حتى وجده. ظهر كعمود دخان أولاً، ثم صاحب تجربة خاصة مكتملة، لم تذب لا في ملامح الأخوين ولا في صلبهما. ما بناه هواء لا ماء. لذلك سوف يبقى الآخرون يرددون إذا سألتهم عن وجهتهم: ذاهبون إلى أستديو إلياس. غضٌ، طريٌ مات إلياس الرحباني، كأنه لم يولد بعد إلا في أشغاله وعناقه أخويه بدون أن ينتهي أو يذوب فيهما.

ذو صلة