مجلة شهرية - العدد (580)  | يناير 2025 م- رجب 1446 هـ

فكرة حيـاة

ازداد عدد المحميات الطبيعية عالمياً بصورة مطَّردة، ابتداءً من سبعينات القرن العشرين، ومروراً بإطلاق اتفاقية التنوع الأحيائي للتوقيع خلال قمة الأرض عام 1992. حالياً تغطي المحميات الطبيعية نحو 15 % من مساحة الكرة الأرضية. لكن ما دواعي إنشاء المحميات وعلاقتها مع استمرار الحياة على كوكب الأرض؟
مفهوم المحميات الطبيعية ليس بجديد، حيث يرجع تاريخها إلى العصور القديمة، فقد أنشأ الملك (ديفانامبيا تيسا) أقدم محمية طبيعية في سريلانكا في القرن الثالث قبل الميلاد، وعلى الأغلب فإن مفهوم الحماية في العصور القديمة يعود لممارسات ثقافية ودينية مثل الغابات المقدسة في أفريقيا، والتي كان يمنع فيها الصيد للاعتقاد بأنها قد تشكل تهديداً روحياً على البشر، كذلك بعض المناطق في المحيط الهادي وجنوب آسيا، فقد ظهر أول مرسوم ملكي لحماية التنوع البيولوجي في الهند قبل 2000 عام. أما في أوروبا فقد ارتبطت المحميات بمناطق الصيد الملكي والغابات المحجوزة لتكون مناطق للصيد والترفيه للملوك والأغنياء.
بدأ المفهوم الحديث للمحميات خلال القرن التاسع عشر بالتزامن مع مفاهيم الحفظ والتنمية، بتوقيع الرئيس الأمريكي آندرو جاكسون في عام 1832 على أول تشريع لتخصيص الينابيع الحارة والمناطق الجبلية المحيطة لتتبع للحكومة الأمريكية. كما توالت الجهود فأُنشئت أقدم حديقة وطنية (يلوستون) عام 1832 التي أوضح قانون إنشائها أنها أرض مفتوحة للجميع.
خلال القرن العشرين، ساهمت فترات الاستعمار في بعض البلدان في إنشاء المحميات بغرض الحفاظ على موارد معينة مثل الأخشاب، وحفظ بعض الحيوانات للاستفادة من أجزائها كسن الفيل، إضافة لأغراض الترفيه والصيد للمستعمر، لكن على الرغم من ذلك فقد كان لها دور في الحفاظ على الحياة الطبيعية. تلاها حديث العلماء عن التغييرات التي حدثت نتيجة للثورة الصناعية وما صاحبها من استخدام غير مرشد للموارد ساهم في قطع مساحات كبيرة من الغابات، وفقدان أعداد مقدرة من الحيوانات والنباتات والطيور والأراضي الخصبة، دعت لضرورة التفكير في الحفاظ على ما تبقى من الموارد. تواصلت الجهود بإعلان اتفاقية التنوع الحيوي التي دخلت حيز التنفيذ في 1993 كما تم وضع أهداف آيشي للأعوام 2011 - 2020 بغرض المساهمة في إنفاذ الاتفاقية. وفي الوقت الراهن تتجه جل الأنظار تجاه الإطار العالمي للتنوع الحيوي لما بعد 2020.
رحلة البحث عن تعريف للمحميات بدأت منذ ثلاثينات القرن السابق، واستمر التطوير والتدقيق وصولاً إلى آخر تعريف في العام 2008، بواسطة الاتحاد الدولي لصون الطبيعة (IUCN)، الذي عرف المحمية الطبيعية بأنها (مساحة جغرافية محددة بوضوح، معترف بها ومخصصة ومدارة، من خلال وسائل قانونية أو غيرها من الوسائل الفعالة، لتحقيق الحفاظ على الطبيعة على المدى الطويل، مع خدمات النظام البيئي والقيم الثقافية المرتبطة بها).
توجد أشكال وتصنيفات متعددة للمحميات مثل حرم الصيد، الغابات المحجوزة، مواقع التراث العالمي، محميات المحيط الحيوي، الحدائق الوطنية، الحدائق الجيولوجية وغيرها. تختلف التسميات حسب الهدف من الحماية، بجانب اختلاف طرق الإدارة فقد تطورت التسميات من مناطق يحظر فيها النشاط الإنساني بأمر القانون إلى مناطق توفر الحماية للحياة الطبيعية، وتضمن التنمية الاجتماعية والاقتصادية المستدامة لصالح المجتمعات المحلية ليس فقط كمستفيدين، وإنما كفاعلين أساسيين في عمليات الحماية والتنمية، وهو النموذج المتمثل في محميات المحيط الحيوي الذي تبناه برنامج الإنسان والمحيط الحيوي التابع لليونسكو. كما أن إنشاء المحميات يكون وفقاً لاتفاقيات عالمية وقوانين وطنية تحدد معايير تسمية المحميات ولكن يبقى الرابط بينها توافر الشروط المحددة في التعريف أعلاه.
تنبع أهمية المحميات الطبيعية من ارتباطها بشكل رئيسي بحياة الإنسان، عن طريق خدمات النظام البيئي التي تقدمها والمتمثلة في: الخدمات الاقتصادية: من توفير للغذاء، المياه، والدواء وسبل كسب العيش كذلك مصادر الطاقة. الخدمات الثقافية مثل السياحة البيئية، الترفيه، بالإضافة للقيم الثقافية والتاريخية، وخدمات التعليم والبحث العلمي. وبالمثل فإن للمحميات خدمات سياسية، حيث ساهمت -خصوصاً المحميات العابرة للحدود (حدائق السلام)- في حل المشكلات المتعلقة بالحدود السياسية بين الدول، على سبيل المثال منطقة فيرونغا بين جمهورية الكنغو الديمقراطية، ورواندا وأوغندا. أما الخدمات البيئية فهي تتمثل في الحفاظ على التوازن البيئي، والحفاظ على الموروث الجيني، كما أنها تلعب دوراً في التصدي لآثار التغيرات المناخية مثل الفيضانات وموجات الجفاف. نذكر منها دور المحميات في درء آثار الجفاف التي حدثت في السودان في ثمانينات القرن الماضي ومساهمتها في إيواء النازحين بسبب الجفاف. إذاً لا يقتصر دور المحميات الطبيعية على الحفاظ على التنوع الأحيائي فحسب، بل تتضمن الحفاظ على حياة ورفاهية البشرية.
مما ذكر أعلاه، فباختلاف الأهداف التي من أجلها أنشئت المحميات فإن فكرة المحميات قديمة جداً تم تطويرها عبر الزمن نسبة للخدمات التي تقدمها للبشرية والتنوع الأحيائي، ولكن هل ساهمت فعلاً المحميات الطبيعية في حماية وصون التنوع الأحيائي؟
وفقاً لتقرير التقييم العالمي بشأن التنوع البيولوجي وخدمات النظم الأيكولوجية (IPBES، 2019)، فإن التنوع البيولوجي وخدمات النظم الأيكولوجية آخذة في التدهور في جميع أنحاء العالم. هذا يعني أنه على الرغم من الجهود المبذولة في مجال المحميات الطبيعية فإنها لم تؤد الدور المطلوب. لكن من الضروري توضيح أن المحميات الطبيعية هي جزء من الحل وأن المحميات وحدها لا يمكنها تحقيق أهداف الحفاظ على التنوع البيولوجي، ناهيك عن الضغوطات الواقعة على تلك المناطق من تغييرات مناخية وزيادة الطلب على الموارد كنتيجة لازدياد عدد سكان العالم. وعلى الرغم من التدهور والتردي في طرق الإدارة لعدد ليس بقليل إلا أن هنالك نماذج جيدة ساهمت في الحفاظ على التنوع البيولوجي وتحسين حياة الناس داخل المحميات فمن أصل 49 منطقة مدرجة في القائمة الخضراء للاتحاد الدولي لصون الطبيعة فإن خمس مناطق تقع في الدول العربية وهي مصر، الأردن، ولبنان ضاربة أمثلة يمكن الاحتذاء بها. كما أن هنالك جهوداً عالمية كبيرة لزيادة مساحة المناطق المحمية تصل إلى 50 % لمجابهة التدهور.
كل المؤشرات تشير إلى أنه لا يمكن بلوغ أهداف حفظ الطبيعة واستخداماتها على نحو مستدام باتباع المسارات الحالية، ولا يمكن تنفيذ أهداف 2030 وما بعده إلا من خلال إحداث تغييرات تحولية (transformative changes) على نطاق العوامل الاقتصادية، الاجتماعية، السياسية والتكنولوجية. إن إصلاح عمليات اتخاذ القرارات، والإرادة السياسية، وتعزيز التكامل بين القطاعات من أهم الركائز ولايمكن تنفيذ هذا التغيير إلا عن طريق توفر موارد جيدة (مادية وبشرية)، مع الأخذ في الاعتبار الدول الأقل نمواً. كما أن النظرة الشاملة والإدارة التكاملية للموارد بما فيها المناطق المحمية، إضافة لحوكمة المحميات التي تشجع الشفافية والمحاسبية والتشاركية والعدالة واتباع نظم الإدارة متعددة المستويات؛ تعتبر مفتاحاً لنجاح المحميات الطبيعية.

ذو صلة