مجلة شهرية - العدد (580)  | يناير 2025 م- رجب 1446 هـ

السياحة الأيكولوجية

اجتاحت العولمة وبشكل ملفت، نوعيات التواصل الاستهلاكي للخاصيات البيئية في عدة مناطق بالعالم الفسيح، ورغب الإنسان بطبعه في أن يكتسح ويتوسع معمارياً في مساحات شاسعة ومتعددة. ومن خلال الكم الهائل الذي وقف عليه سكان الأرض من ضرورة العودة لكل ما هو طبيعي وبيولوجي وضمان التوازن البيئي، فإن أسس المحميات الطبيعية وكيفيات المحافظة عليها واستكشافها بات سياسة راهنة في أغلب الدول الأوربية والعربية. فماهي خاصيات المحميات الطبيعية بالعالم العربي؟ وكيف يتم استثمارها واستغلالها في المجالات الثقافية والفنية؟ ما هي مميزات المحمية الطبيعية في تونس؟ وأي طابع جمالي لمنطقة سطح القمر بتطاوين؟ وكيف يتم استثمارها كحاضنة فنية ثقافية نشطة؟
خاصيات المحمية الطبيعية وأنواعها
لم تكن قط المحميات الطبيعية خارج حاجات الإنسان في هذا العالم، بل إن السعي لإحداث هذه المناطق الحاضنة والحامية للعنصر البيئي جعل فكرة نشأتها تعود إلى القرن التاسع عشر، عن طريق بعض المنظمات الدولية الساعية لصيانة الموارد الطبيعية في كل أصقاع الأرض. تعد المحمية الطبيعية نموذجاً من المناطق التي يتم اختيارها وإنبات نظام بيئي فيها، لكي تصبح بدورها وحدة نوعية يقع ضمنها إعادة الاستقرار والتوازن البيئي والمحافظة على المصادر الحية بطرق سليمة، بالإضافة لذلك يتم دعوة وإشراك البحث العلمي للتصدي أمام أنواع الاستغلال اللامتوازن والمجحف للعناصر الطبيعية ضمن دائرة التحسيس والمراقبة الأيكولوجية والبيولوجية لضمان التنوع النباتي والحيواني.
تنخرط المحميات الطبيعة ضمن نظام أو إشراف منظمة أو هيئة معينة ليتم إعلان المساحة المحددة ضمن مشروع الحماية لكل مكوناتها الحيوية، ووضع خطط محكمة، مناسبة للتنمية والإدارة البيئية. لقد سعت أغلب السياسات المحلية والعالمية إلى منح الاهتمام الكبير والمتميز لحماية كل أشكال الحياة البرية المتفردة والمواطن الطبيعية النادرة، خوفاً من اختفائها وتقلصها تدريجياً في المحيط العام للمنطقة التي يقع اختيارها وفق ثرائها.
إن الاستئناس بكل ما يدور في العالم والحياة الإنسانية من احتياجات طبيعية شجع العلماء والمختصين للإسهام في مستقبل المصادر النباتية والحيوانية والأيكولوجية، وحملهم إلى أسس التعديل الجيني والمقاومة الوراثية وتكاثرها في محاولة مباشرة لحماية ثروات الإنسان واستقرار الأرض ومناخاتها المتحولة. فما هي نوعيات المحميات الطبيعية وكيف يقع استحداثها في العالم العربي؟
أنواع المحميات الطبيعية
تنتشر السياسات الحاضنة والمدعمة والناشئة للمحميات الطبيعية في العالم العربي، لتكون مساحة ذات حماية صارمة لكل مناطقها البرية أو البحرية ضمن نظم بيئية جد ناجعة ومتميزة. وذهبت البلدان الخليجية وشمال أفريقيا وغيرها من الدول العربية إلى مراقبة حثيثة لكل المتغيرات البيئية فسعت الجهات المختصة لإرساء حماية برية وبحرية لبعض المناطق التي لاتزال تتمتع بخصائصها الطبيعية، وغير معدلة، فيقع تهيئتها بالشكل الذي يساهم في تنشيط الثروة الطبيعية ومعالمها المتنوعة. وتختلف أنواع المحميات الطبيعية وصبغتها لتكون بعضها موجهاً لحماية الموارد الطبيعية المهددة بالانقراض أو المكتشفة وغير المستغلة فيقع استثمارها اقتصادياً وفق سياسات قومية غير مضرة بالأمن البيئي. ويذهب النوع الآخر من المحميات الطبيعية إلى الاستثمار والبحث العلمي، فيكون طابع المحمية علمياً بحتاً يضمن فيه دراسة شاملة ودقيقة للنظم البيئية وخاصيات الكائنات بها.
وفي إطار الحث الدؤوب على تنشيط المساحات الشاسعة والمحميات الطبيعية، تم توجيه البعض منها لإعدادها كمنتزهات وحدائق وطنية، تفتح أمام الزوار فرص التعرف المباشر على النوع الحيواني والنباتي، مع الحرص المستمر للحفاظ على النظم البيئية فيها.
تتعدد المساحات الطبيعية ذات التكوين الأيكولوجي والجيولوجي المتفرد بالوطن العربي، لتعمل سياسة كل الدول لتنشيط الثراء القومي الطبيعي، واستحداث مناطق ومحميات الحياة الفطرية التي تنبع من نمط الحياة التقليدي للإنسان، دون تدخل أو تغيير، وتضمن هذه المناطق بدورها أهمية سياحية وثقافية متعددة. نذكر في هذا السياق أهمية المحميات البحرية بسلطنة عمان، ومنها محمية الخور بصلالة، لحماية الطيور المائية، ومحمية راس الحد ومحمية القرم لحماية أشجار القرم وغيرها من المحميات التي تهدف إلى ضمان التوازن البيئي وحماية الشعاب المرجانية والمستوطنات الطبيعية للسلاحف البحرية. يضمن الطابع المناخي والبيئي بسلطنة عمان تنوع المحميات وكثرتها، في بحث مستديم لبناء منظومة بيئية متكاملة. تعرف الإمارات بدورها والمملكة العربية السعودية والجزائر ومصر تعدداً غير مسبوق في المحميات الطبيعية الشاسعة، والتي تحتوي على أنواع نادرة من الحيوانات والطيور والنباتات التي تجانب الانقراض. فنذكر محمية المها الطبيعية بدبي باعتبارها منظومة بيئية متكاملة تحتوي على ما يقارب الثلاثمئة عنصر ونوع حيواني على مساحة تناهز سبعة كلم مربع.
تساهم المشاريع البيئية بإستراتيجية ضرورية وراهنة في عصر العولمة ومخلفاتها على الطبيعة ونظمها السانحة لحياة متوازنة، وضمن شرعية سياسات الأنظمة الصديقة مع البيئة والدراسات الحثيثة لإرساء مستقبل آمن لاحتياجات الإنسان والكائنات الحية، فالدراسات البيولوجية والجيولوجية والأيكولوجية دفعت بالإنسان نحو تعميق تجارب الخدمات الطبيعية لضمان استقرار المناخ واستمرارية دورة المياه وخصوبة التربة والإرث الطبيعي ضمن تحسين موارد الطاقة المتجددة. فكيف تتنوع المناخات الطبيعية بتونس في محمياتها البيئية؟ وإلى أي مدى تشكل السياحة البيئية والفن البيئي نوعاً جديداً من الاستقطاب الطبيعي للمحميات النوعية التونسية؟
المحميات الطبيعية وثقافة الفنون
تختلف الخدمات والآليات والأهداف التي يقع عليها التجديد والتحديد لنظم المحميات الطبيعية بتونس، وتتعدد أنواع هذه المناطق نظراً للتنوع المناخي الذي تزخر به البلاد والذي دفع بالجهات المعنية ووزارة البيئية لأن ترصد مجهودات وميزانيات محترمة من أجل تركيز ثقافة الحماية البيئية والطبيعية في ولايات مختلفة من الجمهورية. ونذكر على سبيل ذلك محمية أشكل الزاخرة بتعدد العنصر الحيواني وأهميته في تعديل النظام الطبيعي للمنطقة. تقع محمية أشكل في ولاية بنزرت شمال البلاد، وتبلغ مساحتها ما يقارب الثلاثة عشر هكتاراً، موزعة بين البحيرة والجبل والسبخات. تعرف أشكل بمحمية الطيور المهاجرة التي تستقطب أنواعاً وأعداداً مهمة. وتختلف الأنواع الحيوانية الأخرى المنتشرة في هذا المتحف البيئي المفتوح، لكي تكون المحمية مزاراً سياحياً نوعياً. ومن الشمال الغربي إلى الجنوب الشرقي تختلف أنواع المحميات والحدائق الوطنية والمنتزهات الطبيعية والمناطق الأيكولوجية، لتكون هذه الجهة أي الجنوب الشرقي من ضمن المشاريع البيئية الضخمة التي وقع استثمارها نظراً للطبيعة الصحراوية المنتشرة بها وما يترتب عنه من إنماء كثيف للخاصيات الطبيعية في الكائنات الحية. عززت السياسات الوطنية المساهمة الفعالة للمشاريع السياحية الايكولوجية والثقافية البيئية، ليتم ضخ ميزانيات مهمة كمسعى جدي لتمكين استخدام مستديم للموارد الطبيعية وخلق فرص أساسية ومهمة لتنويع الأنشطة الاقتصادية والبنية الطبيعية. وتحتل محمية بوهدمة على دعم متميز من قبل السلطات المعنية بذلك على الصعيدين العالمي والوطني، لضمان اعتبارها إنجازاً بيئياً نوعياً لما يحتويه من ندرة للعنصر النباتي والحيواني والآثار واعتبارها منطقة تحول من الشمال إلى الجنوب في الجمهورية التونسية التي وقع الإقرار بأنها من ضمن محميات الكائنات الحية ومحيطها من طرف المنظمة العالمية للثقافة والتربية والعلوم سنة 1977. وعلى غرار التنوع الطبيعي بالجنوب التونسي فإن محمية سيدي الطوي تعرف تنوعاً متميزاً من العناصر الحيوانية التي يقع السهر على تدعيمها وحمايتها للحد من التصحر والتغيرات المناخية. وفي هذا الأساس فإن العملية التنشيطية والبحثية في ضرورات المحميات الطبيعية قد فسح المجال أمام طرق نوعية من الاستثمارات الثقافية والسياحية بالجهة. ومن خلال العلاقات التعبيرية التي يسعى الفنان المبدع في نسجها في رحاب الطبيعة البكر ولحمايتها وإنباتها كواجهة ثقافية فإن المشاريع السياحية الأيكولوجية والثقافة الفنية البيئية قد وقع إنماؤها وبخطى محتشمة في تونس، ليكون التدخل التجريبي والنوعي الفني من طرف الفنان التونسي، يعد حدثاً تعبيرياً واضحاً. ومن خلال دعم المشاريع التي تساهم في تعزيز التوازن البيئي وضمن نسج الشراكة بين التشكيلي والطبيعي فإن مشروع الدعم الذي وقع عليه الاختيار للفنان الأكاديمي سامي بشير قد عرف رحلة ميدانية تعبيرية لمنطقة سطح القمر بولاية تطاوين يناشد أثرها تجربة فن المكان والعرض المفتوح ضمن مقاربة معاصرة تجمع المشهدي والمناخي والجمالي معاً. تعرف هذه المنطقة الأيكولوجية ثراء طبيعياً يغمر الزائر بكل أشكال الندرة الخاصة بسباسبها ولون تربتها وأشكال عناصرها المتكلسة ليكون المكان مساحة طبيعية بكر يقع الترحل في ربوعه عبر أعمال الفنان المنبتة في الفضاء وذاكرة المكان.
لم يكن سامي بشير بعيداً عن محاولات الإنماء الثقافي وضرورة إدراج الفن والبيئة ضمن المشاريع الراهنة التي تقضي بفتح فرص الاستكشاف، فسبقه بذلك مشروع هدى غربال ووديع المهيري (ورد وكرطوش) على سفح جبل السمامة بالقصرين وضمنت محولة الثنائي الغوص في قلب سباسب المنطقة وحماية رمزية المكان وانفتاحه على المتلقي ضمن رحلة العرض المفتوح. ينفتح الفنان على الطبيعة ليقرأ المحمية بشكل مغاير فيثبت فيها العملية الإنشائية للبحث التشكيلي والمقاربات البصرية السمعية المتجددة، فيضمن بدوره مكاشفة التناسج القافي الفني البيئي ويساهم بدوره في صناعة فرص السياحة الأيكولوجية الفنية في غمار التحديات الطبيعية الراهنة.
لقد أنبت سامي بشير دوائره الزرقاء، المتشابهة والمختلفة، لتغوص بأحجامها المتفاوتة ودرجاتها اللونية الواحدة في فضاء رحب ينمي ذاكرة المكان ويسطع من خلاله سطح القمر بتشكلاته اللونية المتدرجة وكأنها أعين الرقيب في المحمية الممتدة المتعانقة بين الدلالة الفنية البصرية والطبيعية البيئية المتجددة.
إن الدراسات والبحوث الحثيثة في المشاريع البيئية الراهنة بتونس أو بالوطن العربي والأوروبي يضمن وقفة أساسية للإنسان أمام ضرورة الحد من الخروقات المهددة للبيئة والعمل جاهداً على تكريس نظم حماية مستديمة للطبيعة وإكسابها نظم تعايش سليم للبشرية تحت شعارات التنمية المستدامة للثقافة الفنية البيئية.

ذو صلة