على الرغم من أن السينما عمل جماعي، إلا أن جهد الجميع يذوب دائماً في رؤية المخرج، وعدد كتاب السيناريو اليوم الذين تستطيع تمييز بصمتهم بسهولة، لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة، وأحد هؤلاء هو بالتأكيد البريطاني (بيتر مورجان)، المُرشح لجائزتي (The Last King of Scotland) و(Frost/Nixon) و(The Queen) و(The Special Relationship) أوسكار، والمعروف بالعديد من الأفلام مثل وغيرها من أفلام، كما أنه كتب عدداً من المسلسلات التليفزيونية، من بينها مسلسل قصير من حلقتين عن الملك هنري الثامن. يتميز بيتر مورجان بكونه أفضل كاتب تخصص في الدراما السياسية، ساعده على ذلك خياله غير المحدود، وقراءته المدهشة لما بين السطور، والناتج دائماً مبهر، وهنا يكمن سر موهبته، فلو كان الأمر يقتصر على جمع أكبر كمية ممكنة من المعلومات، لما خرجت أعماله بهذا القدر من الاقتناع، لأنه يتجاوز المعلومة وقد لا يلتزم بها، سعياً لفهم شخصياته فهماً عميقاً، وهكذا يستطيع أن يستنبط ما خفي وراء حاجز الكاميرا والمعلومة المفقودة، آخر أعماله هو المسلسل الكبير (The Crown)، الذي يتناول حياة ملكة بريطانيا، إليزابيث الثانية منذ توليها الحكم وحتى اليوم.
السؤال الذي يطرح نفسه، ما الذي يمكن أن يكون جذاباً، في حياة إليزابيث الثانية وعائلتها، ليتم تناوله في عمل درامي ضخم! فمن ناحية، نظام الحكم البريطاني ملكي دستوري، ويعد منصب الملكة هامشياً إلى حد بعيد، فالبلاد تدار بواسطة رئيس الوزراء وحكومته، ومن الناحية الأخرى، فعند تولي إليزابيث الحكم، كانت الحرب العالمية الثانية انتهت منذ عدة سنوات، ولم تعد بريطانيا نفس الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس، وانحصر دورها السياسي وانكمش اقتصادها، وصعد نجم الولايات المتحدة الأمريكية لتصبح القوة العظمى. في الأفلام والمسلسلات التي تناولت ملوك بريطانيا وملكاتها منذ العصور الوسطى وحتى وقت قريب، كانت أحداثها متخمة بالصراعات السياسية الداخلية والخارجية، إضافة إلى الحروب وحركات التمرد والإصلاح، وغيرها من الأحداث الضخمة، التي تعد عامل جذب لتناولها في عشرات وربما مئات الساعات المتلفزة، والحقيقة أنه ومع اختلاف الزمن، مازالت الصراعات قائمة، إلا أنها اتخذت أشكالاً مغايرة، تناولها المسلسل بذكاء مدهش.
يمكن القول إن صراع الواجب ضد العاطفة، هو الصراع الذي أشعل شرارة كل الأحداث، فعندما انتصر الملك (إدوارد الثامن) عم الملكة لعاطفته، وتنازل عن العرش لوالدها الملك (جورج السادس)، ليتمكن من الزواج من (واليس سمبسون) المطلقة الأمريكية، التي يمنع الدستور البريطاني زواجه منها، طالما بقي زوجاها السابقان على قيد الحياة. ذلك الأمر قلب حياة شقيقه الأصغر رأساً على عقب، ليس فقط لكونه لم يتوقع يوماً أن يكون الملك، ولكنه لم يكن مؤهلاً ولا مُهيأ لتولي العرش، خصوصاً في الظروف القاسية التي مرت بها بلاده في الحرب العالمية الثانية، إضافة لضرورة إلهام شعبه بخطابات حماسية عبر الراديو، وهو يعاني من مشكلة التلعثم، وهي التفصيلة التي انبنت عليها بالكامل أحداث فيلم (The King›s Speech)، ثقل المسؤولية أثر كثيراً على صحته بالسلب، ومن ثم ألقيت المهمة إلى ابنته إليزابيث التي لم يتم إعدادها مطلقاً لتصبح ملكة في يوم من الأيام.
ألقى كل ذلك بظلاله بوضوح على علاقتها بزوجها، فعلى الرغم من تكرار خيانته لها، إلا أن مسألة انفصالهما مستحيلة، لأنها في المرتبة الأولى ستهدد استقرار الملكية البريطانية، وثانياً لأنها مازالت تحبه، فلو كان عمها قد تنازل عن العرش، فإنها قد أصبحت مسؤولة أمام التاريخ، بعودة الاستقرار والالتزام وأداء الواجب للتاج البريطاني، ولذلك حاولت في البداية إرضاءه بمنحه عدداً من المهمات الدبلوماسية حول العالم، بلا فائدة، وبخاصة بعدما قررت أن يظل اسم العائلة الحاكمة باسم (ويندسور) كما هو، إمعاناً في رسم صورة من الاستقرار والاستمرارية للعائلة، وهو ما أشعل غضب فيليب الذي قال إنه الرجل الوحيد في البلاد الذي لا يستطيع توريث اسمه لأولاده، وعندما وصلا إلى طريق مسدود أخبرها أنه يريد أن يحظى ببعض الاحترام، فهو يشعر أن طفله يلقى احتراماً أكثر منه، فردت أن الأمر طبيعي، فطفله هو ولي العهد، ما أدى في النهاية لترقيته لرتبة أمير، ولأنه لم يستطع الانسجام مع التقاليد ففي النهاية تقاعد عن أداء واجباته الملكية.
خلقت تلك النتيجة صراعاً من نوع آخر، صراع التقاليد ضد التغيير والعصرنة، وهو الصراع الذي شكّل ولوّن حياة الملكة منذ اليوم الأول لوفاة والدها، على سبيل المثال: لم تكن لديها رغبة للعيش في قصر باكنجهام، فلشهور طويلة أعدت مع زوجها منزلهما الخاص، ولكنها خضعت في النهاية لتقاليد المؤسسة، بحجة أن الخروج عليها، هو ما أدى إلى تنازل عمها عن العرش، يبدأ الأمر بتغيير بسيط، وينتهي بالتخلي عن الواجبات الملكية، وكلما حاولت إبداء رغبتها في أبسط الأمور وأتفهها، قوبلت بالرفض الناعم من قبل رجال الحاشية ووالدتها، وهكذا أصبحت سجينة التقاليد حتى وإن عفا عليها الزمن، وهو ما أدى لنتائج كارثية في النهاية.
ففي حادثة أبرفان التي وقعت عام 1966، حيث انهار جبل من الفحم على مدرسة، ما أدى لوفاة 144 ضحية كان معظمهم من الأطفال، رفضت الملكة الذهاب إلى موقع الحادث، بحجة أن ذلك دور رئيس الوزراء، بينما تذهب هي فقط إلى المستشفيات لاحقاً، ورغم نصيحة ومطالبة رئيس الوزراء لها بالذهاب إلى هناك، للتخفيف من آلام وأحزان العائلات المنكوبة، إلا أن رفضها استمر أسبوعاً كاملاً، بعدما أغضب ذلك المواطنين وانتقدتها الصحافة والإعلام بطريقة لاذعة، وهو ما سيتكرر بحذافيره بعد وفاة الأميرة (ديانا)، عندما رفضت الظهور أو الإدلاء بأية تصريحات أو تنكيس العلم، حتى اقترب الأمر من السخط الشعبي العارم، إلى أن رضخت في نهاية الأمر، وهذا ما لم يتغير طوال الوقت، فالصحفي (جون جريج) كتب عام 1957 مقالاً بعنوان (الملكية اليوم)، ينتقد فيه أداء الملكة المصطنع عبر الراديو، وشعور الشعب أنها آتية من عصور سحيقة، لا تواكب التطورات الاجتماعية والحياتية للشعب البريطاني، ولم ترضخ بسهولة لاقتراحاته، إلا بعدما لمست بنفسها ذلك الاستياء الشعبي منها، وعندها فقط وافقت على إلقاء كلمة بمناسبة الكريسماس عبر التليفزيون، من بين عدة تحديثات أخرى في تقاليد المؤسسة.
امرأة بهذه العقلية، كان من الطبيعي تماماً، أن تخلق صراعاً داخل أسرتها، صراع العائلة ككيان ضد الفردانية أو العائلة كأفراد، والتجلي الواضح لهذا الصراع، هو قصة تنصيب ابنها (تشارلز) أميراً على ويلز، تبدأ القصة باستهجان شعبي من مواطني ويلز، لدى اقتراب موعد تنصيب تشارلز أميراً عليهم، وذلك على خلفية أن لهم خصوصية ثقافية ولغة محلية ومشكلات حياتية، وتاريخاً قديماً من الصراع مع إنجلترا قبل أن ينضما تحت لواء المملكة المتحدة، ولا يعلم ذلك الوافد الغريب عنهم أي شيء عن كل ذلك، ومع هذا سيصبح أميرهم، ولرأب ذلك الصدع، ظهر اقتراح أن يلقي تشارلز حفل التنصيب باللغة الويلزية، وعليه أن يقيم هناك عدة أشهر لتعلمها، أو على الأقل تعلم إلقاء خطابه بلغة سليمة، وهناك على غرار ثيمة فيلم (الرقص مع الذئاب)، يقع تشارلز في حب اللغة والثقافة الويلزية، ويتعاطف مع مواطنيها وقضاياهم، وبناء على ذلك يقرر أن يكتب بنفسه خطاب التنصيب، الذي قال فيه كل ما يمكن أن يسعد مواطني ويلز، وكل ما يمكن أن يغضب عائلته، وهو ما ستعنفه عليه أمه الملكة، مؤكدة له أن رأيه لا يهم، وصوته لا يريد أحد أن يسمعه.
والتجلي الأهم لذلك الصراع، هو قصة حب كل من أختها (مارجريت) وابنها التي أفسدت كليهما، أحبت مارجريت (بيتر تاوزند)، وهو ضابط في سلاح الجو الملكي، وكان واحداً من رجال الحاشية المقربين لوالدها الملك جورج السادس، وعلى الرغم من أنه طلق زوجته، وأعلن عن رغبته في الزواج من مارجريت، إلا أن الكنيسة والمؤسسة الملكية، رفضت الزواج، وقامت بتعيين بيتر ملحقاً عسكرياً في دولة بعيدة، كشكل لائق لنفيه عن البلاد، كانت رغبة إليزابيث صادقة في مساعدة أختها، ولكن انصياعها للبروتوكولات المتبعة منعها من ذلك، وأخبرتها أن تنتظر عامين حتى تكمل الخامسة والعشرين من العمر، وعندها تستطيع الزواج منه، وبعد مرور المدة اللازمة، أخبرتها أنها كي تتزوجه يجب أن تتخلي عن ألقابها الملكية، وتخرج بعيداً عن العائلة، قصة الحب التي لم تكتمل تلك، دمرت حياة مارجريت إلى الأبد، وفشل زواجها من الفوتوغرافي (أنطوني أرمسترونغ جونز)، كان أكبر دليل على ذلك، بخلاف ما ارتكبته في علاقات أخرى كادت أن تدمر سمعة العائلة.
أما القصة الأشهر هي قصة حب تشارلز و(كاميلا)، وسبب شهرتها في الأساس يعود إلى أميرة ويلز ديانا، التي كانت الطرف المغضوب عليه من زوجها ومن عائلته، ولكنها كانت أميرة القلوب كما أطلق عليها ملايين من عشاقها حول العالم، فلسبب ما أو لآخر لم ترحب العائلة بزواج تشارلز من كاميلا، ربما لأنها فشلت في (اختبار بالمورال)، في حين نجحت فيه ديانا نجاحاً ساحقاً. نتعرف على قصة ذلك الاختبار الغريب، عندما تدعو الملكة رئيسة الوزراء (مارجريت تاتشر) وزوجها، لقضاء أسبوع مع العائلة في قلعة بالمورال، وهناك يتعرضان لاختبارات طوال الوقت، من ارتداء الملابس المناسبة في الأوقات المناسبة، أو الجاهزية للذهاب إلى الصيد، أو ممارسة بعض الألعاب السخيفة، المهم أن العائلة قررت تشجيع زواج كاميلا من رجل آخر، حتى تغلق باب زواجها من تشارلز إلى الأبد، وعجلت زواجه من ديانا، وكلما حاول أن يبدي رأيه أو يعبر عن صوته الخاص، يتم كتمانه كما حدث بعد خطاب تنصيبه، وهكذا ترك من يحب، ليتزوج ممن لا يحب، فقط لأن كيان العائلة رأى أن ذلك أنسب، وكانت النتيجة الطبيعية هو زواج فاشل بكل المقاييس، ونهاية مؤسفة.
ربما الصراع السياسي الوحيد الذي خاضته الملكة، هو صراعها مع رئيسة الوزراء تاتشر، التي كانت هي الأخرى تعاني من صراع الإصلاحات الاقتصادية الضرورية، في مقابل شعبيتها التي راحت تخسرها عاماً تلو الآخر، التزمت إليزابيث بالحيادية والتأييد لرؤساء وزرائها على الدوام، ربما عاتبت (تشرشل) ذات مرة، لأنه أخفى عليها حالته الصحية، أو عدم إدارته لملف الضباب الناتج عن مصانع الفحم بطريقة صحيحة، كما لامت على (إيدن) قراراته وتواطئه مع إسرائيل في حرب السويس دون العودة إليها، وربما وصل الأمر إلى الشك في ولاء (ويلسون)، ولكنها أبداً لم تخض حرباً شخصية وصحفية مع أحد إلا تاتشر، التي رفضت طلباتها بخصوص أحد مؤتمرات الكومنويلث، وبسبب سخط الشارع البريطاني نتيجة قراراتها السياسية والاقتصادية للبلاد، والتي كادت أن تقيم حرباً لا ضرورة لها، ما دفع أحد المواطنين بالتسلل إلى قصر باكنجهام، والنجاح في الوصول إلى فراش الملكة ليلاً، ومطالبته إياها بإبعاد تاتشر عن منصبها، في واحدة من أغرب المفارقات التي حدثت في التاريخ البريطاني.
الشيء الذي نستطيع استنتاجه من المسلسل، والذي يفسر لماذا يتخلى أفراد العائلة عن العرش أو عن ألقابه أو واجباته الملكية، وهو ما حدث مؤخراً مع الأمير (هاري) الذي ترك كل شيء وراءه، ورحل للعيش بين كندا والولايات المتحدة، هو الجو غير الصحي الذي يسود هذه العائلة، هناك شعور عام بالغيرة وعدم الرضا، زوج الملكة وأختها يشعرون بالغيرة من تاج الملكة، ويتمنون لو كان على رؤوسهم بدلاً منها، غيرة الملكة من تألق وشعبية (جاكي كينيدي) والأميرة ديانا، وغيرة تشارلز من ديانا التي تسحب منه كل الأضواء أينما ذهبوا، غيرة الأمير فيليب من رواد الفضاء، الذين حققوا إنجازاً لم يحلم بتحقيق ربعه، غيرة إخوة تشارلز منه لكونه ولي العهد، غيرة كاميلا من جمال وجاذبية ديانا، غيرة فيليب من زوج مارجريت الذي تزوجها بسهولة، بينما عانى هو ليكون لائقاً بأختها، الجميع يشعر بالغيرة والجميع تعيس ويعيش في خواء، والنتيجة الطبيعية لكل ذلك، هو ما ستكشف عنه الأيام.