حين يردد أحدهم أن غويا هو من صنع أوروبا لا نابليون، يراوح القول بين
الموقف العريض أو الخيال. وإذا قال كانتور (6 إبريل 1915 - 8 ديسمبر 1990)،
المسرحي البولندي، آخر كبار المسرح في العالم، يعود الأمر إلى سره الجهير،
حيث واجه الرجل أعظم أنواع العزلة في بلاده، لأنه لم ينتم إلى الحزب
الشيوعي ولم ينتمِ إلى الستر العاري للسلطة الغبية، من تجد في الحلال حراماً
وفي الحرام حلالاً. لم يحجم عن التصريح وهو في باريس، بلاد الإمبراطور
والقائد الفرنسي، لا لأن التصريح حقيقة الصباح، لأنه نما في أكفان السياسة، حيث لم يلاقِ حورية أمام جبال الخيبات ورعاتها.
لم يُسبح الرجل بحمد السلطة، ولم يجد بالانتماء إليها الطريق نحو البحر. هكذا، قبع الرجل في ظله المنتأى واجداً في حريته مجرته، واجداً في مسرحه ولوحته مجرته. لأن الرجل تشكيلي في المسرح ومسرحي في التشكيل. إنه واحد من أهم الفنانين التشكيليين في بولندا، نَقَّط بعض مسرحياته ببعض لوحاته، بحيث أضحت معرضاً تشكيلياً، دون حاجة إلى القسم أن ما يشاهد ويرى معرضاً للفن التشكيلي في مسرحية أو مسرحية تتشابك والفن التشكيلي، حتى يطلع الفن من دم الفن. لا راحة على سطح البحر. هكذا، عاش ينازل الأشباح دون نزال، فارشاً لهم الطرقات نحو الجنة وهو يخاطبهم كشخصية ناتئة في واحدة من لوحاته.
عاش الرجل أيامه وشهوره وسنواته، ليعيش لا ليربي الأمل المقطوع في بولندا. حذف حجرة في الماء الراكد، دون أن يتقصد أن يضحي معلماً للأجيال. سوف يقرأ الأولاد سيرته في المستقبل. سيرة من الكر مع سلطة لم يرتضِ يوماً أن يرتمي في أحضانها، لأنه إذ امتلك نزواته الوردية، إنما امتلكها ليخصصها بسحر المسرح وخرائط اللوحات بعباراتها الواسعة وسع المنصة. لم يدلِ كانتور ظله على الشقوق ولا على وجه الغيم. لم يخشَ أخذ المواقف في فضاء من المتاعب الجديرة بالقراءة والحساب. لم يهبْ المشاركة في أكتوبر البولندي بالعام 1955، حيث وجد البولنديون فيه مخاضهم على أمل ولادة جديدة، بالتحرر من النظام الشمولي أو النظام التوتاليتاري أو النظام الوحداني. خسر الحراك أمام السبخة الكلبية للنظام. إذاك خرج كانتور من دهر السياسة إلى تربية تجربة جديدة: مسرح كريكو. دخول في مرحلة جديدة، توجتها السلطات بحظر السفر على الفنانين المشاركين في الانتفاضة وبالتضييق على نشاطاتهم بالداخل. لا سفر. وحدهم من تواطؤوا قيض لهم أن يقدموا أعمالهم في أوروبا والأمريكيتين وآسيا. كاندريه فاجدا، السينمائي المعروف. وغروتوفسكي. كما جاء في واحد من مقابلات كانتور النادرة (مجلة القانون 1990). تصريحه أوقد ضجة بالعالم، زادها أن صاحبها اتهم غروتوفسكي بالاستفادة من وضعيته الانتهازية، لكي يعيد تقديم بعض اكتشافات كانتور حيثما حل مأذوناً من سلطات تقوس ظهرها كقطة، أمام نظرائه ومجايليه. أكد أن فاجدا بقي مستشاراً لوزير الثقافة على مدى. شارك الرجل في بناء الكهف. لم يدبر له مكيدة ولا ذهب إلى البيت ليسعد حين وجد النظام مأزوماً أو حين سقط مع جنياته في بلاد المنظومة الاشتراكية. لأنه لم بفرق بين سلطة وسلطة. واحدة تذوب والأخرى تقف أمام المصورين من أجل أخذ اللقطات الأولى بالحكم. السلطة سلطة عنده. نقطة على السطر. لم يجرم النظام هو من لم تسمع آهاته المكبوتة من عسف النظام وتجبره. لأن الأنظمة، كل الأنظمة، تنتج فنوناً لا تفعل سوى أن تقدم البيعة لمنتجيها.
لم يخشَ الرجل أن يقف على مقاماته أو عطر المجانين كما رآها الكثيرون ممن لم يجدوا فيها سوى سحابات بريئة لا تدفع الأنظمة إلى الخشية منها. هكذا قاوم السلطة بدفق من الحركات الحسنى، بالرسم والمسرح مع تسعة من الفنانين التشكيليين وجدوا أن لا بد من الوقوف في مواجهة النزف واللعب على الحافات القاتلة. لأنهم وجدوا أنفسهم يبحثون عن الحرية المفقودة بالحربة الموجودة. جماعة لا هدف لها سوى القيامة. وجد كانتور، وسط الصراع على الخلافة وفضاءات الخلافة أن الشعور بالحرية أهم من الحرية. تغريدة من تغريداته. واجه الحذف من (الدوغم) الشيوعي وديكتاتورية البروليتاريا والستالينية بمواجهة عقده الأساسية: القومية والوطنية. ساهم الدين بانهيار المنظومة الداخلية في بولندا والاتحاد السوفياتي وبلدان المنظومة الاشتراكية. لم يلطأ الرجل في لظاه على الرغم من الهجوم المستمر عليه وعلى أصدقائه وزملائه ورفاقه، لأنه لم يجد فيه صالته البيضاء. ولأنه لم يجد أرضه الحية ولا أرصفته الحية إلا في حريته الكاملة. النظام نظام، قال. وقال إن كل خطاب ارتكز على القومية والوطنية هو خطاب فاشل. لم يمل من القول هذا. وقال إن الفن ليس صورة من صور الحياة، هو أحد الأجوبة عن أسئلة لا تنفك الحياة تطرحها على البشر. وقال إن الأهم في الحياة يقبع في الضرورة الملحة لإيجاد الأجوبة عن الأسئلة. حين نسي البولنديون عادة الجواب سقطت بولندا في غبار الستالينية، كما سقط فنانوها في الواقعية الاشتراكية. وشم لم يجد فيه كانتور إلا الماء الوسخ/ المسخ والعتمة.
سجن كانتور في بولندا. هذا سجن. ثمة سجن آخر، هو منزل العائلة. قال إنه عاش في سجنين، سجن السلطة وسجن العائلة. وكلما أراد أن يتخلص من السجنين، قصد بيت جدته، حيث لم يجد حريته إلا في بيتها المصنوع من خشب أشجار غابات بولندا العظيمة، ما استعمله في صناعة ديكورات مسرحياته. ولأنه ضد الدوغم حلم ببلد كوسموبوليتي كما حلم بأوروبا كوسموبوليتية. ثم إنه إذ امتلك مواقفه تجاه الثقافة في بلاده، امتلك موقفه من الثقافة الغربية. لأنه لم يجد فيها جناحاً، قدر ما وجد فيها ثقافة ذات نظم قاسية تختفي تحت قشور الديمقراطية الممنوحة على المازورة، على ما صرح وقال.
عميقٌ، عميقٌ، عميقٌ. عنده: أنه بقي حراً من خلال الإبداع، حتى حين ألقى النظام به في السجون. وحين تعرض إلى كل أنواع التنكيل والتضييق، حين وضعت إنتاجاته في خانة الممنوعات. لا يسمح له بتقديم مسرحية. أو تمنع المسرحية، بعد عرضها الافتتاحي، لأنها (غير مفهومة أو أنها بلا معنى). وحين وصفه رجال النظام بالأحمق والبهيمة. كل من عارضوا النظام إما حمقى أو بهائم. ما اهتم بما وصف به. قال إن العيش في البؤس لا يسمح سوى بقطاف البؤس. عشنا في البؤس الفعلي، قال. وقال إن إخراج مسرحيات بطريقة مستقلة بتلك الحقبة مستحيل. وإنه ارتد إلى مرسمه لكي يرسم وحيداً، بعيداً من الضغوط والشروط ونزق رجال المخابرات وجندرمة النظام.
النظام نظام. النظام واحد بأوروبا الشرقية وأوروبا الغربية. وجهان لعملة واحدة على ما يقال. أما علاقته بالموت، هي علاقة اللوعة بالملح والملح باللوعة. لم يهب الموت، غير أن مسرحه تكلم عليه كما لو أنه يرقص معه. سمي مسرحه بمسرح الموت، غير أنه سماه مسرح الموت والحب في واحدة من الجغرافيات الزائحة إلا عند من امتلك أن يتبع برأسه خطو الموت والحب بالوقت ذاته. علاقته بالموت جوهرية، من علاقة تدمير المسيحي لذاته كجزء من حياته، كجزء من الحياة. لم يشرد إلى أعالي جبال التيبت، إلا أن علاقته بالموت جاءت من مرضه، مرض لازمه على مدى سنوات.
اكتشف العالم مسرح كانتور بالعام 1972، حين وجده العالم في مدار غير مداره. حين وجده في مهرجان أفينيون المسرحي، مهرجان جان فيلار وجيرار فيليب، تعويذة المسرحي أمام أهوال الحرب العالمية الثانية وخرابها العظيم.
عاش في باريس الكوسموبوليتية، بعد أن قدم (الصف الميت) في أفينيون مدينة البابوات في الجنوب الفرنسي الساحر. دارس فن الديكور والهندسة المعمارية التعبيرية، تأثر بالمنهج الدادائي وبالمدرسة المستقبلية. أبرز رموز الأخيرة مايرخولد وماياكوفسكي وفاختانكوف. غير أنه رأى تفصيلات مسرحياته الأساسية في منهج المسرحي البولندي وايزاك، حتى أنه كتب مسرحية بعنوان (ويزاك، ويزاك). وأخرج له مسرحيته (وعاء الماء). وكما تأثر كانتور بويزاك، تأثر الأخير بغوغول المصاب بمرض عصبي. ثم إن كانتور أعجب دون عرج بالشاعر والمنظر المسرحي أنطونان آرتو وطقسيته وحسيته، من عانى بدوره من مرض عصبي وأدخل إلى مصحة المرضى العقليين. وهو مزج بين طروحاته وطروحات كريغ. ثم إن دورنمات أشع في حياة كانتور كمرجع في الكتابة (الأول تبعيدي، تغريبي بمعنى آخر. أو بريشتي بالتحديد).
اللون الأسود لونه، حيث ألحمه بمسرحه، بمزاج أميل إلى التفاؤل. أدار أبطال مسرحياته أمام الجمهور، بتصميمات درامية أظهرتهم ببنطلونات سوداء اللون وجاكيتات سوداء اللون (قصيرة وطويلة) وبقبعات دربي سوداء (قبعة تشارلي تشابلن). كما حفلت أعماله المستقبلية المنهج بوجود توأمين مثلا الازدواجية الكونية: الحياة والموت. مسرح كانتور ضد الحكي، ضد الحكاية. الكلام عنده نباح. غير أنه في ميله إلى الصمت الشعري، بقي ضد الإيماء. مسرحياته لا حوارية، بيد أنها لا إيمائية. مسرح كصاحبه. مسرح ذاتي إلى درجة الاختباء بالعمق الشخصي لصاحبه. لذا يرفض أن يروي ما حدث له في سجون النظام، كما يرفض الكلام على (الاستشهاد) (الأهلة من كانتور نفسه). الإبداع في مسرحه واقع لا علاقة له بعالم السجون والجرائم. تكمن دراماه في التهريج، تحيط به ستائر سوداء مرعبة بحرارة وأليفة بحرارة. جزء من مده الخاص. ثم إنه حرك أبطاله بتقنيات الدمى(كريغ) كما أوجد المانيكانات على منصاته.
وكما تحرك أبطال مسرحياته في أجوائها الخارجية على إيقاعاتها الداخلية في سيمترية سينوغرافية، تحرك كانتور. قدم ما أدهش العالم في (الصف الميت) و(ليذهب الفنانون إلى الجحيم) و(اليوم عيد ميلادي) وغيرها من الأعمال، باحثاً عن حرية لم يجدها إلا في الموت. حين مات تحرر بعد حياة حافلة. وإذ نشر نعيه في سطرين في واحدة من الوكالات الأجنبية، لم تتكور تجربته في كلمات قصيرة، لأنها أبعد من الكلمات. النعي نشر خبر ميت. إلا أن موت كانتور موت مستحيل. لأن ما جرى التفكير فيه لا يمكن رده إلى العدم. كاره الحكايا، ربى قوافل من الحكايات، ومضى إلى حيث كلما التفت يفرح.