لعل ما جعل خريطة الطريق تختلط على الساسة في مسرحيات (شكسبير) أن المتربع على سلطة العرش كان أحد الحضور المبتهجين، الملكة نفسها. فتلك العروض للمسرحيات التاريخية بما فيها من أحداث وتطورات تقوم على القتل والاغتيال والغدر، كانت تبيّن أن التخلص من المنافسين السياسيين، الحقيقيين أو المحتملين، هو الطريق الأمثل للوصول إلى كرسي الحكم، الذي كان يرمز إلى السلطة الوحيدة في القرن السادس عشر (1533 - 1603) في بريطانيا وعددٍ من الممالك الأوروبية، وهو العصر الذهبي لازدهار (وليم شكسبير) أديباً وشاعراً ومسرحياً عالمياً. ولذلك، غدت أغلب تلك المسرحيات، بمرور الوقت، خطة سياسية للحالمين بالسلطة في العالم.
لكن هل سوف يصدّق وجهة النظر هذه المعجبون، وغير المعجبين، بمسرحيات شكسبير؟ قد يصعب عليهم تقبّل ذلك أول مرة.
إن قراءة لمسرحيّتي (رتشارد الثالث) وقبلها (رتشارد الثاني) تحديداً سوف توحي لنا كقراء عرب معاصرين أن (شكسبير) يتحدّث عن أيامنا العربية، فما يقوله فيه شبه كبير لجانب من تاريخنا العربي على مدى السبعين سنة الماضية، أي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، أو لنقل منذ نهاية (عصر الاستقلالات) عن المستعمر الأجنبي، كما سمّاه بعض المؤخرين، بغض النظر عن المفارقة التي تحملها عبارة (عصر الاستقلالات)، إذ ما الداعي لقيام (الثورات) في بلد نال استقلاله الوطني؟! وتلك قصة تستحق العودة إليها يوماً.
إن صورة التاريخ التي يقدمها لنا (شكسبير) في مسرحياته فرضت نفسها علينا بقوة، لتكون أشبَه بسُلّمٍ فَخمٍ يصعد عليه موكبٌ مُستَمرٌ من الملوك والملكات الأوروبيات، وكلّ درجة فيه إلى الأعلى هي مؤشِّر على القتل والغدر، وهي الدرجة التي تقرّب السلطة أو توطّدها أو تبعدها، كما في مسرحية (ماكبث) حيث نسمع أحد ملوك أسكتلندا يقول: (تلك درجةٌ إمّا أن أقع عليها أو أقفز فوقها). لكن عند الوصول إلى أعلى درجةٍ في السُلّم لا يبقى سوى قفزةٍ واحدةٍ إلى الهاوية. وهكذا فعل جميع الملوك/الملكات في المسرحيات الشكسبيرية التاريخية، يصعدون على الدرجات ذاتها ويقفزون من آخر درجة إلى حتفهم.
أليس في ذلك ما نجده في التاريخ المعاصر لبعض بلداننا العربية منذ منتصف القرن الماضي؟ حيث الكل راغب بالسلطة والمال فيقوم بانقلاب أوّل ثم تتبعه انقلابات أخرى لا تختلف عن بعضها سوى في الأسماء، لتبقى الأفعال هي ذاتها، ولتبقى أحمال المال تهرّب إلى الخارج لتضمن مستقبلاً مريحاً لرجال (العهد الثوري) بعد أن يطيح بهم (ثوريون) جدد باسم (الإنقاذ). والغريب أن أولئك الذين هرّبوا الأموال إلى الخارج لضمان مستقبلهم، هم أنفسم أيضاً قدموا من هذا (الخارج) نفسه!
واللحن الرئيس في (سوناتات شكسبير) المسرحيّة هذه المرّة، هو أن المشاهد العربي المعاصر سوف يظل يرى فيها كما في مسرحيّ (ماكبث) و(هاملت) تحديداً، صوَراً من الجريمة المتجدّدة والصادمة إلى حد كبير.