البناية الضخمة تنهار حتماً إذا كان هيكلها الحديدي ضعيفاً أو لا وجود له وكثير من الناس يعدون البناية من ناطحات السحاب عملاً من الأعمال الخرافية في الجمال، لإشرافها على مدينة من المدن، ومثل هذه البناية، بواجهتها الجذابة المزخرفة لا توحي للعين المجردة إلا قليلاً بما تتكون منه عناصرها البنائية، إلا أن هذه العناصر موجودة بحذافيرها في تتابع سليم معقول متماسك من الناحية الهندسية المعمارية، وقوة البناء الحقيقية، تنبئ عن نفسها حينما تناطح الرياح العاتية المسلطة على ما لا يحصى من الأقدام دون أن تزعزع منها حجراً واحداً، كذلك فإن العرض المسرحي حينما يشتغل على مضمون قوي وبهي ومتماسك يحتاج أيضاً إلى نوع خاص من الأذهان لكي تتولى صياغة شكل عصري، قادر على الوصول إلى حالة من التكامل بين المحتوى والفرجة.
فصناعة الفرجة تعني بلا شك تكامل شكل العرض، وهو الهيئة التي يتخذها العمل مع مضمونه، وهو ما يقدمه العرض من معنى ويطرحه من أفكار. وتكامل الشكل مع المضمون في العرض المسرحي هو أهم أسباب تميز بعض العروض عما سواها، وذلك التكامل لم يأت من فراغ أو محض الصدفة، بل جاء نتيجة اشتغال واعٍ ودؤوب وعميق من قبل المخرج، بدءاً باختياره للنص الجيد، مرورا باختياره لممثلين جيدين، وكذلك تعاونه مع مجموعة واعية في الديكور والإضاءة والملابس والمؤثرات الصوتية، وهذا الأخير هو رمانة ميزان العرض المسرحي، لكون معظم العروض المسرحية التي تقدم تعاني من ارتباك واضح في مسألة تناغم مكملات العرض مع أداء الممثل والرؤية الإخراجية، فترى العرض مبهراً أيام التمارين، وحينما ينتقل العرض إلى الخشبة ليقدم للجمهور، يظهر الخلل الواضح في تعامل الممثلين مع أدوات العرض، فينبهر الجمهور بالصورة في البداية ثم سرعان ما يبدأ التململ ومغادرة قاعة العرض بعد فترة وجيزة.
إن المحتوى بما فيه من أفكار ورسائل إنسانية، والإبهار الذي يريد المخرج الوصول إليه من خلال العرض، لن يكون لهما أي معنى إن لم يكن هنالك اشتغال كبير على تقنيات العرض قبل فترة ليست بالقصيرة، من أجل الذهاب بالعرض بعيداً والدخول إلى مسارات التميز، والقفز فوق العثرات التي تضع المخرج باعتباره المسؤول الأول عن العرض، في خانة الندم والأسف على ما ضيعه من جهود كبيرة وطويلة في عرض مسرحي لم يتمكن الممثلون فيه من التعامل مع فضاء العرض بالصورة المرجوة والمطلوبة.
العرض يبني نفسه حدثاً بحدث، حركة بحركة، كلمة بكلمة، نقطة بنقطة، وعندما يصل مرحلة الإنجاز يفر من أيدينا ويصبح شيئاً لا نمتلكه تماماً، وهكذا تنقلب المعادلة بحيث نصبح نحن واحداً من ممتلكاته وجزءاً من أجزائه الضرورية، من أجل ذلك علينا أن نقدم أنفسنا بشكل أنيق يليق بنا.
في العديد من المهرجانات المسرحية، تركز معظم تقارير وتوصيات لجان التحكيم على اختلاف توجهاتها وتعدد دورات المهرجان والمشاركين فيه، على الخلل ذاته، ويكاد لا يخلو تقرير اللجان منها، وهو الاستسهال في التعاطي مع المسرح، وعدم جاهزية العروض لعدم وجود إعداد مبكر للعرض مما يؤدي إلى تواضع مستواها، والأهم من ذلك، تؤكد اللجان في تقاريرها على ضعف توظيف التقنيات والمكملات المسرحية التي تضفي على العروض جماليات بصرية من مفردات السينوغرافيا.
ولأننا في عصر تغير فيه نوع التعاطي مع المسرح، وباتت الخشبة تحت سطوة التقنيات، بات لزاماً على كل مخرج أن يتقن التعامل مع هذه الأدوات أو أن يستغني عنها ويركز في اشتغاله على النص والممثلين وهذا أضعف الإيمان، إذ لم يعد الجمهور يتفاعل مع الخشبة من دون التقنيات كحاله قبل ظهورها، وقد صادرت السينوغرافيا لصالحها من حيث المؤثرات: كالإضاءة، والصوت، والصورة وكل ما يحدد فضاء المسرح، وبحيث تتحول خشبة المسرح إلى عالم كامل متكامل بكل عناصره، وكأنه حياة أخرى داخل الحياة التي تحتوي على المكان، والجمهور.
إن الفهم الموحد للمسرحية إنما ينشأ من الجدل، وفي توافق الأفكار والمشاعر المستثارة، ونشاط المخرج، وجوهر فنه المبدع إنما يكمنان في توحيد الجهود الخلاقة لفرقة المسرح، فهو الذي يوحد ويشكل ويوجه المواهب المتعددة في جرة واحدة للفكرة الفنية، ويعطي العرض المسرحي طابعه ولونه ونغمته الخاصة، والمخرج بتمكنه من وسائل التعبير المسرحية، وبقدرته على خلق عالم متكامل من الأصوات والألوان والإيقاعات يستطيع أن يحكي أكثر القصص والملاحم تشويقاً عن حياة الإنسان في ماضيه وحاضره ومستقبله. من أجل هذا يجب أن ينطوي قلب المخرج على حب عظيم للإنسان، وأن تكون لديه نظرته المستقلة في الحياة، وحاجة دائمة في التكلم عنها بولع كبير. يجب على المخرج أن يناضل في سبيل الأفكار الخيرة، وأن يكره بضراوة كل ما هو معوج، ومتخلف ومهدم للإنسان.
وحين نتحدث عن وحدة المحتوى والفرجة في العرض المسرحي المعاصر، غالباً ما ننسى أن هذه الوحدة إنما تقوم على أساس التعاون الفكري، وانسجام المفهوم الجمالي بين جميع أعضاء الفرقة المسرحية. إن جهود المخرج حتى إذا توافرت لديه خطة إخراج مشوقة وعميقة، وكذلك عبقرية الأداء التمثيلي لعدد من الممثلين، لا تكفي وحدها لولادة عرض مسرحي متناسق، ومتناغم في جميع أجزائه. إن هذه القوى المختلفة إنما تتوحد في سعي واحد، وتبدأ فعلها في التأثير على المتفرج، عندما يتشرب العرض المسرحي بالروح العامة للفرقة، ويظهر فيه موقفها الموحد من الفن. إن العرض المسرحي المشبع بالفعل الحيوي الأصيل، والذي يتخلله هدف أعلى واحد، يشير أكثر من أي شيء إلى وحدة المبادئ الفنية عند الممثلين في المسرح. وإذا لم تتوافر وحدة المبادئ هذه، فإنه لا مجال لإخفاء عدم التناسق بين كل من الممثلين والمخرج وفنان الديكور، ذلك أن العرض سيظهر ولا ريب، في صورة أجزاء منفصلة غير منسجمة جمالياً. فإذا افترضنا أن جولييت تعيش على دورها وتتواجد فيه، في حين أن الممثل الذي يؤدي دور روميو يندفع إلى الأضواء الأمامية ويلقي دوره في خطابية، فإنه من الطبيعي ألا يتقبل المتفرج كلاً من روميو وجولييت كوحدة فنية. إن الفعل الحيوي بين الممثلين يصبح أمراً غير ممكن إذا لم يتحقق منهج فني موحد في الفرقة المسرحية، ذلك أن الممثلين في مثل هذه الحالة سوف يتحدثون بلغات مختلفة حتماً، وكما أنه توجد أدوار مكونة فنياً، وأخرى ممثلة، توجد عروض مسرحية مكونة فنياً وأخر مصنوعة.
وبالعودة الى مضمون النص المسرحي المعاصر فهو لا يقتصر على الفكرة فقط فيقف عندها، بل إنه يتعداها إلى جمالية الأسلوب، وفنية المعالجة. ولعلي أرى أن من جماليات النص الحديث هو انفصاله عن الخطاب التقليدي، وجماليات السرد تتشكل من خلال أساليب حديثة، ومتنوعة سواء أكان ممسرحاً، أو في إطار القصة. فالمخرج هو الذي يراه المتفرج في كل شيء، في الميزانسين والديكور والمؤثرات الصوتية والإضاءة وفي المشاهد الجماعية... ويدخل في اختصاص المخرج جميع عناصر العرض المسرحي وفي مقدمتها إبداع الممثل الذي يجب أن ينسجم مع بقية العناصر في كل واحد متكامل، يؤسس لجماليات العرض.
والجماليات هنا تلك القوة، والطاقة التي يمتلكها النص المسرحي بتقنياته، وبمضمونه فيؤثر في المتلقي. ولا شك أن التقنيات، والأسلوب يؤثران كما المضمون، فالجماليات تنبثق من الأمرين معاً، ولا يمكن فصل أحدهما عن الآخر. والبنية الموجودة في النص تلقى استجابتها، وصداها، والوعي بها، وكذلك الإحساس الجمالي بها لدى المتلقي. والمتعة تكون بالتقنيات وبالتجارب، ففكرة الجماليات ليست في النص فقط، بل هي الحبل السري الجميل الذي يربط بين الطاقة المشعة من النص وبين المتلقي. وعندما تنعكس ضوءاً في وجدان هذا المتلقي، فهل لنا أن نُغفل كل ذلك الآن في عصر التواصل والاتصال وقد أصبح لدينا عنوان جديد هو الجماليات الإلكترونية في الخطاب المعاصر؟ لذلك أصبحت عصرنة الخطاب المسرحي ضرورة ولم تعد اختياراً.