أقام البعض شبكات سرية للكلام، جاء فيها أن جنود الاحتلال قبضوا على ناجي في منزله في مخيم عين الحلوة. وأنهم عذبوه، وأنهم، حين اعتبروا أن تهريب كاريكاتيراته إلى بيروت كتهريب السلاح، فقأوا عينيه، ثم صفوه. ما وضعه في دائرة الاهتمامات البارزة من أصدقائه وزملائه ورفاقه بصحيفة (السفير). الجو جو هزيمة، جو مهزوم دفع بالأصدقاء إلى ارتكاب خطيئة لا خطأ. الكلام على موت ناجي خطيئة، حرام، لن يستطع أحد أن يلدها إلا إذا حبل بها. لم أره، لم أستطع أن أراه وسط عواصف القصف المبتذل وغارات من ارتدوا شهوات الموت على البشر والأغصان والغيم. أين يضع الرسام رذاذ حبر يديه، حين يوقفه المحتلون في نحو من أنحاء الشاطئ، كما درجوا مذ راحوا يبحثون عن الوجوه والأسماء مع خونة يرتدون أقنعة سوداء قطفوها من جبنهم وأحقادهم. احتمالات سقوط ناجي عن شجرة الحياة، بهز الشجرة من لصوص الوقت، يقود إلى الوجع والتوجع. وجع كوجع الفراش.
ليس من الممتع إحصاء القتلى والجرحى، إلا أن هذه العملية أضحت كأكل الخبز بعد بله بعرق الجسد. المدهش، أن أحداً لم يفقد صوابه وهو على عتبة الموت.
لن يكبر حنظلة إذن. لن يكبر الولد، بعد أن طوى الاحتلال راية ناجي، من فتق أجساد القيادات ودفعها إلى الارتجاف. ثمة أمل بحياة من لا يخاف الموت. هكذا، راحت سنابل النجاة ترتفع في حقول الموت، حتى سمع حفيف من أسفل حديقة (السفير)، حيث راح البعض يردد أن أجمل ما في الحياة الشيخوخة. إنها لحظة ناجي. لحظة خروج الزر من العروة. ناجي دقيق القامة، بشعر أبيض مجعد. ناجي بجسد نحيف كقصبة وعينين لا يقدر النوم أن ينام فيهما. عينا صقر.
كوَّر الرجل صوته على درج الصحيفة، تكلم بصوت متقافز، كامل، كما لو أن أصل الصوت رغوة. صوت قصير كالوقت القصير، يسيل على الأدراج بنشوة التطهر من العيش في كبت الاحتلال وإرهابه. حين وجدته، وجدت خضرة شجر الزيتون في الشجرة، قريته، من صادقت شياطين الماء لتنجو من الاحتلال. رجل خرج من عراء الموت إلى عجيج الحياة. لم يضع طاقية الإخفاء. جل ما فعل أنه اغتسل بفضائل النجاة على الطريق الطويل إلى بيروت، حين خرج من دولة صيدا الصغرى إلى دولة السفير. صديقه الوحيد جسده ونمله في عقله. أهدى نفسه لواحدة من سيارات الأجرة، وهي أهدته الطاعة. روى الرجل، أنه كلما امتدت سيارة الأجرة إلى أحد حواجز الاحتلال غادرها لينهض إليها من جديد، بعد أن تغادر الحاجز. يبقى بالسيارة، ثم يتركها قبل الحاجز، ليعود إليها بعد أن تبلغه يفي سيره. تخطى مناطق فرك الأصابع وارتجاف القدمين. مشى كالحليب نصف المسافة إلى بيروت. وقد بدا كأغنى التجار وهو يلعب بربطة خبز تجوع إلى الجائعين. وكرتونة بيض متروكة في خدرها الأبيض. مغازلة الطرقات فن جديد على اللبنانيين والفلسطينيين، اختراعها، تحقيقها، رشها بالناجين، من انزلقوا على الطرقات كما ينزلقون في معاطفهم. فاز ناجي بنجاته، حين قشط الحواجز بواحدة من الألعاب أو وثبات البجع بين الحواجز. ولأنه يبدو كعجوز يتيم، راح من يلاحظه من جنود العدو يدعونه بالحج. ويدعونه إلى أخذ الحيطة والحذر. كأنهم راحوا يدربون شفاههم، جنود يهود من بلاد المغرب، على قول حج كلما رأوه يمد جسده، كما يمد أصابعه على رسم. روى أنه عاش بفعل المصادفة والحظ. استلزم الأمر توافر خط مع واحد من أبطال تلك العاصفة، من صوَّر للإسرائيليين أنه علامة فارقة بالتعامل، لمَّا أنه سمح للمقاتلين والمناضلين بالفرار من منازلهم، كلما جاء الإسرائيليون إلى المنازل لاعتقالهم. يهيئ لهم الفرار ويفرون. جاؤوا إلى منزل ناجي مرة بعد أخرى، كما لو أنهم سبحة تكر حباتها حبة بعد أخرى. كل ذي وضع حرج اقتاده رجال المقاومة الوطنية، بعد أن تنكروا بلباس القوى النظامية الإسرائيلية أو شدوا إراداتهم وحدها إلى معارج الأزقة، بعد أن فتحوها بأيديهم. أو عبر الثغر بالجدران. مهمات بالغة الخطورة تنفذ على أعين الإسرائيليين، أو عمليات انتحارية أو شبه انتحارية. خرج ناجي دون ارتعاش بين لحظتي دهم، بعد أن وقف وأحد العملاء متواجهين على شاطئ صيدا وحدسه ينبئه أن ضبطه وسقوطه وقع بعيداً من لحظات الاشتباك المباشر.
أيام، رصد خلالها الحرب في منزله، لم يخرج خلالها ليختلط بالجموع بالمدينة. غير أنه مع فقدان الأمن والرغيف وحبة الدواء وسط إطلاق نيران الرشاشات والقواذف الصاروخية والمدفعية الثقيلة وتصفية المواطنين، ما عاد يؤوي إلى منزله، حين تخفى بزوايا المنازل المهجورة وغرفها الداخلية الضيقة أو زواياها. عبوره إلى بيروت مرور بالحتف، حيث سمع هسيس أجسام القناصة وراء قناصاتهم. وشاهد القتلى في الشوارع والساحات والأزقة. والجرحى ينزفون وأنقاض مبان عصفت بها الانفجارات والتفجيرات وقذائف المدافع. غادر بثقة أكيدة بأن الأسرة ستنجو، كما سينجو حين ظهر على ما شاع عنه. قدم بعينين من عيون الشرق، ووصل بروح مقاوم لا ضحية. لم يزل كما هو لا كما تركته الحرب، القوي، الصلب.
لا نافدة مخلعة ولا باب مسروق. هذا الرجل حرج، غابة، لم يستلزم الأصدقاء قدراً من الصخب أو الجدل ليفسحوا المسافات بين شجرها ليروي ما رآه وعاناه، خصوصاً بعد أن رأى الجرافات تهيل التراب على عشرات الشهداء في حفرة واحدة، نكشتها في وسط المدينة مغيرة معالمها إلى الأبد.
غطت كرتونة البيض ورفيقتها ربطة الخبز بعض الحاجات. لم يتعذر نزعه من بين الأصدقاء، ليعطي واحدة من أضيق الغرف بالطابق الرابع إلى جانب غرفة التحرير. سرير عسكري وخزانة مربعة. بينهما مكتب حديدي رسم عليه ما سوف يؤرخ لما عبره الناس والمقاتلون في تلك الحرب الشرسة. هناك، رسم جمالاته وسط قباحة الحرب. لهجته الفلسطينية ربيعه. ولكنه كلما أكب على ورقة رسم، أضحى العالم لهجته. سوف تكشف الأيام، أن الرجل لا يخشى القرار وأنه لا يرسم فقط، إذ يضع العبوات الناسفة في رسومه. عنده من يستحق الصداقة، ومن يستحق الإعدام. وإذا غضب، على من يقف في وجهه أن يحاذر. ذلك أن ناجي مقهى غير مطابق للمواصفات.
ذلك اليوم، شهد حضور المؤمنين بالبقاء في بيروت، لكي يعثروا على أنفسهم. ذلك اليوم، سوف ينقل أجمل الصور المكبرة لصداقة عظيمة. ذلك اليوم، أضحى الطابق الرابع محجة. والزملاء حجاج. وناجي شيخ المسافات إلى الصدق والمفاجأة والدهشة. ما حدث حدث، وهو حكر على ناجي والرفاق.
اليوم الآخر بعد الحصار
أعدم ناجي العلي، حين خرج الفلسطينيون من بيروت. إعدام خارج على كل مألوف. قوات الاحتلال لاتزال ترابض في محيط بيروت، قوات حجرت عليها القوات المشتركة، بعد معارك ملحمية فخخها المقاتلون بطقوس لن يشاهد العالم مثيلاً لها. استعملوا كل ما لا يتناسب وقواعد الحروب. حين تفرغ القواذف، يستل المقاتل سكيناً أو مسدساً وهو يواجه دبابات الاجتياح. أو يعبط المقاتل الدبابة بحزامه الناسف. أو يصرخ وهو يعتقد أن الصراخ سوف يفجرها ويحولها إلى قطعة محروقة.
لا تخمين. إنها الحقيقة. الفلسطينيون من الإهمال إلى الحريق، ثم إلى الهجرة من جديد. تضج المناطق بعشرات آلاف البشر. عجيبة. حيث أكل الخلاء المدينة، تحت كل أنواع الاعتداء. البارجة قديسة سوداء لجيش أسود بالبحر الأبيض المتوسط. الطائرة شبح الفضاء. الآليات كبريت الأرض. لم يستطع أحد أن يغير في معادلة الخروج، بتهديد الإسرائيليين والأمريكيين ببقاء الوضع على ما هو عليه، وزيادة تفلته وتوسعه، لتحرق النار كل شيء. عشرات الآلاف، عند أبواب الملعب البلدي ومرفأ بيروت وأماكن التجمع الأخرى، المحددة بحسب اتفاق المبعوث الأمريكي فيليب حبيب والسلطات اللبنانية وحكومة الاحتلال والعدوان.
حين صعد ياسر عرفات إلى السفينة، فرغت الشوارع من المارة والكاميرات ومطلقي النار، من تجمعوا ليودعوا الفلسطينيين. وليد جنبلاط، السياسي اللبناني المعروف، يطلق النار من كلاشينكوفه. رؤساء الحكومات، الوزراء، النواب، بشر ملونون. والمثقفون الفلسطينيون والعرب يقفزون إلى الشاحنات الفلسطينية، من سليم بركات إلى نوري الجراح وهاشم شفيق وغيرهم. نهب الاجتياح الإسرائيلي وجودهم بضربة واحدة. لم يوجه ناجي العلي إلى مراكز الحدث الجلل. لم يبرح عقاره الصغير بالطبقة الرابعة من السفير. وحين وجدته هناك، وجدته كمتهم بتفخيخ المدينة بالمتفجرات، من يتشهى له الآخرون العقاب والوطء والإذلال. غاضب. لم تفد التحقيقات أنه ذاب، ولكنه ذاب. لم يبقَ منه سوى خجله مما يفعل العالم بالعالم. ساد الجنون في مشيته وهو يحاول الإضاءة على أسباب الهجرة الجديدة. لم يكن عاشق عتمة، إلا أنني أخرجته عن طاعة نفسه بعد أن أقنعته بالخروج إلى صالة سينما الحمرا. لم أسمح له أن يستنقع الحزن واليأس في جسده. نشاهد (إي تي) لسبيلبرغ. لعله مخلوق خرج لكي يعطي ناجي حصته من الحزن الخوان، بعد أن مد المخلوق إصبعه إلى الفضاء وهو يردد (إي تي غو هوم). إذاك، رفض الرجل الأكثر عقلاً أن ينصاع إلى عقله. فجأة، بدأ طواف الدمع بأذني. لم أسمع إلا صوت الدمع، كما لو أن الدمع دروع تسقط بهواء مسكوك. هذا البكاء إقامة فوق الهاوية. أعترف أن العلاقة بيننا مضادة لكل أجناس الطواف على الأحزان. لا يعقل أن يضع ناجي البكاء كطرحتين على جفنيه المحشودتين بالأشياء والعالم والحضور. ثمة جمال ناطق في حزن ناجي، مولد، معبر، متغير، خالق. ارتعاش الدمع بالعينين رقص. لم أجرؤ على سلوك الخط المستقيم بالسؤال، ليخرج صوت الآدمي من الهواء، الفراغ، العدم، كمن يقول إن لا شيء يفسر من ولادة الأم من أبيها. لقد أبصر المخلوق عارياً بعيداً من كوكبه. وهو عار عري المخلوق بعيداً من فلسطين. قال إن الوطن بَرَكةُ اليدين عند المخلوقات، مخلوقات الأرض والسماء، سواء بسواء. لم لا أوضع على مزود في فلسطين. كلما اقترب الوطن ابتعد.
حكَّت الدموع الجفنين. ثم، وجد ناجي في حال شلل. ثم، بعد فوات الغيم، قام الصديقان يجر الواحد الآخر قطرة قطرة إلى السفير، حيث الأفكار والقبعات وجداول الحياة. هناك، ظهر أن الحزن تغلغل بالأحشاء، إذ انهار كما تنهار امرأة حين يقال لها إنها من ضلع رجل. ولأن ناجي كالأرض لا يتوقف عن الدوران جاع. هكذا، ارتحلت على دورة من دوراته إلى مطعم قريب، لأعود كما يعود الرجل إلى ربه.
أكل وشرب، على كل معنى. ولكي يتحرر من كونه الممنوع، قال انزل عليَّ أغنية (يا حمام). لم أحتج إلى غنائها وحدها لكي أدرك فقه المعنى فيها. ذلك أن فيها ما فيها:
يا حمام يا مروح بلدك متهني
ترضى أنا نوح وأنت تغني
ناح ناجي من جديد. ناح، حتى تعب. وحين نام، نام كما تنام الملابس على كرسي مهجورة.
34 سنة على غياب ناجي العلي، لايزال بخار حضوره يتصاعد كالمشاعر. المؤلم أن ناجي مات بالغربة ودفن غريباً، بعيداً عن فلسطين.