سائل ديار أبشي عن جيراني
وارْوِ الحديث لهم عن الجدران
وأطل وقوفك لي برمل (أم كامل)
نقضي لُبانات الفؤاد العاني
هل تخيل شيخ شعراء تشاد عبدالحق السنوسي (1855 - 1917) أن غَزَلَه الرقيق بمستهل قصيدته النونية، في وادي (أم كامل)، حيث عبير الحبيبة، ورمال المشاعر، ستشهد مصرعه الغادر، فنفس رمال تلك المنطقة التي تَغنّى بها في قصيدته، صارت مقبرته الدامية، بل مقابر جماعية، لكل من كانوا يصلون الفجر معه، من الفقهاء والعلماء، حيث جرت لهم مجزرة مروّعة، شهدتها أعين ذلك الوادي، ليكون مسرحاً لملحمة أليمة تتذكرها الأجيال، وتحفظها كتب المؤرخين، وتسجلها الوثائق الأرشيفية عن المستعمرات الفرنسية، ولاسيما ما أخفته (فرنسا) -ولاتزال- في سجلاتها العسكرية بمدينة Aix-en-Provence، لأنها من الجرائم غير الإنسانية التي يعاقب عليها القانون الدولي، فما الذي جرى؟ وكيف كان؟
في البدء كانت تحيط ذات البقعة من شمال صحراء تشاد سلطنة، أو مملكة اسمها (ودّاي)، أسسها السلطان عبدالكريم بن جامع (من أصل عربي عباسي) عام 1615م، وكان رجلاً ورعاً تقياً، وله فضل كبير في نشر الإسلام، ثم تعاقب على عرش المملكة عشرون ملكاً، حتى سقوط العاصمة (أبشيه - Abéché) على يد الغاصبين (الفرنسيين) في 1911م، بعدما اهتم الأوروبيون بالقارة الأفريقية، كي تغنم من موادها الأولية، ومعادنها اللازمة، لتحقيق نهضتها الصناعية في أوروبا، وأيضاً لتضمن أسواقاً، لتصريف منتجاتها الصناعية، فانعقد مؤتمر لندن في 4 أغسطس عام 1890، واتفقت فرنسا وبريطانيا، على تحديد مناطق نفوذ كل دولة في بحيرة تشاد ونهر النيجر، وكانت تشاد، وما حولها، من نصيب فرنسا، فبدأت حملاتها العسكرية على الممالك في حوض بحيرة تشاد، لكن القوات الفرنسية عانت كثيراً من مقاومة أصحاب الممالك، على رأسهم الأمير رابح فضل الله، وهو زعيم سوداني ذائع الصيت في أفريقيا حينئذ، وصاحب قوة عسكرية، ودهاء سياسي، فخاض ببسالة حروباً ضارية ناجحة لطردهم، وفي معركة حربية شديدة الشراسة، عند مدينة كوسيري (بحدود الكاميرون) سنة 1900، استطاع الأمير رابح قتل أهم قادة حملات فرنسا (لامي)، بطلقة في صدره، فقام المستعمر الفرنسي بعمل بشع بعيد عن الشرف العسكري، حين قام بقطع رأس الأمير، ورفع جمجمته على السيف، وطافوا بها في الشوارع، كرسالة تخويف، وإرهاب للشعب التشادي، إلا أن المقاومة ضد المستعمر الفرنسي لم تتوقف، فقد حمل لواءها أبناء الأمير رابح، ثم كان دور السلطان دود مُرة أحد السلاطين البارزين لمملكة ودّاي الذي خاض معارك بطولية، فألحق بالفرنسيين خسائر رهيبة، منها مقتل قائدهم الفرنسي (موللي)، حتى تم أسر السلطان في عام 1910، وبعدها تحقق احتلال (فرنسا)، لمملكة (ودّاي) الإسلامية، التي صارت ضمن دول أفريقيا الاستوائية الفرنسية (جمهورية أفريقيا الوسطى، تشاد، والكونغو، والجابون).
وبينما تحتفل شوارع باريس - وقتها- وتزدان بمواكب انتصاراتها العسكرية، في تشاد، والجزائر، وغيرها، كانت تمارس قواتها عمليات التقتيل لأهالي البلاد، دون توقف، فثار العلماء والشيوخ الذين كانت لهم مكانة كبيرة في نفوس العامة، لكن يسجل لنا د. عبدالله حمدنا عبدالله موقف الشيخ الشاعر عبدالحق السنوسي -صاحب القصيدة المذكورة- بأن الشيخ قد خالف رأي العلماء المطالبين بمواصلة مقاومة، وطرد القوات الفرنسية، إذ رأى أن السلطنة (ودّاي) خارجة من حرب أهلية، فلن يستطيعوا مواجهة الفرنسيين، ولاسيما مع أسلحة قواتهم الحديثة، ووجد أن من الأفضل عقد هدنة معهم، حتى تقوى السلطنة، ثم تقدر بعد ذلك على قتالهم، بَيْد أن هذا لم يهون من حماس العلماء، لتحفيز الناس لرفض احتلال أراضيهم، ومنهم الشيخ يحيى بن جرمة، فقد أشعل حماس الشباب الناس ضد الفرنسيين، عندما أمرت الإدارة الفرنسية باستباحة أعراض المطلقات المسلمات -كما تذكر المصادر التشادية/ العربية- وكان للشيخ يحيى بن جرمة ابنة عم مطلقة، فحاول أحد الجنود الفرنسيين أن يصفعها، ثم هَوَى كالبهيمة عليها يريد اغتصابها، فهي من المطلقات المستباح عرضهن، بأوامر القادة، لكنها قاومته، وصرعته بساطور مُلقىَ بجوارها على رأسه، قبيل اغتصابها، وبعدها أقدم الفرنسيون بقيادة جيرار على ارتكاب مذبحة في المسجد العتيق بوادي (أم كامل)، فهل كانت ضربة الساطور التي قطعت بها ابنة عم الشيخ يحيى رأس الجندي الفرنسي المعتدي على شرفها هي سبب شرارة ما عُرف بمذبحة الساطور؟ ربما، لكن بما أن التاريخ في أبسط تعريفاته هو البحث عن الحقيقة، أو ما يقاربها، بتمحيص كل الروايات والمصادر التي تدور حول الواقعة التاريخية التي لاشك فيها - نقصد واقعة المذبحة الجماعية- فلا بد لنا أن نجعل أيضاً الرواية الفرنسية محل البحث، ولاسيما أن من يرصدها لنا هو المؤرخ الفرنسي المعاصر للجريمة/ جون هيلير Jean Hilaire في كتابه الصادر عام 1930 (من الكونغو إلى النيل.. خمس سنوات من التوقف في ودّاي)، بكونه أحد قواد الحملات الفرنسية هناك، في تلك الفترة، كذلك نستطلع ما كتبه الباحث الفرنسي المتخصص في الشؤون الأفريقية (Bernard lanne)، فنجد أنه مع بدء عام 1917 -في شهر مارس بالتحديد- تم تعيين (جيرار) الذي كان قائداً لكتيبة القناصة السنغالية بالجبهة الشرقية، ليصبح قائداً للقوات الفرنسية في سلطنة (ودّاي) المسلمة، حتى أتى يوم 23 أكتوبر، حيث نسمع نداء الباعة على بضاعتهم في سوق (تام تام) بالعاصمة أبشه، فتعج السوق بالجلبة والزحام، ويجول الزوار بين محلات ريش النعام، وعاج الفيل، وعربات عسل النحل والصمغ، ونخيل الدوم، والبوتاس المستخرج من بحيرة تشاد، وتتحسس أيدي الزبائن الأقمشة القطنية التي تنسج بالأيدي المحلية، فضلاً عن المصاحف، والكتب الدينية التي يُقبل على شرائها المواطنون، وكان من بين المترددين على السوق - يومها- رقيب في الجيش الفرنسي الذي ما إن لحظه رجل سكير، حتى انقض عليه، وطعنه بالسكين طعنة قاتلة، وجُرح في نفس الحادث صف ضابط فرنسي آخر، وقالت بعض المصادر إن القاتل صَرّح بعد القبض عليه، أنه سمع فقيهاً يُفتي أن من قتل نصرانياً دخل الجنة. وعلى الفور علم القائد جيرار بالحادث، فارتاب بوجود مؤامرة ضد قواته، يدبرها الفقهاء وعلماء الدين، مع القبائل العربية في الشمال بمدينة (بلتن Beltin)، التي تربطهم جميعهم علاقات مع (قادة المقاومة السنوسية) التي كان منها البطل الليبي عمر المختار، فعزم جيرار على تنفيذ خطته، بعدما وجدها فرصة سانحة، لينتقم، ويتخلص من فعالية المقاومة التي يديرها هؤلاء العلماء والفقهاء، وفي يوم 15 أو 17 نوفمبر (اختلفت المصادر في تحديد اليوم) عام 1917 اجتمع لصلاة الفجر بالجامع العتيق، في وادي (أم كامل)، خيرة الأئمة في (ودّاي)، وما يجاورها، مثل: الشيخ الشاعر عبدالحق السنوسي، والإمام آدم، والشيخ يحيى بن جرمة، وغيرهم من الشيوخ، ومحفظي القرآن، وتلاميذهم، كما تم دعوتهم هناك بعد الصلاة -بحيلة خادعة- للتفاوض حول طلباتهم، وفي لحظة موحدة خاطفة، ومع سبق الإصرار، انقض على المصلين مجموعة القراصنة التابعين لقوات جيرار، ليسحبوهم سحباً، ويقيدوهم في التو، فتزوغ أبصار العلماء، تصفع الحقيقة الخائنة وعيهم، وتدمدم الخطوات، تتعالى الصيحات، ترتج القلوب، بينما يرتجف شعاع الصبح الواهن على نصل كل ساطور مرفوع بيد كل عسكري فرنسي، في حين تُقيد مجموعة أخرى من القناصة أيادي بقية العلماء، ليكونوا في صفين متوازيين، فتصطف الأجساد المترنحة الذاهلة، وترتفع حينها كل السواطير على رقابهم، ينتظرون لحظة النحر، تُرى ماذا كنت نفوسهم تحدثهم؟! وماذا طاف بخاطرهم؟! وكيف كانت نظرة شاعرنا الشيخ السنوسي وهو يرى نهايته الدموية الوشيكة، في الوادي الذي عشق ذكراه في قصيدته:
وأطل وقوفك لي برمل (أم كامل)
نقضي لُبانات الفؤاد العاني
وقعت الفاجعة، تفجرت الدماء، تدحرجت الجماجم، جماجم وراء جماجم فوق الرمال الحمراء، أرواح تغادر الجسد، يتلوها أرواح تحتضر لحظة بهاء الشروق، فتمتلئ ساحة الوادي المترامي بالجثث التي لا يؤنسها سوى العراء، وعبث الرياح، ونهش الكلاب، بعدما تم خطف وحرق المصاحف، وبعض المخطوطات من الجامع، ونقلها لمتاحفهم بباريس، كما فعلوا قبلها في مصر، عندما اقتحموا الجامع الأزهر، وكما فعلوا في الجزائر، بنفس الفكر الطائفي البربري، وهكذا أيضاً فعلوا في تشاد، حتى يستأصلوا روح المقاومة ضد احتلالهم العسكري، وبلغ عدد الضحايا في مجموعهم مئة أو أكثر، بحسب رواية الباحث الفرنسي (برنار لان)، في حين ذكرت المصادر العربية المتداولة أنهم وصلوا إلى 400 شهيد مذبوح.
وبعدها هجر بقية علماء الدين موطنهم، ففروا إلى السودان، ومصر، وغيرها، لكن لحق رقاب بعضهم سطوة الساطور الفرنسي، مثل ما حدث بعدها بشهرين، في مدينة بلتن، عندما تم القبض على الشيخ عبود وأسرته، ونحروا رقبته، بأوامر من قائد المجزرة جيرار، فضلاً عن نهبهم مكتبات هؤلاء العلماء وبيوتهم، بعدما هدموا المسجد تماماً، ثم أرادت حكومة فرنسا -فور علمها بالحادثة- أن تطمس معالمها، فأخفت العديد من الوثائق، وملفات الواقعة -إلى اليوم- في سجلاتها العسكرية بمدينة آكس اون بروفانس، وعندما انتشر -نوعاً ما- خبر مذبحة الساطور (الكُبكُب باللهجة التشادية)، أتى القرار من القضاء العسكري الفرنسي بتنحية قائد قواتهم جيرار من الجيش، لكن جاء هذا القرار بعد مرور خمس سنوات، وبعدما وطدت فرنسا استيلائها على مقاليد الحكم هناك، وفي كل المناطق التشادية، وأفرغت سلطنة (ودّاي) وبقية المناطق من معظم علماء المسلمين ومحفظي القرآن، فانغرز جرح صارخ في الوجدان الديني، والذاكرة الوطنية لأبناء تشاد، يتوارثونه جيلاً وراء جيل.
وحتى يومنا هذا لا يدري غالبية العرب والمسلمين، وأصحاب الضمائر الإنسانية من أي دين، عن هذه المذبحة المخفية شيئاً، المذبحة التي لم تعتذر فرنسا عنها مطلقاً، بينما تبقى هناك تلك المقبرة الجماعية التي تحمل رفات العلماء المذبوحين، تحت تراب الوادي الوديع، ينظر نحوها أطفال وشباب اليوم، فيكاد الواحد منهم يسمع عند أفق المغيب صدى شفاه العلماء تتلو كلمات الله، قبل لحظة القنص المفزعة بالسواطير الفرنسية. ولعل أصدق شهادة تؤكد بشاعة ما جرى، تأتي من القائد العسكري الفرنسي جون هيلير -في كتابه الذي أشرنا إليه- عندما وصف الواقعة بعين الشاهد، ذاكراً بنص كلماته أنها.. (دراما العار المرعبة، والمخزية للأيدي التي نفذتها، ولضعف إدارة القيادة العليا في مستعمراتنا الفرنسية التي أخفت بإصرار تلك الفظائع الدموية، بعباءة من رصاص الصمت المتواطئ).