مرت القهوة منذ اكتشافها في بلاد الحبشة إلى انتشارها السريع في العالم، ثم تربعها على عرش المشروبات الساخنة عند غالب المجتمعات؛ مرت بتطورات سريعة سواء في أساليب زراعتها والمناطق التي تزرع فيها، أو طرق تحضيرها وتقديمها، الأمر الذي جعل ملاحقة وتوثيق رحلة القهوة أمراً ليس باليسير في المجتمعات المتقدمة في العلم والتعليم، وما يتبعها من صناعة التأليف والنشر.
ويصبح هذا الأمر أشد صعوبة في المجتمعات الأقل تحضراً والأضعف تعليماً وعناية بالتوثيق والرصد والتسجيل للظواهر المجتمعية الجديدة، وما يصاحبها من تغيرات مجتمعية تتماشى مع الزائر الجديد، خصوصاً عندما يصادف نشوء الظاهرة، مرور المجتمع بأشد فترات الجهل وانتشار الخرافات وانعدام الأمن والاستقرار، فتصبح البيئة غير مشجعة ولا تحقق أدنى متطلبات صنعة التوثيق والتأريخ.
أما إن صادف تزامن بضعة مؤرخين مع بدء نشوء الظاهرة المجتمعية، فلن يحفل بها غالباً أحد منهم! ولن يضيعوا أوقاتهم ويهدروا أحبارهم الشحيحة في تسويد كراساتهم برصد ظواهر مجتمعية يرونها غير مهمة، إذا ما قورنت بغيرها من الأحداث السياسية والدينية!
ومعرفة الزمن الدقيق لبدء انتشار عادة شرب القهوة في نجد ليست بدعاً من غيرها من العادات التي ظهرت في تلك الفترة وانتشرت في المجتمع النجدي، كشرب الشاي والتدخين واستعمال بعض الآلات.. وغير ذلك.
ولحسن الحظ، فقد كان مشروب القهوة من الأمور التي اختلف العلماء في جواز شربها أول دخولها أقاليمهم وانتشارها بين الناس، شأن أي عادة جديدة لم تألفها الشعوب، ما جعل بعضهم يتطرق لها في فتاواه، ويسجل -عن غير قصد- تاريخ بدء معرفة المجتمع بها، الأمر الذي يتيح للباحث التقاط هذه النصوص المبعثرة في كتب الفقه، والخروج بتصور قريب من الصحة، لبدايات معرفة النجديين بهذا المشروب الساحر.
ولكون شجرة البن لا توجد في نجد، فإنه لا بد لنا من تتبع مواطن زراعة القهوة، والسير معها من بلد المنشأ وصولاً إلى نجد، لمعرفة الظروف التي واكبت انتقالها المتدرج من مواطن زراعتها إلى حيث المستهلك النهائي، ويمكن استخلاص ذلك من أقوال علماء تلك الفترة في ثمرة القهوة.
وأقدم ما يطالعنا عند البحث في كتب الفقه، مـــــا نقلـــه الشيــــخ أحمد المنقور (1067 - 1125هـ) في مجموعه الفقهي (1) عن عالمين مكيين تحدثا عن القهوة في كتبهما الفقهية، وأولهما الشيخ محمد بن عبدالرحمن الخطاب الرعيني المكي (902 - 954هـ) في شرحه لمختصر الشيخ خليل المالكي، وقد كفانا مؤنة تحديد بداية معرفة أهل الحجاز بالبن ومشروب القهوة الذي يصنع منه، فقال ما نصه: (ظهر في هذا القرن أو قبله بيسير -يقصد قرنه، القرن العاشر الهجري- شراب يتخذ من قشر البن يسمى قهوة، واختلف الناس فيه! فمن مغالٍ يرى أن شربه قربة، ومن قائل أن شربه يسكر كالخمر، والحق أنه في ذاته لا إسكار فيه وإنما فيه تنشيط للنفس، ويحصل بالمداومة عليه ضراوة تؤثر في البدن عند تركه)، ويقصد بالضراوة ما تسميه العامة العماس، وهو صداع ينتج من تباعد فترات شرب القهوة. ثم ساق المؤلف كلاماً عن تحريمها لغير ذاتها، وإنما إذا شربت في مواطن ذكرها، وسيأتي الحديث عنها.
والعالم الآخر الذي ذكر أحكام شرب القهوة ابن حجر الهيتمي المكي (909 - 974هـ) في شرح العباب، بما نصه: (حدث قبيل هذا القرن العاشر، شراب يتخذ من قشر البن، نبت يجلب من نواحي زيلع باليمن، يسمى ذلك القهوة، وطال الاختلاف في حلها وطهارتها وضدهما، فمن مفرط يفتي بالإسكار والنجاسة، نظراً لأنها تورث نشاطاً وضراوة تؤثر في البدن عند تركها، ومن مفرط يفتي بأن شربها قربة، فضلاً عن الحل والطهارة، نظراً إلى أنها تزيل ما في النفس من فتور وكسل، وتعين على السهر في العبادات. والحق في ذلك كله أنه لا إسكار فيها ولا تخدير، وإنما الذي فيها أنها تورث ضرراً أو انحرافاً في كثير من الأمزجة حتى تخرج عن حد الاعتدال، شرعاً وعرفاً، بل ربما أضرت ببعضها لمضاداتها لطبعها من البرودة واليبس).
ويتضح من كلام الرعيني والهيتمي أن القهوة عرفت في الحجاز لأول مرة أواخر القرن التاسع (800 - 899هـ)، أي أنها تزامنت مع بدء انتشار عادة التدخين في الحجاز(2)، وارتبطت بها، ولا يزال شرب الدخان مرتبطاً بتناول القهوة والشاي عند كثير من عامة الناس إلى وقتنا الحاضر!
ويرى الأستاذ في قسم التاريخ بجامعة الملك سعود د.عبدالغفور روزي(3) (أن القرن العاشر (900 - 999هـ) كان قرن الاهتداء إلى البن بوصفه سلعة، والقهوة بوصفها مشروباً مستخلصاً منه)، وأن هناك تزامناً فعلياً بين ظهور القهوة وتكاثف الرحلات بشقيها الإسلامي العربي والأوروبي على حد سواء! وعليه فقد اكتفى روزي في بحثه عن مظان المعلومات عن تاريخ القهوة بما ورد في كتب الرحالة فقط، وهكذا فقد الباحث مصدراً مهماً دقيقاً من مصادر المعلومات، رغم أنه أشار في الحاشية الحادية عشرة إلى مؤلف فقهي في القهوة بعنوان (رسالة عن القهوة والدخان والأشربة) لمصطفى بن محمد الأقحصاري، وهو من علماء البوسنة، وعاش في القرن الحادي عشر الهجري، وأشار في الحاشية التاسعة عشرة لأحد مصادر مقالتنا هنا وهو ابن حجر الهيتمي، وفتواه في القهوة! إلا أن تلك الإشارة لم تسترع انتباهه إلى أهمية كتب الفقه في مصادر معلوماته! وربما أن السبب أن إشارته للهيتمي كانت نقلاً عن عالم آخر ذكر الهيتمي وانتقد فتواه بحل شرب القهوة، ولعل هذا يؤكد أهمية إلمام الباحث بمضمون المصادر الرئيسة لبحثه، وعدم الاكتفاء بما ينقله غيره منها.
وقاد روزي خطؤه الأول إلى خطأ آخر عندما تحدث عن رحلة الإيطالي لودفيكو دي فارتيما الذي وصل جدة ومكة عام 908هـ، وانتقل منها إلى جازان والمخا في اليمن، حيث مركز تصدير القهوة، وقد خلت رحلته تماماً من ذكر القهوة! فالتمس له روزي العذر بتعليل جانبه الصواب بكل تأكيد، حينما (رجّح!) أن زيارة فارتيما المبكرة للجزيرة العربية في عام 908هـ كانت سبباً في عدم ذكره لها، حيث لا تزال القهوة - والكلام لروزي- (تمر بفترة ما بعد الاهتداء إليها مباشرة، وتشرب في حلقات محدودة، ولم تكن عرفت الشيوع بعد، ويظن أن فارتيما الذي جوبه بالإعراض لا سيما في المخا في اليمن لم تنفتح أمامه الأبواب كاملة ليلج من خلالها إلى الأمر الذي ما يزال أمره مخفياً، مثل القهوة).
والصحيح أنه يمكن قبول أي تعليل لعدم ذكر فارتيما للقهوة في رحلته، عدا أن تكون القهوة غير مشهورة آنذاك، وبخاصة في اليمن، أو أنها تشرب في حلقات محدودة! وهو ما ينفيه شيوع أمرها وشهرتها في الحجاز في وقت مبكر من القرن العاشر الهجري، الأمر الذي حتم بحث حكم شربها من عالم كالشيخ الرعيني، لم يمتد به العمر إلى ما بعد عام 952هـ، وهو الزمن المتوقع لانتشار شرب القهوة، حسب ما يوحي به بحث الدكتور روزي!
بل إن الطبيب الخاص للسلطان سليم القانوني بدر الدين القوصوني (ت 979هـ) قد أجاب في رسالة كتبها عام 928هـ عن منافع ومضار القهوة(4) ما يوحي أن القهوة قد وصلت للقسطنطينية آنذاك عبر البلاد العربية.
ولعل ما جعلني أسهب في الحديث عن بحث الدكتور روزي - رغم أن موضوع مقالتي يتناول بدايات دخول مشروب القهوة إلى نجد- ما أعلنته دارة الملك عبدالعزيز عن إقامة ملتقى علمي عن تاريخ القهوة السعودية، واقتصار قبول بحوث الملتقى على أعضاء منتدى التاريخ السعودي! وخشيتي من أخذ الباحثين في الملتقى ما ورد في بحث الدكتور روزي عن بداية معرفة القهوة، على وجه التسليم والقبول التام!
ويستفاد من فتوى الشيخ الهيتمي أن مصدر القهوة في الحجاز آنذاك ليس اليمن، كما يظن للوهلة الأولى! بل مدينة زيلع، وهي مدينة ساحلية صومالية، تقع بالقرب من جيبوتي، واشتهرت آنذاك بكونها مركزاً لتجارة الرقيق والبخور واللبان والقهوة والمواشي. ولأن القهوة تجلب من هرر بالحبشة إلى ميناء زيلع ثم تشحن إلى موانئ اليمن، فقد التبس الأمر على الهيتمي ونسب زيلع لليمن! ويبدو أن البن الخولاني لم يشتهر صيته آنذاك، أو أن زراعته لم تبدأ بعد في تلال اليمن!
والواضح أن المجتمع في بداية تعرفه على هذه الثمرة العجيبة كان يصنع المشروب من قشور الثمرة فقط، كما نص عليه الرعيني والهيتمي، ولا يعرف ماذا كان يصنع بالحبوب!؟ ويبدو أن شدة قساوة حبوب البن وعدم معرفة المجتمع آنذاك بأساليب تحميصها وأدوات طحنها، كونه لا يزال في بدايات التعرف عليها؛ قد ساهم ذلك في الاكتفاء بغلي قشرها، وربما أن ما يصدر للحجاز من موانئ اليمن في بدء الأمر كان القشر فقط دون الحب!
ويتيح لنا ذكر الشيخ أحمد المنقور (1067 - 1125هـ) لأحكام شرب القهوة في مجموعه الفقهي؛ إمكانية تلمس البدايات الأولى لمعرفة النجديين بذلك المشروب الساحر، إذ إن المنطق يحتم على ابن منقور ألا يكتب عن أحكام أمر لا يعرف في بيئته النجدية عامة، وفي حوطة سدير، حيث عاش معظم حياته! كما أنه لم يعرف عن المنقور رحلات في طلب العلم خارج إقليم نجد، وإنما كان شيخه الشيخ عبدالله بن محمد بن ذهلان قاضي الرياض، المتوفى سنة 1099هـ.
والواضح أن فترة القرن الحادي عشر (1000-1099هـ) كانت فترة معرفة النجديين بالقهوة وانتشارها بين العامة، بعد أن شاهدوها وتذوقوها في الحجاز أثناء مكوثهم هناك لأداء فريضة الحج، فقد ذكرها في هذا القرن الشيخ عثمان بن قايد العييني القاهري المتوفى عام 1097هـ في مؤلف سماه (رسالة في قهوة البن)، لكنها لم تصل إلينا، ولا يعرف هل كتبها وهو في العيينة أم بعد أن رحل للشام ثم مصر حيث توفي هناك.
غير أن الجامع بين الشيخين ابن منقور وابن قائد أن كليهما طلب العلم في الرياض عند قاضي الرياض ابن ذهلان، بل إن ابن ذهلان ابن عمة لابن قايد، وليست مصادفة أنهما الوحيدان من بين علماء نجد - في تلك الفترة المبكرة من ظهور مشروب القهوة - اللذان كتبا في أحكام شرب القهوة أو نقلا أحكامها عن غيرهما، ولا يستبعد أن هذا الوافد الجديد كان موضوعاً للنقاش بين ابن ذهلان وطالبيه النجيبين.
وما يرجح كون القرن الحادي عشر هو القرن الذي عرفت نجد فيه القهوة، أن أبرز علماء نجد في القرن العاشر الهجري قاضي العيينة، العلامة أحمد بن يحيى بن عطوة، المتوفى سنة 948هـ؛ لم يتطرق لأحكام القهوة في تصانيفه الفقهية الكثيرة (التحفة والروضة ودرر الفوائد)، كما فعل معاصراه الشيخان الرعيني والهيتمي السابق ذكرهما، رغم أن ابن عطوة طلب العلم في دمشق على أيدي كبار علمائها الحنابلة كالمرداوي والعسكري والمبرّد، ولا يخفى أن بلاد الشام مظنة لوجود القهوة آنذاك، ولم يرَ الشيخ حاجة في الكتابة عن حكمها بعد رجوعه للعيينة، لعدم معرفة أهل نجد بها في تلك الفترة.
وعدم ورود ذكر للقهوة في مؤلفات الشيخ محمد بن عبدالوهاب (1115-1206هـ) أو طلابه، رغم ثبوت وجودها في عصره في الدرعية؛ يكشف لنا أن الفقهاء النجديين نحوا منحى العلماء في البلدان المجاورة الذين سبقوهم في التعرف على القهوة وأباحوا شربها، بعد أن زال ما صاحبها من سوء ظنون وما نسج حولها من شبهات، فأصبحت شراباً شعبياً تتناوله الخاصة والعامة، إذا ما تجنبت المحاذير التي تطرقت لها فتاوى علماء ذلك العصر، وسيأتي ذكر بعضها.
بل إن الناظر في الأحكام الفقهية يتبين له أن شيوع شرب القهوة بين الناس وتزايد أهميتها قد بدأ في القرن الحادي عشر، قبل عصر الشيخ محمد بن عبدالوهاب، وأنها انتقلت من كونها مشروباً شعبياً للترفيه والكيف، إلى ضرورة من ضرورات الحياة التي لا يستغنى عنها كالطعام واللباس والمسكن، وباتت ضمن حقوق النفقة الشرعية للزوجة على زوجها! فقد وافق الشيخ عثمان بن قايد وهو من علماء القرن الحادي عشر - كما مر معنا - في كتابه (هداية الراغب شرح عمدة الطالب)؛ وافق شيخه منصور البهوتي فيما ذكره في كتاب النفقات من أن القهوة واجبة على الزوج لزوجته (لمن اعتادتها، لعدم غناها عنها عادة، وعملاً بالعرف)(5).
ونستشف من أدبيات عصر الشيخ محمد بن عبدالوهاب -رحمه الله- أن القهوة في عصره قد أصبحت مشروباً للنخبة عامة وللعلماء خاصة، بعد أن اكتشفت بعض فوائدها في الإعانة على السهر وتنشيط البدن لقيام الليل، وهذا تحول كبير في النظرة المجتمعية لها، فقد ذكر ابن بشر في أحداث عام 1218هـ، وهو يعدد فضائل الإمام عبدالعزيز بن محمد بن سعود رحمه الله؛ أنه كان يبعث بالقهوة للمصلين في المساجد في مختلف الأمصار قبيل دخول رمضان، ولا شك أن مقصده من ذلك إعانتهم على القيام وطرد النعاس والكسل، وهي من ضمن الفوائد التي ساقها الرعيني والهيتمي لتبرير جواز شرب القهوة.
كما باتت القهوة من ضمن ما يقدم لطلاب العلم والتلاميذ في الدرعية جنباً إلى جنب مع التمور والطعام ووسائل الراحة، فقد ذكر الشيخ عبدالرحمن بن حسن في رسالة وجهها للإمام فيصل بن تركي، يذكره فيها بما جرى في الدرعية، قال فيها: (وأما حالهم في بلدهم الدرعية، فبنوا مجمعاً حول مسجد البجيري يسع له قدر مئتي رجل، وجعلوا فيه رفاً للنساء، فإذا صلوا الصبح أقبلوا لهذا المجمع وفيه (معاميل) وقهوة وما نابها، مقيوم به من بيت المال...) إلى أن قال: (فإذا فرغ هذا الدرس راحوا هم وغيرهم، وجلسوا عند بيت الشيخ -يقصد بيت الشيخ محمد بن عبدالوهاب بقرب مسجد البجيري- حتى يجيء عمك وجدك -يقصد الإمام عبدالعزيز بن محمد بن سعود وأخاه الأمير عبدالله بن سعود- وسعود وعياله وآل عبدالله، ويدخلون عند الشيخ -محمد بن عبدالوهاب- رحمهم الله، فإذا تقهووا، وذكر عمك للشيخ ما عنده من خبر...إلخ.)(6)
ومن هذا النص النفيس، يتبين لنا أن القهوة زمن الشيخ محمد بن عبدالوهاب كانت مشروباً سائغاً في الدرعية، وفي الدولة السعودية الأولى تبعاً، يقدم لطلاب العلم لشحذ أذهانهم، وإعانتهم على الاستذكار، وأن الشيخ محمد والإمام عبدالعزيز وأسرتيهما وطلاب العلم يشربونها، دون أي محذور أو شبهة.
ورغم الانتشار السريع للقهوة في نجد، إلا أن تعاطيها آنذاك في الأماكن العامة (المقاهي) كان مكروهاً، وربما محرماً! فقد ذكر الفرنسي كورانسيه الذي زار الدرعية عام 1225هـ زمن الإمام سعود بن عبدالعزيز، أنه لم يشاهد في الدرعية مقاهي عامة، ومنشأ ملحوظة كورانسيه أن المقاهي كانت معروفة وقت زيارته للدرعية في مكة وجدة والمدينة وعواصم الدول العربية.
والمتأمل في نص الرسالة التي أرسلها عليان الضبيبي -أحد قادة الإمام سعود بن عبدالعزيز- ووجهها لوالي الشام يوسف كنج(7)، يلحظ أن النظرة للمقاهي العامة كانت سلبية جداً عند السلفيين، وهذا ما سبب منعها في الدرعية، ورغم أن هذه النظرة المسبقة للمقاهي خالفت قاعدة (الحكم على الشيء فرع عن تصوره)، إلا أنها بالتأكيد وافقت قاعدة (سد الذرائع)، وهذه الذرائع استقتها السلطة الدينية والسياسية في الدرعية فيما يبدو من أقوال عالمي مكة الرعيني والهيتمي، اللذين ذكرا في كتابيهما(8) بعض المحاذير التي تصاحب القهوة عادة عند شربها في المقاهي، ومن جملة ما قالاه أن من أدمن عليها لا يمكنه غالباً تركها، كتعاطي الأفيون، وأن شربها في الأماكن العامة تنجم عنه مخالطة من لا خلاق لهم، ويقترن بها عارض يقتضي التحريم، كإدارتها على هيئة الخمرة المخصوصة بها، ويصفقون وينشدون أشعاراً من كلام القوم، فيها الغزل وذكر المحبة، وذكر الخمرة وشربها، فيسري إلى النفس التشبه بأصحاب الخمر، كما أن شربها في مجامع أهلها يؤدي للاختلاط بالنساء، لأنهن يتعاطين بيعها كثيراً، والاختلاط بالمرد، لملازمتهم لمواضعها، ولسماع الغيبة والكلام الفاحش والكذب الكثير من الأراذل الذين يجتمعون لشربها، ما يسقط المروءة بالمواظبة عليها، ومنها أنهم يتلهون عن صلاة الجماعة بها، ولوجود ما يلهي من شطرنج ونحوه، في مواضعها.
فما ظنك بموقف علماء الدرعية وحكامها وغيرهم من علماء نجد من المقاهي وهم يقرؤون ما قرأتموه آنفاً من أقوال علماء ثقات سبقوهم، وهي تصف مقاهي القهوة في الحجاز وغيرها!
*باحث في تاريخ الدرعية والدولة السعودية الأولى
--------------------------------
(1) انظر صور صفحات مخطوطة المنقور التي نقل فيها رأي الشيخين الرعيني والهيتمي في القهوة.
(2) للاستزادة عن بدايات دخول عادة التدخين إلى نجد، انظر مقالاً للكاتب بعنوان (لمحة تاريخية عن بدايات دخول عادة التدخين إلى نجد)، صحيفة الرياض العدد، 13934 24 / 7 / 1427هـ.
(3) انظر: الرحالة والرحلات، مصدراً لتاريخ تجارة البن وانتشار القهوة في جزيرة العرب، مجلة الدارة، العدد 4 شوال 1425هـ، السنة الثلاثون، ص 4.
(4) انظر مقالة لطف الله قاري، (من المصادر المبكرة لتاريخ القهوة عند العرب)، مجلة عالم الكتب، مج 27، ع1-2 رجب، شعبان، رمضان، شوال، 1426هـ، ص 117.
(5) عثمان بن قايد، هداية الراغب شرح عمدة الطالب، تحقيق شعبان إسماعيل، مكتبة إحياء التراث الإسلامي، مكة المكرمة، 1422هـ، ص585.
(6) الدرر السنية في الأجوبة النجدية، جمع عبدالرحمن بن قاسم، الرياض، ط1، ج14، ص 87.
(7) انظر نص الرسالة كاملة في (النهضة العربية الحديثة)، عبدالعزيز نوار، عين للدراسات والبحوث الإنسانية، القاهرة، ط2، ص 248.
(8) انظر لكلامهما بالتفصيل في مخطوطة المنقور المرافقة.