إنّ الرغبة في الطيران حلمٌ راود الإنسان منذ أن وعي ذاته، وقد عبّر عنترة بن شدّاد عن هذا الحلم بقوله:
أَلا يا غُرابَ البَينِ في الطَيَرانِ
أَعِرني جَناحاً قَد عَدِمتُ بَناني
إنّ تتبعاً للأساطير القديمة يكشف تجذّر هذه الرغبة في الإنسان، والسعي إلى تحقيقها بعدّة أشكال أسطورية، تخييلية، فمن أسطورة إيتانا والنسر التي جاءتنا من مكتبة آشور بنيبال، حيث امتطى إيتانا ظهر النسر الذي طار به إلى السماء حيث آنو كبير الآلهة، إلى بيغاسوس الحصان المجنّح عند الإغريق، إلى السندباد الذي حلّق بالبساط السحري وغيره من الكائنات الخرافية، إلى عباس بن فرناس الذي ذهب ضحية هذه الرغبة.
في العصور الوسطى ملأ دافنشي دفاتره برسوم لآلات طائرة، إلّا أنّ اختراع الطائرة كان مع الأخوين رايت وتجربتهما الناجحة عام (1903) التي فتحت عنان السماء للإنسان الذي لم يرتده قبلاً، إلّا في الأساطير والحكايات الخرافية والأحلام إلى أن حقّق حلمه بالمنطاد، لكن مع الطائرة دخلنا عصراً جديداً وكما قال شوقي:
رِحلَةُ المَشرِقِ وَالمَغرِبِ
ما لَبِثَت غَيرَ صَباحٍ وَمَساء
وعندما حلّقت الطائرات في سماء البلاد العربية في أوائل القرن المنصرم، فُتن وصُدم بها الشعراء وكتبوا القصائد الجميلة بها.
لعلّ أمير الشعراء أحمد شوقي (1868-1932) هو أول من شحذ قريحته وأتحفنا بقصيدة رائعة عن الطائرة، فكانت قصيدته عن الطائرة مثالاً على قدرة الشعر على استحضار التراث بأساليبه وتشابيهه واستعاراته، وما يجدّ من أمور في حاضر الشاعر. كانت قصيدة شوقي تضمر وتكشف من خلال وصف هذه الآلة الجديدة عن تساؤل خفيّ: ما هو السبب في تطوّر الغرب وتخلّف الشرق؟ وبالوقت نفسه تكشف تشابيه الشاعر واستعاراته المستمدة من التراث ضآلة المفردات الشعرية المحايثة للواقع الجديد، فذهب الشاعر إلى تراثه يستنطقه كي يكون على قدر اللحظة الحاضرة.
يمتدح شوقي فرنسا بأنّها نالت أسباب السماء عبر الطائرة، وطوّعت الريح واختصرت المسافات، وبأنّ لها بدلاً من بساط النبي سليمان ألف بساط طائر. ولا تفوته الإشارة إلى أنّ هذه المعجزة التي أوجدها العلم كانت بتوفيق من الله:
جَلَّ شَأنُ الله هادي خَلقِهِ
بِهُدى العِلمِ وَنورِ العُلَماء
فهي ليست ببعيدة عن أبناء أمّته إن هم جدّوا وطلبوا العلم، فلابدّ أنّهم صانعو المعجزات:
هَل يَمُدُّ اللَهُ لِيَ العَيشَ عَسى
أَن أَراكُم في الفَريقِ السُعَداء
يقول شوقي في وصف الطائرة:
مَركَبٌ لَو سَلَفَ الدَهرُ بِهِ
كانَ إِحدى مُعجِزاتِ القُدَماء
نِصفُهُ طَيرٌ وَنِصفٌ بَشَرٌ
يا لَها إِحدى أَعاجيبِ القَضاء
كَبِساطِ الريحِ في القُدرَةِ أَو
هُدهُدِ السيرَةِ في صِدقِ البَلاء
وَجَناحٍ غَيرِ ذي قادِمَةٍ
كَجَناحِ النَحلِ مَصقولٍ سَواء
يَملَأُ الآفاقَ صَوتاً وَصَدىً
كَعَزيفِ الجِنِّ في الأَرضِ العَراء
أَرسَلَتهُ الأَرضُ عَنها خَبَراً
طَنَّ في آذانِ سُكّانِ السَماء
يختتم شوقي قصيدته، كما هي عادة الشعراء القدماء بالحكمة والنصيحة إلى أبناء أمّته، وكأنّه من خلالها يذكّرهم بمجدهم ويدعوهم إلى الالتحاق بالزمن الحاضر عبر العلم والحكمة:
فَخُذوا العِلمَ عَلى أَعلامِهِ
وَاِطلُبوا الحِكمَةَ عِندَ الحُكَماء
وَاِقرَأوا تاريخَكُم وَاِحتَفِظوا
بِفَصيحٍ جاءَكُم مِن فُصَحاء
وَاِحكُموا الدُنيا بِسُلطانٍ فَما
خُلِقَت نَضرَتُها لِلضُعَفاء
وَاطلُبوا المَجدَ عَلى الأَرضِ فَإِن
هِيَ ضاقَت فَاِطلُبوهُ في السَماء
نالت قصيدة شوقي ذيوعاً واستقبالاً جميلاً بين الشعراء والقرّاء وعندما هبطت طائرة فرنسية عام 1914 في القدس انبرى الشيخ والشاعر علي بن محمود الريماوي (1860-1919) فعاش الحدث عبر قصيدته الطائرة وحمّلها هواجسه وأفكاره ورؤاه:
طار في الجوِّ فاستثار العُقولا
وانتهى للسماءِ إلا قليلا
طار حتى تراه للشمس طيفاً
أو نراهُ لطَيْفِها إكليلا...
يقف الريماوي راصداً الأفكار التي اعتملت في أذهان الناس من هذا الحدث الكبير:
ظنّ قومٌ أنّ السماواتِ غضبَي
فاستشاطتْ وهوّلت تهويلا
عالج الريماوي في قصيدته الصدمة الحضارية التي سبّبتها الطائرة، ولم يغفل عن أنّ تحصيل العلم يكون في إمرة من يسعى إليه، لكنّه عاتب وخائف، مثله مثل تولستوي، من العلم الذي صمت عن استخدام اختراعاته في الحروب، وبخاصة أنّ الحرب العالمية كانت قد أبدت إرهاصاتها الأولى:
إنّما أنت للسلام فلِم أنـ
ـت لهذي الحروب كنتَ رسولا
لست وحدي غضبانَ قبلي تولستو
ي كرأي يراك أمراً مهولا
وقد توقّف الشاعر بطرس البستاني (1876-1933)عند الطائرة أيضاً بقصيدة أنيقة أبرز من خلالها التناقضات بين تقدّم الغرب وتخلّف الشرق:
يا شرقُ مالك خاملاً والغربُ في
أَوج النباهة ينشرُ العمرانا
لقد كان تحليق الطائرة في سماء الشرق صادماً لأهله الذين يعتقدون أن الجوّ ملعبٌ لسكان السماء الأثيريين، فكيف تخترقه تلك الآلة الحديدية الثقيلة. وأمام هذه الحالة أدرك الشاعر مقدار الشكوك التي أثارتها الطائرة بين أهله، فأخذ يهوّن الأمر على أبناء بلده، ويعلّل الأسباب الكامنة وراء هذا الاختراع العجيب، بالقول:
لا تأخذنَّك حيرةٌ مما جرى
فالله خوَّل آدمَ السُّلطانا
وفي وصف جميل يصوّر إقلاع الطائرة:
لما دنا وقت الرحيل سَمعت من
أَحشائها ما يبعث الأَشجانا
زفَراتِ مصدورٍ تُصدِعه النَّوى
فَتشبُّ في أضلاعه نِيرانا
حتى إذا حميت مراجلُها جرت
كالليث يزأرُ في الفلا غضبانا
قالوا بساطُ الريح وهمٌ كاذبٌ
فإذا بهم قد شاهدوهُ عيانا
ولم يلبث شاعر المهجر إيليا أبو ماضي (1889-1957) حتى كتب قصيدة عن الطائرة أودعها رؤاه الفلسفية:
كلّ ما في الوجود للمرء عبد
وهو عبد الشهوات والأهواء
وهو طوراً يكون نصف إله
وهو طوراً أدنى من العجماء
عجباً كيف طاعه الطّين والماء
وما كان غير طينٍ وماء
فهو فوق السّحاب يحكيه في
مسواه لكنّه أخو خيلاء
وهو بين الطّيور تحسبه العنقاء
لولا استحاله العنقاء
كانت قصائد الشعراء الآنفي الذكر ترويضاً لهذه الآلة العجبية التي هزّت قناعات الشعوب العربية وأدخلتها في ثقافتهم. ولا تختلف الشعوب عن بعضها البعض، فقد وصِف القطار في الغرب، بأنّه شيطان ينفث الدخان، حتى أنّ بعض السكان قد قذفه بالحجارة
ولأنّ الشعر صدى للأزمان والأمكنة، وجدت الطائرة نفسها على مدرج الأغنية العربية. وقد غنّى الفنان الكبير طلال مدّاح قصيدة (سلم الطائرة) للشاعر يسلم بن علي (1845-2012) الذي كان على متن رحلة من جدة إلى اليمن وقد كتبها والطائرة تتقلّب به على متن الريح:
في سلّم الطائرة بكيت غصباً بكيتْ
على محبين قلبي عندما ودّعوني
وشُفت محبوب قلبي بين نخلة وبيتْ
يناظر الطائرة يبغى يحرك شجوني
فعلاً أنا عندما شفته بعيني بكيتْ
وقلت بالله يا أهل الطائرة نزلوني
بشوف محبوب قلبي عادني ما انتهيتْ...
ومثله فعل الشاعر علي بن محمد القحطاني (1945) الذي غنى قصيدته العديد من المغنين:
يا طائره لا تطيري
مضنون عيني مسافر
فراقه أحرق ضميري
نوى حبيبي يهاجر
يمشي بثوبٍ حريري
واملبسٍ بالجواهر
بغا فؤادي يطيري
نهار شفته مغادر...
إنّ أغنية (لركب حدّك يالموتور) التي كتب كلماتها الشاعر رفعت العاقل ولحّنها عبدالفتاح سكّر كانت كالطائرة للفنان فهد بلّان، فقد علت به إلى سماء الفنّ الغنائي:
لركب حدك يالموتور، ركب الطيارة غية
لركب حدك يالموتور، ركب الطيارة غية
شوف الضيعة من البلور، وشاورلك يالبنية
وشاورلك يالبنية.
لطير وعلي وعلي فوق، وترمح من حدي الغيمات
وشوف فليح يرعى النوق، وضحى تسرح بالغنمات
لطير وعلي وعلي فوق، وترمح من حدي الغيمات...
إنّ دخول ثيمة الطائرة في الشعر الغنائي دليل على أنّ الوجدان العربي قد استوعبها، كما هضم غيرها من آلات العصر الجديدة كالسيارة والهاتف والمذياع. كان الشعر العربي سبّاقاً على الأنواع الأدبية الأخرى في استقبال الطائرة، لربما لقرابة تعود إلى أزمنة غابرة بين الشعر والطيران، ألم يشبّه هوميروس الشعر بالكلمات المجنّحة.