مجلة شهرية - العدد (580)  | يناير 2025 م- رجب 1446 هـ

حياة الضمير

في ذَلك الصباح المدرسيِّ، كان الجو خريفياً، والسماء تكسوها الغيم، وورقات الشجر المتساقطة، تتناثر عند عتبات الفناء.
كُنت طفلة، لكني مازلت أتذكر تفاصيل ذلك اليوم بكاملِ لحظاته وبهجاته التي عشتها، حينما أقامت مدرستي الابتدائية، مسابقة لتكريم الطالبات الموهوبات والمتفوقات..
أذكر جيداً، عندما طرقت معلمتي المسؤولة عن الأنشطة والمسابقات باب الصف، فَدَعَتني وطالبات أُخريات لنذهب معها إلى غرفة الرسم، ووضعت أمامنا، مُذكرة قد أعدتها مُسبقاً، دَوّنت فيها القليل من الحكم والأمثال القصيرة، التي تريدها للمسابقة، وأعطت كُلّ واحدة منا ورقة، وقلماً، وحكمةً.
فقالت: اكتبن بخطٍ جميل حتى يتسنى لكُنَّ الفوز. كانت ورقتي ورديّة اللَّون، وقلمي من الحبر الأسود، والحكمة التي لي تقول: (الضَّمِيرُ خَيْرٌ مِنْ ألْفِ شَاهد)
ولأننا في تلك المرحلة، كُنَّا قد اعتدنا كتابة الفروض المدرسية بالقلم الرصاص، لأنه يمكننا من محو الأخطاء وتصحيحها، لم أُجِدْ استخدام القلم ذي الحبر السيَّال، ضغطت عليه بِقوة، حتى غدت نقطة حرف الضَّاد كبيرة جداً، فلم يظهر الخط بشكلٍ جميل، بسبب النقطة، إلاّ أنَّ المعلمة أَثنت علينا، وأبدت إعجابها بما خَطته أناملنا، من باب الدعم والتحفيز لنا.
حين كتبت هذه المقولة، ما كُنت أدري ما هو الضمير؟
وماذا تعني هذه الكلمات؟
أما الآن، ها قد كبرنا يا معلمتي، وواصلنا تعليمنا في مدرسة الحياة، التي جادت علينا بدروسٍ جديدة، لم نَتعَلّمها داخل أسوار مدارسنا.
وأصبحت أعي جيداً معنى هذه الحكمة، وتعلَّمت أن الضمير شيء كبير، أكبر بكثير من حجم نقطة الضاد الكبيرة التي كتبتها في صغري وأفسدت عليَّ فرصة الفوز بالمركز الأول في المسابقة، وذات مَرَّة، قرأت حكمة أُخرى، للأديب الفرنسي فيكتور هوغو تقول:
(الضَمير هو حضور الله في الإنسان)
فأدركت أن الضمير هو الشاهد المخلص الذي يوازي ألف شاهد، ويراقب وجود الله في كل شأني، وما أقوم به تجاه ذاتي والآخرين، فهو بمثابة الصديق الصدوق الذي يأخذ بيدي نحو الاتجاه الصائب في كل طريق أسلكه، ويُجنبني منعطفات التأنيب.
وآمنت بأنّي لن أنال العيش بسلامٍ داخلي، مالم أمتلك ضميراً نقيّاً، ذلك النقاء المُطوق باليقظة، التي تجعلني أشعر بما يشعر به غيري.
وأن انعدام هذه اليقظة يعني موت الإنسانية بداخلي، فالضمير الحي هو ما يُبقيني على قيدها.
وخَلَصتُ إلى أنّ حياة ضميري، حين يعج العالم بموت الضمائر، نعمة لا تضاهيها كُنوز الدنيا، فالحمد لله على هاته النعمة العظيمة.

ذو صلة