هل الخرائط تحدد وعينا وعلاقتنا بقضايانا الوجودية والمصيرية؟ هل كل ما هو خارج خارطة النضال في دفاتر يسار الخمسينات والستينات لا يعول عليه؟ تحاصرنا الأسئلة بشكل يجعل منا عاجزين عن استكناه طبيعة المفارقة التي باتت تتوالى أمام أعيننا عاماً تلو الآخر، دون أن نعرضها على العقل والمساءلة، وننجو بها من استلاب القطيع، فعندما ينبري رهط من أجيال الخمسينات والستينات برفع البيارق, والتلويح بالرايات، والصدح بالشعارات المناصرة للقضية الفلسطينية، هل هناك ما يوازي هذا الجيشان العارم عندما تتعرض أوطانهم للقصف المهدد لأمنهم واستقرارهم وحدودهم ولقمة الطعام التي يضعونها فوق موائد أبنائهم (قصف بقيق مثالاً)، من عدو فارسي عنصري متطرف، صاحب أجندة توسعية، ويحمل عداء شعوبياً قديماً متأصلاً ضد العرب؟
أم تراهم ينبتون عن محيطهم يدافعون عن تلك اليوتيبا الفاضلة بحلم فلسطين من النهر إلى البحر، التي ازدحمت بها عواطف صباهم ومراهقتهم في أروقة المدارس والجامعات والمنتديات الشبابية؟ يقول إريك هوفر في كتابه المؤمن الصادق: «المتطرف مؤمن أن القضية التي أعتنقها مثالية أبدية، صخرة تبقى صامدة على مر العصور، وشعوره بالثقة من التحاقه المتشنج بالقضية، لا من كون القضية سامية بالفعل إنه يعتنق قضية لا من عدالتها وسموها، ولكن لحاجته الملحة لشيء يتمسك به»، ينسى المستلب المغيب التحديات التي تتربص بوطنه، يعجز عن رؤية الحرب الكبرى التي تخاض ضد الفساد والعنصرية والظلم ضمن صراع زمكاني شرس، وينجرف ملوحاً بشعارات ازدحمت بها حقائب مراهقته، وصنعت له كطاقية تغطي رأسه، بوعي لا يندرج على رأس قائمة أولوياته.
يبدو الأمر مركباً بالنسبة للخليج تحديداً! فعلى سبيل المثال المناهج الفارسية عام 1947 أدرجت دولة البحرين ضمن الحدود الفارسية، فلم يتحرك ساكن هناك، لكن عندما احتلت إسرائيل فلسطين عام 1948 هبت المظاهرات في البحرين نفسها ضد هذا الاحتلال!
لذا رهط الخمسينات والستينات ما برحوا يجدون صعوبة على مقاربة الدينامية المتغيرة المتبدلة التي تتحكم في قوانين التاريخ, أو القيام بعملية مراجعة جذرية على أرشيفهم ووعيهم الشخصي.
وأقول هنا شخصي لأنه الوعي الذي باتوا من خلاله يحاكمون من حولهم وينصبون عبر المنصات الإعلامية محاكم التفتيش القومجية، التي تخوض في النيات وينثرون التهم ذات اليمين واليسار بنبرة إقصائية شرسة، تطلب من الجميع أن يسمعها فقط الأناشيد التي تود سماعها، والخرس لجميع من ينشز برأي مستقل، بشكل لا يختلف كثيراً عن عمليات الإقصاء العقدية التي تمارسها الأيدولوجيات ضد المختلف.