مجلة شهرية - العدد (580)  | يناير 2025 م- رجب 1446 هـ

بلاغة التمثيل في اللغة القرآنية وأثره في تربية الأطفال

يعد التمثيل شكلاً من أشكال العدول الدلالي، وباباً من أبواب علم البيان، ينزاح النص بواسطته عن الخطاب الصريح المباشر، ويميل إلى خطاب زئبقي يعتمد المثل مطية لإيصال المعنى المراد، ومثال ذلك: تقول للرجل يعمل في غير معمل: (أراك تنفُحُ في غير فحم، وتخُطُّ على الماءِ، فتجعله في ظاهر الأمر كأنه يَنفُخُ ويخُطُ، والمعنى على أنك في فعلك كمن يفعل ذلك).
ويسميه البلاغيون القدامى (المماثلة)، وهو عندهم أن (يقصد الإشارة إلى معنى فيضع ألفاظاً تدل عليه، وذلك المعنى بألفاظه مثالٌ للمعنى الذي قصد الإشارة إليه).
ومن آيات الذكر الحكيم التي تعتمد التمثيل مطية للحث على حسن تواصل الآباء مع أبنائهم، والمربين مع متعلميهم؛ قوله تعالى في سورة لقمان، آية 15: (يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ).
يجسد لقمان في هذه الآية قيمة أسرية ينبغي أن يتبناها الآباء والأمهات والمربون عامة، ويجدر بهم أن يحرصوا عليها؛ وهي قيمة النصح والإرشاد. وما ميز هذه القيمة في الآية وأعطاها رونقاً وبهاءً، وجعل لها أثراً في نفس متلقيها؛ هو اعتمادها التمثيل بنية بلاغية في التواصل. فلقمان في الآية الكريمة لم يتبنَّ الأسلوب المباشر في نصح الابن/الطفل، بل عدل عن ذلك إلى ضرب المثل في توضيح قدرة الله وإحاطته بكل شيء علماً. وقد ناسب هذا الأسلوب فطرة الأطفال في تلقي القيم والمفاهيم، فضرب الأمثال من الوسائل التربوية العظيمة التي تحدث في نفوس الأطفال أثراً بليغاً، لأنهم يستحسنونها ويتفاعلون مع صورها بعقولهم الصغيرة، مثلما يتفاعل الكبار مع دلالاتها العميقة ومراميها البعيدة.
ولا تقع المزِيَّة في هذه الآية في دلالة النصيحة التي قدمها لقمان لابنه، والمتمثلة في تذكير الابن بقدرة الله واطلاعه على الغيب؛ بل إنها تقع في طريق إثبات هذا المعنى وهذه الدلالات، ذلك أن تصوير المَشاهد في التمثيل، منح الآية قدرة على النفاذ إلى وجدان الطفل، ومنحها دلالات إضافية تنفذ كذلك إلى عمق وجدان الراشد وعقله. فَضَرْبُ المثل بإخفاء شيء في غاية الصغر (حبة من خردل)، وفي مكان بعيد (في السماوات)، ومظلم (في الأرض)، ومن وراء حجاب (في صخرة) التي جاءت نكرة غير معروفة غير مقيدة بمكان، أي عامة قد تكون في صخرة من صخور الأرض، أو في صخرة سابحة في الفضاء، أو في صخرة توجد في أعماق البحار؛ كل ذلك أسهم في المبالغة في تعميق دلالة علمه تعالى وقدرته، وهي غاية لا يمكن تحققها في ذهن المتلقي/الطفل إلا باعتماد أسلوب التمثيل.
وفي السياق نفسه، يمكن تأويل التمثيل الموجود في قول لقمان لابنه وهو ينصحه بالتأدب في الكلام في سورة لقمان، آية 18: (وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الحَمِيرِ).
لا مناص أن اعتماد هذه الآية ضربَ المثل بتشبيه الصوت المرتفع بصوت الحمار؛ يحمل في طياته لذاذة في رسم مشهد فني جميل، بقدر ما سيستمتع به الأطفال، فإنهم سيفهمون دلالته التي ترمي إلى تجنب رفع الصوت بشكل فاضح، والتي تعني ضمنياً تجنب التشبه بأقبح الأصوات وأنكرها.
وبموازاة ذلك يمكن أن يُستَنْبَطَ من هذا المشهد، نصيحة مغلفة بحكمة، مفادها أن قوة الخطاب لا تتأتي بالحدة والغلظة، ورفع الصوت بالزعاق؛ بل إنها تنبع من عكس ذلك تماماً، من الأدب والتظرف واللين، مما يصبغ شخصية المخاطِب بالوقار والثقة بالنفس، ويدل على ذوقه النقي وطبعه السليم.

ذو صلة