مئة وست وعشرون سنة مرّت على آخر رحلة لقطار الشرق السريع من ستراسبورغ إلى فيينا في 12 ديسمبر 2009، بعد أول رحلة له من باريس إلى رومانيا في 4 أكتوبر 1883. بعد مرور ما يقرب من عقد من الزمان على اختفائه، لا يزال القطار الأسطوري يحتفظ بسحره الخاص، كما يتضح من نجاح شباك التذاكر لفيلم كينيث برانا (جريمة قطار الشرق السريع) (2017)، The Crime on the Orient Express أو كذلك من خلال المعارض الأوروبية المنتظمة. التطوّر المستمر لقطار الشرق السريع بين 1883 و2009 حوّله إلى فضاء جماعي متغيّر، بل ومراوغ: التفكير في قطار الشرق لا يقتصر فقط على اكتشاف أماكن ومناظر طبيعية ودول غير معروفة، ولكن أيضاً الانغماس في عصور ماضية (نهاية القرن، الحروب العالمية، فترة ما بين الحربين... إلخ).
لم تكن مقاعده وأسرّته وسرعته ودروبه وحتى روائحه فقط هي التي شهدت تحوّلات كثيرة، ولكن وظيفته ورمزيته الوطنية والدولية على حد سواء. لم تنشأ الأسطورة الأولى من الاعتقاد بأن قطار الشرق السريع يعني القطار ذاته وإنّما مسار الرحلة بين جزء من أوروبا الغربية، وحتى الشمالية (مع إنجلترا) وجزء من شرق وجنوب أوروبا (إسطنبول).
إن التحوّلات العديدة التي عرفها قطار الشرق قد جعلته أسطورة مجردة: لارتباطه بالسفر، كان يجسّد العقليات المختلفة لأوروبا غير المتجانسة ثقافياً، بل حتى المنهكة بالصراعات الدولية حيث يحتفظ الفائزون والخاسرون بعلاقة من الهيمنة الاجتماعية والسياسية. ثم باعتباره شاهداً على الحروب العالمية والانتصار أو الهزيمة، أو الثروة أو العوز (في ظل نظام طبقي)، أو كذلك لأنه مثّل موضوعاً للخيال الأدبي ثم السينمائي، كل ذلك جعل قطار الشرق أكبر من أن يُختزل في مساحة سفر جماعية واحدة متماسكة، بل كان يمثّل مجموعة من التصوّرات والأفكار المتقاطعة. أما فنانو قطار الشرق، من جانبهم، فكانوا يتأرجحون بين صورة واقعية أحياناً، وخيالية أحياناً أخرى للقطار الذي أطلق عليه فيما بعد اسم (الوحش الرحيم) (ألكسندر هيب).
فخامة واحتفال فنّي بقطار الشرق
مستوحى من قطارات بولمان الأمريكية، المجهزة بأَسرّة مريحة، وفّرت شركة قطار الشرق لركابها الأثرياء فرصة السفر لمسافات طويلة مع الاستمتاع براحة ورفاهية لا مثيل لها. من أجل راحة المسافرين، أضفت خدمات المياه السّاخنة والتدفئة ((المفرطة) وفقاً لشخصيات أجاثا كريستي) والإضاءة إحساساً بالفخامة الملموسة، إلى جانب المواد الزخرفية الفاخرة: ملاءات من الحرير، مراحيض رخامية وأوانٍ من الكريستال أو الفضة.
هذه الفخامة تحديداً هي التي ألهمت إيان فليمنغ لكتابة روايته (قبلات طيبة من روسيا) (1957)، حيث استحضرت أجواء الشرق واختارت تصوير مشهدين مسترسلين لعاشقين تخلّلهما مشهد واحد من الحركة وهو ما كان له صدى في فيلم تيرينس يونغ 1963 المقتبس من الرواية، الجزء الثاني من ملحمة جيمس بوند. في كلا العملين، على طريق إسطنبول- باريس، تتحول أَسرّة قطار الشرق، كفضاء خاص، إلى صالون تجميل، حيث يتم تصوير مشاهد اللقاء بين العميل 007 ودانييلا بيانكي في دور تاتيانا رومانوفا، العميل السابق في KGB. تلك الرفاهية وتعدّد الاختيارات أمام الركاب هي التي جعلت قطار الشرق السريع أكبر من مجرد قطار، ومن هنا لُقّب بـ(ملك القطارات، قطار الملوك).
من الهامش إلى المركز
في البداية احتفل به الكُتّاب المنحطون على أنه انتصار الحيلة على الطبيعة، وانتصار الميكانيكا على العضوي، ثم شيئاً فشيئاً، أصبح يتم التعامل مع قطار الشرق، كموضوع في حد ذاته، الحياة بداخله متنوّعة، يؤثّر، ويبتلع، ويفرز (وقود، دخان، مراحيض... إلخ). عدد كبير من المؤلفين الذين اختاروا رسم صورة القطار بالسّمات العضوية للكائن الحي، بنبضات الحياة والموت. في روايته لعام 1957، يصف إيان فليمنغ قطار الشرق السريع بأنه (القطار الوحيد النابض بالحياة) في محطة إسطنبول، وأن توقفه يشبه (موت تنين مصاب بالربو).
إنه فضاء مفعم بالحركة ولكنه متغيّر باستمرار عبر السفرات المتواترة ذهاباً ومجيئاً، حيث من المحتمل أن يظهر القطار أعراضاً مختلفة: الانهيارات والجرائم والانقطاعات بسبب الطبيعة التي لا تقهر، وما إلى ذلك. أما بالنسبة للحركة الثنائية التي لا تعرف الكلل (تشغيل/ إيقاف)، فهي تعكس دورة الوجود الأوروبي والفصول والمعارك. لذلك كان العديد من الركاب الأثرياء، وحتى المشاهير يحلمون بالصعود إلى هذا العالم الاجتماعي والثقافي المصغّر.
قطار المشاهير
في عام 2020، شاركت كيت موس وبيبي سبايس على أنستغرام تجربتهما على متن قطار الشرق (أو بالأحرى نسخته الحديثة (فينيسيا- سيمبلون- أورينت- إكسبرس)) إحياء لتقليد أولى رحلات القطار الذي أصبح منذ عام 1883 قبلة المشاهير الأكثر تقديراً.
وقد اكتسب قطار الشرق السريع شهرة فورية، حيث لم يركّز جورج ناجلماكرز على تصميم القطار فحسب، ولكنه أيضاً مارس تأثيراً ودعاية، من خلال مقالات صحفية مدحية، بواسطة جورج بوير، المراسل الخاص لصحيفة Le Figaro، لتعزيز رمزيته الأسطورية بالفعل، أو بالأحرى التي أصبحت أسطورية بفضل المسافرين ذوي الوظائف اللامعة (معظمهم من أوروبا الغربية: الصحفيون ورجال الأعمال والمهندسون والدبلوماسيون والجنود والكنسيون والصحفيون والفنانون ورجال الأدب أو العلوم... إلخ) وبخاصة الشخصيات المؤثرة والمشهورة: لورنس العرب وماتا هاري، المرتبطان بالاكتشاف والغموض، ملك بلغاريا فرديناند، الممثلة الأمريكية مارلين ديتريش، أو الكتّاب ليو تولستوي، وجوزيف كيسيل، وإرنست همنغواي، وأجاثا كريستي، التي التقت بزوجها المستقبلي هناك ووجدت مصدر إلهام لروايتها الأسطورية التي لا تقل شهرة عن القطار: (جريمة قطار الشرق السريع)، (1934).
التعدّدية اللغوية والعابرة للقوميات
إن التعدّدية اللغوية للشخصيات في الأعمال الأدبية والسينمائية على متن قطار الشرق السريع تدعم رؤية قطار لا يقل ثراء وحركية عن هوية ركاب أوروبا الشرقية والغربية، الذين يعبرون الحدود المكانية واللغوية والاجتماعية والثقافية للقارة من إسطنبول إلى كاليه - وبالتالي، ربما، بدايات الحركة العابرة للأوطان (التبادلات الاجتماعية والاقتصادية بين الأوروبيين) سواء على متن القطار الأسطوري أو في جوهر روايات قطار الشرق السريع، التي تعكس كتابتها تنوّع أوروبا بين الحربين.
في رواية أجاثا كريستي، نجد الأصوات الناطقة بالعربية التي يتم استحضارها في حلب أو كذلك خصوصيات التنغيم الإيطالي. أليس هرقل بوارو نفسه، في السطور الأخيرة من الرواية، قد عرف تحوّلاً لافتاً متأثراً بهذه التبادلات بنفس الطريقة التي تحوّلت بها الشخصيات في فيلم (قبلات طيبة من روسيا)؟ ثم يختتم الفيلم المقتبس من الرواية، بأمانة إلى حد ما، بقرار غير متوقع من المحقّق الشيرلوكي الشهير، الذي اهتزّت أخلاقه وإنسانيته بشدة على متن قطار الشرق السريع.
وفي جانب آخر، تؤكد رواية إيان فليمنغ على (الاندماج) بين شخصيتين (متعارضتين)، أحدهما (العميل البريطاني جيمس بوند) من الكتلة الغربية، والآخر (العميل الروسي تاتيانا) من الكتلة الشرقية. وإن الشعور بالحب (الاندماج الاستثنائي بين العيون والأجساد) الذي وحّد عميلين عدوين في البداية يعكس بالتأكيد مسامية الحدود الدولية على متن القطار، أين يمكن أن يؤثّر كل مسافر ويتأثّر بالثقافات الأخرى.