ربما نتذكَّر حكاية العصفور الذي وَقَفَ على عنقود العنب في الأسطورة الإغريقية، التي تحكي عن الرسام الإغريقي زويكسس حين رسم لوحة بها مجموعة من الورود وبها عنقود من العنب، ظن العصفور أن العنقود عنب حقيقي، فوقف على اللَّوحة وراح ينقر عنب اللَّوحة، تجمَّعت العصافير حول اللَّوحة تريد أن تأكل العنب، والفنان زويكسس يشاهد العصافير وهي تَنْقر حَبَّات العنب من لوحته، كان قلبه في غاية الفرح تعلوه ابتسامة من بلغ المنتهى والغاية من الفن، لقد أصبح رسمه يضاهي الواقع، وكاد يماثله، وظل يتابع العصافير وهى تلفّ وتدور حول عنقود عنبه المرسوم بمهارة.
لقد قلَّد الفنان زويكسس الواقع بصورة مذهلة، كانت أعماقه فرحة لأنه استطاع أن يطابق عنب الطبيعة، لكن فرحه لم يستمر، فحين اكتشفتْ العصافير أن هذا ليس عنباً طارت وتركت الفنان واقفاً وحيداً يغزوه الحزن، كان حزنه دفيناً وغائراً ليس لأن العصافير طارت، بل كان داخل قلبه جُرح فني، لأن العصافير لم تلحظ الرجل الذي داخل اللَّوحة يحمل عصاه، كيف لم تَخَفْ العصافير من الرجل؟ لقد كاد يمزِّق اللَّوحة لأن العصافير لم تتعرَّف على الرجل ولم تشعر به كما أدركت العنب، وظن أنه لم يتقن رسم الرجل كما أتقن رسم العنب.
هل كان حزن زويكسس مُحِقاً حين ظن أنه برسمه المطابق للطبيعة قد أحرز فناً عظيماً؟ وأنه حين غاير الطبيعة فقد هرب منه الفن؟! لو دقَّقنا النظر لوجدنا أن الإبداع الحقيقي هو ما لم تلاحظه العصافير، هذا الرجل الذي يمسك العصا في خلفية اللوحة هو الفن الحقيقي الذي خرج من قلب زويكسس وروحه، كان الرجل المرسوم لا يشبه الرجال الذين نعرفهم، رجلاً خاصاً خرج من أعماق وروح وعقل زويكسس ولذلك لم تعرفه العصافير ولم تلاحظه، حَكَت الأساطير أن الفنان زويكسس مات وهو واقف أمام اللوحة.
الفن الحقيقي هو ما يخرج من الروح، ما يجعل العمل مميزاً عن الواقع، مختلفاً عنه وإن خرج من رحمه، الفن الحقيقي يخلق عالماً خاصاً به، ربما يشابه الواقع، لكن انتقاء الفنان للحظة الواقع من زاويته الخاصة هو ما يجعله مميزاً، ربما نتذكَّر قصة نظرة ليوسف إدريس، الفن الأصيل هو ما يجعلك حين تراه أو تسمعه أو تقرأه تقول: (الله) لأنه سبَّب لك متعة.
نجد أن فان جوخ الفنان الشهير قد رسم زهوراً كثيرة، زهوراً إذا شاهدتها ربما تقول وماذا أضاف فان جوخ للفن، فالزهور تملأ العالم وتحيط الدنيا، لكن بقليل من التَّدْقِيق سندرك أنها زهور فان جوخ الخاصة وليست زهور الحديقة، زهور قلبه وعقله وروحه، هذه زهور أنتجها هو في خياله، من الغضب والحب والمعاناة، والقسوة والدفء، زهور وضع فيها فلسفته وكينونته وكل أعماق فنه، على الرغم من أنه كان يرسم الزهور من الطبيعة إلا أنها زهور تخصه وحده، ما إن تراها حتى نقول هذه زهور فان جوخ.
وبالمثل عندما سئل الأديب الفرنسي جوستاف فلوبير عن الحقيقة التي استقى منها قصته الأشهر مدام بوفاري، أخبر بأنه هو مدام بوفاري، كان يعني أن كل كلمة قيلت في الرواية خرجت من أعماقه هو، أن كل المشاعر التي في الرواية تخصّ قلبه وعقله، وأن كل شخصيات الرواية خرجت من عمق قلبه، فالرواية لم تكتب كمطابقة للواقع، وإنما خرجت من روحه الخاصة.
يمكننا أن ندرك ذلك في معظم الفن الفائق، فالروايات العظيمة، لم تكن مطابقة تماماً للواقع كآنا كارنينا لتولستوي، والعطر لزوسكيند، ومئة عام من العزلة لماركيز، يمكننا أيضاً أن نلحظ أن الأماكن والشخصيات في روايات نجيب محفوظ بها الكثير من روحه الخاصة، وإن كان يبدو أن لها صورة في الواقع لكن روح الفن هي المسيطرة، أيضاً مشاعر النساء في أدب إحسان عبدالقدوس بها الكثير من خلاصة تجاربه، وحِكم الصحراء عند إبراهيم الكوني هي خلاصة عقله وتصوراته، فالفنان الحقيقي لا يلتقط نسخة من الواقع ويصنع مثالاً لها، إنما يضيف إليها من روحه وعقله وأعصابه وكل كيانه فتصبح القطعة الفنية تنتمي لروحه، حتى أنه يقول إن هذا العمل ابني.