الحديث عن الطفولة يتصدر اهتمامات العالم بأسره، لاعتبارات عدة، منها ما يعيشه العالم من تحولات عميقة في العديد من المجالات، خصوصاً التحولات التي تعرفها مؤسسة الأسرة والقيم المرتبطة بها، ناهينا عن الإشكاليات الناجمة عن ما هو معطى في مجالات الخدمات التربوية والتعليمية والصحية والاجتماعية والتكنولوجية، فضلاً عن ما عرفته وضعيات الطفولة في مناطق عاشت أوضاعاً مأساوية، سواء في لحظات السلم والاستقرار، ناجمة عن ظواهر طبيعية كالكوارث الطبيعية أو أمراض ما، أو نتيجة أوضاع اجتماعية ما، أو من جراء ما تعرفه بعض المناطق من قلاقل ونزاعات وصراعات دموية وحروب أهلية، وكذا في دول استقبال النازحين واللاجئين، مما يثير الكثير من التساؤلات والاستفهامات علاوة على البحث في إيجاد ووضع الخطط والبرامج والسبل لوضع حد لمعاناة الطفولة عموماً، سواء على المستويات الوطنية أو الإقليمية أو الدولية، وعبر كل المنتديات هنا وهناك، رسمية كانت أو غير رسمية. ويتجند لها كل الفاعلين المهووسين بالقضايا الإنسانية عامة.
لاعتبار الطفل ذات قائمة في بعدها الوجودي، جذر كل المؤسسات البعدية، رائد مستقبلها ومحور غدها، فقد كان لزاماً أن يشتغل الفكر الإنساني على قضايا الطفولة، وهذا ما حصل مع أول بذرة فكرة تعقل تجاه الطفل، وما أتت به لبنات الأفكار في هذا الشأن عبر مسارات الحضارات الإنسانية في كل بقاع المعمورة، في قديمها وحديثها، مع العلم أن الثقافات التقليدية وكيفيات تصوراتها لكائنية الطفل، كانت في منأى عن ما يعتمل في عصرنا الحديث هذا، فكان أن خصصت نظريات تربوية وتعليمية وثقافية ونفسية واجتماعية، إلى أن تم إنشاء تخصصات تهم الشأن الطفولي، فضلاً عن إرساء قواعد ومؤسسات على اختلافها على المستوى الدولي والإقليمي والوطني.
الطفولة ومتغيراتها قديماً
لا يمكن قياس وضعيات شخصية الطفل بمعايير موحدة، بين ما كان في سالف الأزمنة الغابرة، من متغيرات معينة، وبين ما هو متاح في عصرنا هذا، مروراً بما عرفته الحضارات المعروفة في تاريخ البشرية، إذ كل مرحلة من مراحل تاريخ البشرية إلا وكانت وفق ما تعيشه من أنماط واشتغالات حياتية خاصة، فحياة المجتمعات البدائية المعتمدة على أنظمة حياة تقليدية/ بدائية، وفي الغالب لا تعرف الاستقرار، تتشكل من كيانات عشائرية وقبائلية، إذ بالضرورة أن وضعيات كل كائن بشري فيها بحسب البيئة الثقافية والاجتماعية السائدة لديها، تتحدد وفق ما هو معطى في حياة مجتمعه، فتتداخل فيها الوظائف والأدوار، لا كما هو الحال في حياتنا المعاصرة، التي فرضت أحوالاً وطرقاً وأساليب حياة مختلفة عن سابقتها من العهود التي مرت بها الإنسانية، وبذلك فالطفل (في المجتمعات البدوية والبسيطة (كمجتمعات الإسكيمو ومجتمعات البدو الرحّل) والتي تعتمد على الصيد على سبيل المثال يتعلم الطفل منذ سن مبكرة جداً -وكأنه يلعب- كافة المهارات التي يحتاجها للبقاء على قيد الحياة كالبالغ، وهكذا نكون أمام خط تطور مستقيم من لعب أطفال إلى ممارسة بالغين. فتركيب الغرائز والانفعالات الذي يتطلبه عمل البالغين ليس بعيداً عن مثيله لدى الأطفال).
فتناول الطفولة في العهود القديمة يحيل على طبيعة ثقافات وخصوصيات اجتماع وأنماط تفكير وقواعد سلوك خاصة بها وبمراحلها الزمانية ومعطياتها المكانية، من شأنه أن يكشف لنا صوراً ونماذج وأشكال التعاطي مع كيان الطفل، ذكراً أو أنثى على السواء، بحسب ما تقتضيه الحياة في تلك المجتمعات البدائية والتقليدية من مقتضيات لها سماتها وخصائصها الخاصة، في علاقة بكل مجالات الحياة، في تصورها للتربية، للعادات والتقاليد، في رموزها وطقوسها، في أنماط تفكيرها وأعمالها ونشاطاتها المعيشية، كل ذلك يخضع الناشئة لقواعدها وضوابطها على اختلاف مستوياتها، فالطفل ينمو ويترعرع في بيئة تقليدية تحكمها أصول معينة وبما درجت عليه مجتمعاته، ووفق ما هو متاح من الإمكانيات والمعطيات الحاصلة بداخلها، تبعاً لعلاقاتها بذاتها وبأفرادها ومؤسساتها الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، وعلاقاتها بالمجتمعات الأخرى، إذ من اللازم على الطفل أن ينصاع إلى كل ما من شأنه أن يبني شخصيته وكيانه بداخل نسيج أسرته ومجتمعه معاً، ولا يحيد على فروض وسطه الاجتماعي، لتمكينه من خوض غمار الحياة مستقبلاً، مروراً بحاضر ينخرط فيه انخراطاً تاماً في كل ما تتطلبه الحياة من أعمال وأشغال وأساليب عيش، فتكوين الناشئة في تلك المجتمعات تكوين غريزي آلي يقتصر على إعدادهم إعداداً يمكنهم من إرواء الحاجات المادية من مأكل وملبس ومأوى، والطفل يتدرب شيئاً بعد شيء على مختلف الأعمال التي تمارسها القبيلة: من مثل أعمال الخدمة المنزلية، وصناعة الأدوات الضرورية، وحياكة الأقمشة المختلفة، والتمرس بالصيد، والتدرب على أمور الحرب وحمل السلاح، ورعي الماشية، والقيام بالأعمال الزراعية، وهذه المهمات التي يتدرب عليها الناشئ تستلزم، دون شك، قدراً من التربية الفكرية والخلقية.
إن كل المجتمعات البدائية، حملت الناشئة على الاندماج الكلي بداخل أنسجتها، بفعل التربية والطقوس والعادات والتقاليد، التي تنتقل إليها عبر آليات تربوية واجتماعية وثقافية، مما يجعلها تنمو على أساس ما لقن لها من قبل أولياء الأمور وشيوخ ورؤساء القبائل والعشائر والجماعات، الذين هم الأوصياء على السير والحركة الخاصة بها، فمن بين مهامهم العظام الحفاظ على كل ما يشكل مقومات الثقافة والسلوك والطقوس لدى الجماعات المنتمي إليها النشء، لأجل الاستمرارية وضمان النظام السائد، عبر غرسها في نفسية الناشئة ووجدانياتها، وشحذ هممها بكل ما يقوي فيها العزائم والجلد والتحمل، وتدريبها على كل الأعمال والأشغال على اختلاف مجالاتها، فالطابع الزراعي يقتضي ما يقتضي على خلاف ما هو معهود فيما تعهده حياة جماعة أخرى، كالصيد، والقنص، والصناعة والحرف، أي كل ما يستلزمه طراز الحياة الخاصة بالجماعة. وقد تتعاطى الجماعة أكثر من نشاط، فتتوزع أنشطة الناشئة وتتقاسم خبرات وتجارب عديدة في أكثر من مجال، ويصاحب كل هذه الأنشطة إعداد على جميع المستويات، الجسدية، الفكرية، الخلقية، والدينية، لأجل بناء شخصية النشء بناء شمولياً في علاقاته بما يعتمل وما يعهد في أسرته ومجتمعه، دون مراعاة الفروق والأطوار الممكنة بشكل دقيق في كل مرحلة من مراحل النمو العمري، ما عدا المرحلة الأولى من الرضاعة في عمره، وبعدها يساق إلى عمليات التمرين والتدريب وشحذ قواه بكل المهارات والكفاءات وكل ما تستلزمه الحياة بداخل زمرته المجتمعية، وفق وضعياتها الخاصة بها. (لذا، فالتجربة اليومية للطفل القديم مقاربة في بعض مظاهرها لتجربة الكبار، فهم يرتادون الأماكن نفسها -كما في بيئة الفلاحين- ويعملون بالقرب من بعضهم، ومن ثمّ فالخبرات وما ينتج عنها من سلوك ومشاعر وأحاسيس وانطباعات وتخيلات تتناقل تلقائيّاً بين الكبار والصغار، ولا يلبث الطفل طويلاً حتى يمارس مهام وأعمال الكبار بصورة كاملة، كالحرب والسفر، وكل هذا تراجع بصورة جذرية في الطفولة الحديثة).
الطفولة ما بعد المجتمعات البدائية
وأما في المجتمعات التي عرفت الاستقرار، بعد عهود البدائية، فقد بنت اجتماعها على قواعد أكثر تطوراً على سابقاتها، من خلال تجاربها وتراكماتها وتطوراتها التاريخية والحضارية، إذ شقت طرقاً أخرى ومناهج مغايرة في إعداد أجيالها من الناشئة، في تربيتها وتعليمها وتهيئتها، فتأتى لها الاهتمام بما يمكن لها أن توجده من ضوابط وقواعد سلوك ونظريات ومدارس، وكذا إبداعات في مجال الفنون والمعارف والصناعات والحرف ووظائف حتمتها التطورات والتفاعلات القائمة داخل المجتمع نفسه، وأخرى في علاقاتها مع المجتمعات الأخرى، مع استحضار لحظات وأزمنة الحرب والسلم، همت كل مجالات الحياة، سياسة، اجتماع، اقتصاد، ثقافة، دين، أخلاق، فكر، علم..
فمع التطورات وصيرورات الحياة التي شاهدتها وعاشتها كل الأمم والشعوب والحضارات، غدت الاهتمامات الخاصة بإعداد النشء تتخطى ما كان متداولاً في سابق العهود عند الأقوام البدائية، وقد كان لدور بزوغ بذور الفكر العقلاني في بداياته الأولية الأثر البليغ في بناء الناشئة والأجيال الصاعدة، فتطور هذا الأمر إلى حدود العناية الخاصة بما يجب أن تبنى عليه من أفكار وتربية وتعليم وإعداد نفسي وجسدي واجتماعي وخلقي وفكري وعلمي، فحاجات المجتمعات أحدثت تغيرات في الأنساق الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والفكرية والتربوية، ولا نغفل أن لظهور متغير الدين بمفهومه اللاهوتي المرتبط بالوحي الإلهي كان له جانب كبير في تحوير مفهوم الطفل بداخل المجتمعات وعلاقتها بتربيته، إلى أن ظهرت نظريات قائمة بذاتها عملت على إحداث مناهج وإبداع طرق ومسالك أكثر تقدماً تعمل على العناية والرعاية في تربية الأجيال الصاعدة.
حاضر الطفولة ومتغيرات الواقع المعاصر
لقد أبانت التطورات اللاحقة عن حجم ووقع كل متغير في حياة الإنسان، ومدى التفاعل الممكن حدوثه في جوانب عديدة في أنساق المجتمعات وبناء الثقافات والحضارات، فما لبثت أن أخذت الطفولة حيزاً مهماً في عمليات البناء المجتمعي، فكان من اللازم أن استرعت اهتمامات كل فعاليات المجتمع، بداية من الأسرة إلى كل المؤسسات الوطنية والدولية، مروراً بفعاليات المجتمع المدني/ الأهلي والمنظمات غير الحكومية الدولية، حيث لم تعد الأسرة وحدها الكفيلة بالطفل والعناية به، إذ بدأ التفكير فيها يأخذ منحى مغايراً عما سبق في إعداد النشء، وإفراد آليات تربوية وتعليمية ومؤسساتية خاصة بالطفولة، إلى أن أصبح التعامل معها يستوجب استحضار المنظورات الثقافية والمعرفية والتربوية والتعليمية لدى شعوب مختلفة أخرى، في إطار تلاقح وتفاعل الثقافات والحضارات، بعد ظهور نظريات ومدارس متعددة تتناول باهتمام واسع كيفيات الاشتغال على الطفولة، خصوصاً في المجتمعات المتقدمة، والتي حققت السبق الحضاري في العديد من المجالات، وقطعت أشواطاً متقدمة في صروحها الحضارية، فأصبحنا نتحدث عن إشكاليات عديدة أفرزتها الأحداث والوقائع على اختلاف محدداتها، بدء من السن المبكرة للطفل إلى بلوغه، والأطوار التي يمر بها في حياته، وبحث الظواهر التي تعرفها حياة الطفولة عموماً، بداخل كل مجتمع ومجموعة إنسية على حدة.
وقد أحدثت الثقافة المعاصرة أنماطاً جديدة ورؤية مختلفة تجاه كيان الطفل، لما لمرحلة الطفولة من أهمية خاصة في حياة الإنسان، وآثارها البليغة في حياة الأمم والشعوب، فاعتبرت مرحلة الطفولة من أهم المراحل التي يمرُّ فيها الإنسان، لما لها من أثر عظيم في بناء شخصيته من النواحي الجسدية والفكرية الاجتماعية، فهي المرحلة التي تتشكل فيها المهارات والقيم الأساسية والأفكار والقناعات التي تظل مع الطفل طوال عمره، ومع تجدد المفاهيم في عالم الطفولة.
أدركت الأمم والشعوب قيمة هذه المرحلة من حياة الإنسان، فشرعوا بإيجاد الأساليب والطرق التي من شأنها تعزيز وتنمية ثقافة وشخصية الطفل، حيث تعرف ثقافة الطفل على أنها مجموعة الأفكار، والمعارف، والسلوكيات، والعادات، والتقاليد، والفنون، والآداب التي يكتسبها الطفل من بيئته وأسرته ووالديه والمحيط الذي يعيش فيه، فتنشأ ثقافة الطفل نتيجة الاحتكاك المباشر بينه وبين البيئة المحيطة وعناصرها المختلفة.
لذا من الطبيعي أن يتم تأمل مرحلة الطفولة والتدقيق في متطلباتها، وبحث السبل والأساليب الممكنة لإعداد الطفل إعداداً يتماشى مع أطواره العمرية، وذلك بإبداع وسائل تربوية وتعليمية تتماشى ومؤهلاته وملكاته وميولاته، والعمل على إفساح المجال لصقل مواهبه وتنمية قدراته وخياله وتشجيعه على الإبداع والتواصل، وكذا تحييد كل ما يعوق تنشئته بشكل سليم، سواء بداخل أسرته، أو بالمدرسة، أو بداخل المؤسسات الاجتماعية الأخرى.
في إشكاليات الطفولة المعاصرة
هناك إشكاليات قائمة فيما يخص أوضاع الطفولة عموماً في كثير من بلدان العالم في عصرنا هذا، تتفاوت درجاتها من بلد إلى بلد، ومن منطقة جغرافية إلى أخرى بداخل البلد ذاته، لم تعهدها طفولة الماضي البعيد، حين كانت تعيش على قدر بسيط من مقومات الحياة آنذاك، رغم التطورات والطفرات النوعية والكمية في كثير من جوانب الحياة المعاصرة، علاوة على الاهتمام بشأن الطفولة سواء بداخل الأوطان أو على مستوى المنتظم الدولي، وإذا ما كانت أوضاع كبارنا غير مشرفة في كثير من المستويات، فكيف ستكون أوضاع صغارنا في مناطق عديدة على اختلاف مجالاتها؟ فلا يكابر إلا جاحد وناكر للحقائق التي على أرض الواقع، فإن كانت وضعيات اليافعين والشباب والكبار بالعديد من بقاع العالم تعرف ما تعرفه من انتكاسات وإهدار للكرامة الإنسانية، وحياة لا تمت بصلة لأدنى مقومات العيش الكريم والحياة الكريمة، فماذا يمكننا تصوره فيما يخص صغار وطفولة المناطق التي تشهد حروباً ونزاعات أهلية ومخيمات اللاجئين؟
وبناء على تقارير المؤسسات المعنية وما تتناوله قصاصات الأنباء، أو تتداوله التقارير الخاصة بالشأن الطفولي، أو تصريحات رسمية، سواء على المستويات الوطنية أو الدولية، فقد يذهب بنا تصورنا بمنطق العقل الواقعي، كون وضعيات طفولة المناطق المشتعلة أو بمواقع اللجوء الاجتماعي عبر كل جغرافية العالم، أو التي توجد في وضعيات صعبة، تعكس حقائق القول في قراءتها وإقرارها بواقعية الأطفال المزرية، وأنها دون مستويات الحد الأدنى من شروط حياة مفعمة بالأمل وحب الحياة والسكينة والطمأنينة والحيوية، وافتقادها لكل روح إنسانية بناءة، في واقع يتسم بكل ما يحيل على النزعات السلبية، وافتقاد ضرورات العيش الكريم، وغياب البنيات الكفيلة والضامنة لممارسة الحياة الطبيعية، بدءاً من المهد إلى مرحلة سن متقدمة، مروراً بمرحلة العمر اليافعة والنشيطة في كامل قواها الحية، مما يسعف في حمل الأطفال على تبني كل الأفكار السلبية والتدجينية، وملء وعائهم الفكري والذهني والتصوري بما يعكس واقعهم المزري، من خلال ما يقدم لهم من حقائق مكرسة لأيديولوجية الكراهية المتبناة من قبل الأطراف المعنية، أو تدجينهم بأفكار مزيفة، فيفقد معها كل إحساس بالاطمئنان وعدم الرضا على الواقع والحياة، والتوجه إلى ما كل يحيل على العنف والكراهية والتدمير الذاتي والموضوعي، لذا فالزج بهم في كل معترك أو أي أفعال ما، متاح بسهولة بالغة لتوافر بنية نفسية وذهنية مبرمجة بما يحيل إلى كل ما من شأنه أن يساهم في خلق المزيد من القلاقل والعراكات ذات النتائج الوخيمة على كل منطقة ما برمتها، وقد تمتد إلى جهات أخرى، وهو ما يؤشر على الانتهاكات الجسيمة لحقوق الطفولة، وكل الحقوق الأساسية للأطفال المنصوص عليها في المواثيق الدولية وغيرها، وكل ما له صلة بالقيم الإنسانية والاعتبارية للطفولة والأسرة بشكل عام.
وأمام هذا الوضع المأساوي واللاإنساني للأطفال في مناطق ما من العالم، تشهد حروباً وقلاقل ونزاعات أو الذين في المخيمات ومراكز اللجوء الاجتماعي، أو الذين في وضعيات صعبة مرتبطة بالأوضاع الاجتماعية على اختلافها، ماذا يمكننا أن ننتظره من هذه الأوضاع المزرية؟ لا يسعنا إلا التأكيد أن ما تعيشه طفولة هذه المواقع الجغرافية لا يتوقع معه إلا ما يؤشر على كل الاحتمالات ذات الوقع السلبي: تجاه ذوات الأطفال والمناطق المعنية، وكل الدول المجاورة لها، من جهة، ويشكلون قنابل موقوتة، وخزاناً مهماً لمزيد من التراكمات السلبية والانتحار الذاتي والجماعي، وتهديداً للأمن والسلام العالميين، وتقويضاً لأركان العمران الإنساني عامة، وغير ذلك مما لا يعد ولا يحصى من النتائج الوخيمة في ظل أوضاع تتسم بما هو لا إنساني ولا حضاري، من جهة ثانية.
عل سبيل الختم
إن كانت مرحلة الطفولة باكورة من بواكير الوجود الإنساني تتسم بسمات خاصة، صفحاته البيضاء، وعاء أسسه القبلية في مرحلته العمرية الأولى، معماره الأولي لوجوده المستقبلي، أرضية لبناته العريضة نحو ما هو بعدي في بناءات رحلاته الممتدة عبر أجياله في كل مراحل تاريخه الإنساني والحضاري، فإن ما يقتضيه العقل الإنساني هو العمل على بذل الجهود الكفيلة ببناء هذه المرحلة من عمر الإنسان بناء محكماً، والعناية بها وصقلها وإعدادها إعداداً بناء وهادفاً، يتجاوز به ما كانت الطفولة سجينته في الماضي البعيد والقريب، وما أصبحت تعيشه في حاضرها من انتكاسات وتجليات لكثير من الوضعيات السلبية نتيجة تفاعلات الاجتماع والثقافة والسياسة والأيديولوجيا، خصوصاً في مناطق بذاتها، تشهد وتعيش ويلات الصراعات الإثنية/ العرقية، الثقافية، السياسية، أو في مراكز وملاجئ تخص اللاجئين وغير هذا وذاك من الظواهر السلبية في حق الطفل عموماً أينما وجد في بقاع المعمورة.
هذا وقد أبانت التجربة الإنسانية في بعض محطاتها أن ما اشتغلت عليه في مضمار شأن الطفولة في عهود سابقة، كان له الأثر البليغ في إعداد التصورات والأساليب ذات الحمولة الإيجابية في التعاطي مع قضايا النشء والأجيال الصاعدة، وقد نلمس بعضاً من إبداعاتها في واقعنا المعاصر، لما كان لها من رغبة تحذوها لأجل إعداد الأجيال الصاعدة إعداداً يشرف الإنسانية في جانبها القيمي الخير، وهو ما نقف على حدوده في العديد من النظريات التربوية والاجتماعية التي أتى بها مفكرون وفلاسفة ومثقفون في مختلف الثقافات وفلسفات الشعوب والأمم والحضارات.