مجلة شهرية - العدد (581)  | فبراير 2025 م- شعبان 1446 هـ

الثقوب السوداء.. عالم ما بعد الخيال.. ما كان مستحيلاً أصبح حقيقة

في عالم متطور تقنياً وعلمياً استطاع أن يفك أعقد القوانين العلمية، ومع هذا التطور المضطرد؛ إلا أن معرفتنا بالكون لا تكاد تذكر، فسبحان الله القائل في محكم التنزيل: (وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا). سورة الإسراء (آية 85).
في إنجاز أبهر العالم جميعاً استطاع فريق من العلماء تصوير أول ثقب أسود، وكأن العالم يستذكر العالم آينشتاين الذي وضع بذرة هذا التصور، وبعد سنوات طوال تنبت هذه البذرة فتصبح حقيقة يراها الجميع.
في هذا المقال نحاول تسليط الضوء على حقيقة الثقوب السوداء، وماهيتها وكيفية نشوئها وأسرارها.

من المعروف أن النجوم تتطور في مراحل عمرها، وذلك حسب تحول عناصرها الداخلية بسبب الاندماجات النووية، وذلك بتحول الهيدروجين إلى الهليوم، ومن ثم إلى عناصر أثقل وأثقل. يعتمد التطور النجمي على حجم النجم، وبالتالي فإن النجوم الضخمة مقارنة مع الشمس (الشمس نجم متوسط الحجم ومتوسط العمر)؛ يكون لها مسار دراماتيكي في تطورها، حيث ينتهي بها المسار إلى تحولها لنجم مستعر أعظم (سوبرنوفا)، وذلك بانفجار ضخم، إذ تتمركز المادة قبل الانفجار بسبب التحولات من عناصر أخف إلى عناصر أثقل في مركز النجم، وبالتالي تتحور الكتلة في المركز مؤدية إلى ارتفاع هائل جداً في الجاذبية، (فلنتخيل أننا ضغطنا الشمس وجمعنا كتلتها في حيز بحيث يكون نصف قطرها 3 كيلومترات، مع العلم أن نصف قطر الشمس تقريباً 696700 كلم)؛ هذه الجاذبية الهائلة من القوة بمكان، بحيث أنها لا تسمح بخروج الضوء منها، بل لا تترك أي ضوء عابر بالقرب منها إلا وابتلعته، ومن هنا جاءت تسمية هذه المرحلة من مراحل العمر النجمي بالثقب الأسود.
لكي تتحول الكرة الأرضية إلى ثقب أسود، فإنه وحسب قانون شوارزشيلد، يجب أن يكون نصف قطر الأرض حوالي 0.9 سم (حجم حبة فستق) مع احتفاظها بنفس الكتلة الحالية، وهذا يعني أن جميع مادة الأرض تتمحور في ذلك الحجم الصغير مما يجعل لها -كما ذكرنا- جاذبية هائلة.
قانون شوارزشيلد
R_Sch=2GM/c-2
حيث:
R_Sch يمثل نصف قطر شوارزشيلد الذي يحدد نصف قطر الثقب الأسود لأي جرم.
G ثابت الجاذبية العام.
M كتلة الجسم.
C سرعة الضوء في الفراغ.
وعليه فإن ليس كل نجم يمكن أن يتحول إلى ثقب أسود، فأهم شرط من شروط التحول للثقب الأسود أن تكون كتلة هذا النجوم تفوق 25 مرة كتلة شمسنا.
ولقد تم تقسيم الثقوب السوداء إلى عدة أقسام، وهي:
الثقوب السوداء النجمية Stellar black holes
هذا النوع وإن أطلق عليه ثقوب سوداء، إلا أنه في الحقيقة ثقب صغير، لا يرتقي إلى ما يعرف بالثقوب السوداء، فهو نتاج انكماش نجوم كتلتها حوالي ثلاثة أضعاف كتلة شمسنا، فيتحول إلى نجم نيوتروني أو قزم أبيض، ولكن على الرغم من صغر حجم هذا الثقب إلا أن كثافته عالية جداً، مما يجعل جاذبيتها تكون عالية، بحيث ينجذب إليها الغبار الكوني والغازات من المجرات التي حولها.
الثقوب السوداء العملاقة Supermassive black holes
ثقوب ضخمة، تتراوح كتلها بين ملايين إلى مليارات من أضعاف كتلة شمسنا، إلا أن حجمها مساوٍ لحجم الشمس. ويعتقد أن هذا النوع من الثقوب موجود في قلب كل المجرات، وقد يكون سبب وجوده هو إما اندماج عدد من الثقوب السوداء النجمية معاً، وقد يصل عدد الثقوب النجمية المندمجة إلى الآلاف؛ أو أن عدداً من النجوم المتجاورة قد انكمشت في وقت واحد ومن ثم اتحدت وكونت هذا الثقب الأسود العملاق.
الثقوب السوداء المتوسطة Intermediate black holes
يعد هذا النوع أحدث أنواع الثقوب السوداء اكتشافاً، حيث يعتقد أنه نتاج اصطدام مجموعة من النجوم في منطقة واحدة مكونة ثقباً أسود متوسطاً، وعند وجود عدد كبير من النجوم فقد ينتهي بها المطاف في مركز المجرة مكونة ثقباً أسود عملاقاً، ولقد عزز ذلك اكتشاف ثقب أسود متوسط الكتلة في ذراع إحدى المجرات الحلزونية، وذلك عام 2014م.
آينشتاين والثقب الأسود
في عام 1915م طور آلبرت آينشتاين نظريته االنسبية العامة، مبرهناً على إمكانية وجود الثقوب السوداء، وبعدها اهتم العلماء بماهية هذه الأجسام، ولكن لم يتمكنوا من التقاط أي صورة لهذا الخيال المجهول، حتى أتت سنة 2019م، وبتقنياتها العالية، وتجمع فلكيين على مستوى العالم؛ نشرت أول صورة لثقب أسود.
الأرصاد الجديدة
ضمن تعاون علمي عالمي تمكن فريق من الفلكيين من جعل المستحيل ممكناً، حيث تمكن الفريق من تصوير الثقب الأسود الذي بلا شك يثبت فرضية وجود الثقوب السوداء، وقبل هذا الحدث العظيم كانت ترصد التأثيرات التي يحدثها الثقب الأسود وليس الثقب نفسه، وذلك بسبب الاعتقاد السائد: بما أن الثقب الأسود يبتلع كل شيء بما فيها الضوء فإنه لا يمكن بأي حال من الأحوال تصوير أي ثقب أسود. ولكن بتعاون علماء الفلك، مع علماء الحاسب الآلي؛ تمكن الفريق، بعد تطوير تقنية رصد راديوي، وإنتاج صور عالية الوضوح؛ من الخلوص إلى أول صورة ثقب أسود يشهده العالم. هذا الإنجاز العالمي غير المسبوق سيمكن الدارسين من فهم الجاذبية وطبيعة الكون.
لقد حدد فريق العمل النظريات التي سوف تقودهم إلى تصوير أول ثقب أسود، وذلك بالتقاط صور خيالية للمناطق المحيطة بالثقب، حيث تمكن الفريق من تصميم شبكة من المناظير. وللحصول على دقة عالية استخدمت مناظير ذات أقطار كبيرة، وعرفت شبكة مناظير الفريق باسم منظار حدث الأفق Event Horizon Telescope، باستخدام تقنية التداخل الطويل جداً Very Long Baseline Interferometry، حيث تعمل مصفوفة من المناظير بالتوافق مع بعضها البعض.
اختار فريق العمل ثقبين أسودين عملاقين: الأول موجود في مجرتنا درب التبانة والمعروف بساقيتاريوس (الرامي) أ* (Sagittarius A*)، ويقع في مركز المجرة على بعد 26 ألف سنة ضوئية، وكتلته حوالي 4 ملايين كتلة الشمس؛ والثقب الثاني المعروف بميسير*87 (M87*)، ويبعد 53 مليون سنة ضوئية، ويعتبر أكبر من الثقب الأول، حيث أن كتلته حوالي 6.5 مليار كتلة الشمس. ولقد ركز فريق العمل على الثقب الثاني، وذلك بسبب أنه نشط، حيث تنجذب إليه المواد على شكل جسيمات نفاثة متسارعة بسرعات قريبة من سرعة الضوء.
في تحليل الصور تم استخدام حزمة برامج طورتها عضوة الفريق كاتي بومان Katie Bouman والتي يعود لها الفضل بعد الله في هذا الاكتشاف المذهل والفريد.
تأثيره على كوكب الأرض
أقرب ثقب أسود للأرض يبتعد حوالي 1600 سنة ضوئية، فإذا علمنا أن الضوء يسير بسرعة 300 ألف كم في الثانية الواحدة؛ فإنه يتبين لنا أن الأرض في منأى عن تأثير أي ثقب أسود بإذن الله، كما أنه وبسبب كتلتها فإن نجمنا الشمس لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يتحول في يوم من الأيام إلى ثقب أسود يلتهمنا.
خاتمة
هل ستمهد الأرصاد الأخيرة للثقب الأسود لفريق العمل، أو العالمة التي طورت آلية الرصد؛ الطريق لنيل جائزة الملك فيصل العالمية في العلوم، ومن ثم جائزة نوبل في العلوم؟


* أستاذ علم الفلك، مدينة الملك عبدالعزيز للعلوم والتقنية

ذو صلة