ولِد شُعيب بأنف طويل، قبل أن يقضمه جرذ، ويترك ندبةً صغيرة في مكانه المسطَّح، كأثر قدمٍ على رملة ناعمة الملمس. ولمّا أتى الجُدري على معظم الوجه، بقيت بقعة الأنف ملساء، واضحة، ساطعة بنور ينبثق من المنخرين كمصباحين متجاورين في وعورة الوجه وأهوال خلقته.
تحكي الأمّ لولدِها عن جمال أنفه، وعن ندمها حين ابتعدت عن مهده فترةً من الوقت، فتنتاب وعيَه غمامة، ويتذكّر لمسات أقدامٍ غامضة زحفَت على بشرته، ثم بخطْم يحتكّ بأرنبة أنفه ويداعبها، قبل أن ينشب أسنانه في القمّة اللدنة، ويخطفها من منبتها: (عاد الجرذ، مستطعماً اللحمَ والدماء الحارة مرّات ومرّات، في تلك الليلة المشؤومة، فمسح بفمه المدمّى ما تركه من بقايا وجذور لحميّة، لحَسَه بلسانه حتى استوى المكان مثل فِلْس بثُقبين دقيقين، وسكنَ ألمُ الطفل وانقطع صراخه).
تروي الأمّ لجاراتها الهلِعات حادثةَ اقتطاع الأنف الجميل لابنها البكر، قبل أن تسمع من امرأة زائرة قصّة اقتطاع أنف أبي الهول في برّية مصر، فتستنكر منها المقارنة بين كائنين متباعدين، حجَريّ وبَشَريّ، خرافيّ مهول ورقيق كورق نبتة (البربين). (حطمَ رجلُ دينٍ ممسوس أنفَ التمثال الفرعونيّ الذي يبلغ طوله متراً، ودفنَه بجوار التمثال، ليحمي أرض النيل من لعنة متوقّعة).
لكن أيّ لعنة يخفيها أنفُ شعيب كي يأتي الجرذ ليمحوها من وجه العائلة المعروفة بين عائلات الحيّ؟: (تخرّصات يا سيّدتي، تخرّصات لا تشيعيها بعد اليوم بين النساء).
حكت الأمّ لابنها -في سنّ المدرسة الابتدائية- القصّة التي سمعتْها من الزائرة الغريبة: (كانت امرأة غجرية يا بنيّ، قالت إنّها مُرسلة من أرض التمثال الخرافي لتنقل رسالة الحظّ العظيم إليها!). لم يفهم الابن معنى الرسالة المصرية، التي تداولتها الجاراتُ الثرثارات، وزِدْنَ عليها من وساوسهنَّ ما جعل ندبة الأنف الممسوح تلمع كموقد نيران في ليالي الشتاء، يأتينَ للاستدفاء بلهبه! كان وجه الطفل المجدور، يجذبهنَّ ويضرم في أجسادهنَّ مواقدَ خابية ويحرّك فيهنّ مُضمَرات وعيهنَّ المكبوتة، فيُلْسِنَّ ويتطاولنَ على حظّ الأم التعساء، فتصرخ هذه في وجوههنّ، وتطردهنّ من بيتها: (إنّه محظوظ أيتها الغبيّات! محظوظ يا قُدور المطابخ المسخَّمات!). ثم تصفق الباب وراءهنّ، وتذهب لتأمّل الوجه النائم بين الأغطية بسلام، يخرج من منخري أنفه خيطا نور، يشعّان من قماش (الكلّة) التي يحتويها سريره، ثم تردّد مع نفسها: (محظوظ.. محظوظ!).
نشأ الابن المقرون بالتمثال الفرعونيّ، المحطوم الأنف، واستقبلَ، عاماً بعد عام، خواطرَه عبر النجوم والأقمار والشُّهُب المتساقطة على برّية الفراعنة. أمسى نور السماء، كما الكلمات والأقاويل، منحةَ التمثال للبشرية المقضومة الأنوف، في عقيدة الابن العراقي الذي أنمى وعيَه بما قرأه عن أبي الهول العظيم. جمعَ عن التمثال مئات الصور والنماذج المصغّرَة، وقرأ المئات من الكتُب، خلال دراسته التاريخ في الجامعة، إلا أنّ (النور) الذي يغمر أعماقَه بقي محبوساً، يصدّه عن أخذه إلى المصدر الأساس تطمينُ الأمّ، ساعة وفاتها: (دعْكَ ولدي من التّرهات، فالجرذ القذر أحدثَ في وجهك نقصاً، لا تملؤه أنوفُ العالم كلّها، ناهيك عن تمثالٍ يتربّع بعيداً عنا منذ آلاف السنين. هذا قدَرُك بلا نُقصان أو زيادة، أو هو النُقصان الذي يلهب النفوسَ بنورِه!). (وليس لهذا السكيتش من غاية إلا التقاط قول الأمّ وتطويره بتحريف مبيَّت منّا: القرينة المقضومة -مثل نصّ غير مشذّب- تُلهب النفوس بنقصها وقبحها!). أمّا الشعور الداخلي اللاهب فسيتمرّد على ذكرى الأمّ، ويحثّ الابنَ على زيارة الموقع الأصلي للنور، الصادر من منخري الرأس الفرعوني المركّب على جسد أسد (ولمّا يتجاوز شُعيب العقد الثالث من عمره).
وأنتم يا سادتي، لا أنصحكم بالسِّيرة الماضية التي تؤطِّر حياةَ القصر الذي ولِد في أحد جناحيه الطفلُ المقضوم شُعيب، حفيد التاجر الكبير شهاب الدين، وزواج ولده الأكبر (نادر) من امرأة ريفية، ما أثار غضبَ الأب واحتجاب الولد الثاني (شاهر) في جناح القصر الثاني مع حيواناته (الأحرى تجاربه على قوارضِه الكاسرة)، فلو أنّنا تتبّعنا حقيقةَ هذه السِّيرة، لاتجهت حكايتنا حينئذ اتجاهاً إجرامياً على غير إرادتنا (مثلاً: موت تاجر الحبوب الكبير، في جناح القصر الأوسط مسموماً، وقضْم أنف شُعيب حينما كانت أمّه غائبة عن جناح الزوج (نادر)، بينما كان مسافراً في رحلة تجارية، وشائعات شتّى لا قِبَلَ لهذا السكيتش بتتبّع تفاصيلها المشينة، إذ أنّ الحادثة الرئيسة لقصّتنا جَرَت بهدوء واستقلال وتركيز على الأنف المقضوم، من دون بحث عن الأسباب؛ ومن غير اعتقاد بلعنة الجُدري التي قضَتْ على ساكني القصر، ونجاة شُعيب، الطفل الوحيد منها). وعدا هذه الحوادث المطويّة من السِّيرة، فسنتخذ من سفر شُعيب نادر شهاب الدين لمصر، ومقابلته أبا الهول، قطباً رئيساً ثانياً، نروي عند قمّته أحاديثَ أجدى في النقل والتبرير.
بعضُهم يضمّن قصصَه حيوانات مفترسة حقيقية، أسُوداً محتبَسة في أقفاص، دُببةً وذئاباً مُرَبّاة في حديقة حيوان، أو يعيد صياغة مشهد صراع (بِشر بن عوانة) مع أحد أسود الصحراء؛ لكنّ خبراً من أخبار التاجر نادر، عن مشاهدته لتمثال أبي الهول المصنوع من حجر رمليّ، في سفرة من سفراته، أوحى لشُعيب الابن بفكرة لقاء التركيب المهول للفينكس، واكتشاف الوضع المسالم للأسد الذي يحمل رأسَ الملك خفرع، يبسط قدميه تحت جذعه بطول خمسة عشر متراً. أمّا الحديث المباشر مع التمثال تحت قمر الجيزة الصحراوي المنخفض، كهالة تحفّ غطاء الرأس الفرعوني المثلّث، فهذا من أغراض قصّتنا التي تفرز مغامرة الابن الشابّ عن سلسلة قصص الحيوان، في أيّ كتاب ذُكِرت. (ولا يتوخّى هذا السكيتش إضافة حكمة مفترضة، مضافة إلى ذلك النوع من القصص؛ فقط يروي عن مغامرة أنفٍ مقطوع إزاء أنفٍ مقطوع آخر، مغامرة ستكتشف مكاناً ولغة وحديثاً كان الأب (نادر شهاب الدين) قد فصَّلَها لابنه الصغير؛ ثم انتقل ذلك الإيحاء بتفصيله لقصتنا).
سيجِد شُعيب التمثالَ على حاله، منذ أن اكتشف الأبُ التاجر وضعَه وصمتَه المبهِر تحت القمر، ومنذ بروز القمّة الشمّاء للهرم للكبير في الخلفية الزرقاء، المعتمة للسماء. كانت القدمان الطويلتان لأبي الهول توحيان بالاستقرار والتربّص لأيّ كلام يبدؤه الكائنُ البشري الذي فقدَ أنفه (تراءى شُعيب للفينكس الباسم قَزَماً، لم يحالفه الحظّ في الاحتفاظ بأنفه):
- حسِبَتْني أمّي محظوظاً، أتراني كذلك؟
انتظر شعيب تغيُّر سحنة التمثال، ذي الأنف المحطوم، وانحدار الكلمات على تجعّدات اللحية المتدرِّجة، وسقوطها بين القدمين المبسوطتين. التمع التاجُ الأسطوري فوق رأس التمثال، وتذكّر شُعيب نصيحةَ الأب بانتظار كلمةٍ تأتي بها الرياح الجافّة وتهيل طبقةً من صمت التمثال، كلمةٍ ليس لها مثيل في اللغات؛ غير أنّها ستكون مفهومة لديه. وحينما يئس شعيب من سقوط الكلمة -بطيئة كزحف الرمال الأبدي (كما أوحى الأب التاجر)- سمِع شعيب همساً يزحف نحوه:
- (لستَ المسافرَ، سيئ الحظّ، الذي يقصدني أوّل مرّة. عشرات العظماء والصعاليك وقفوا تحت أنفي الممسوح. لم أعثر في صوامعي الفارغة على كلمة تواسيهم وتعيدهم إلى بيوتهم راضين مطمئنين لقدرهم ومصيرهم. أنا مثلك سيئ الحظ. عدْ إلى بيتك يا بنيّ، وجالِس تماثيلَك المنسوخة من جلستي الوحيدة في الصحراء).
ظنّ شعيب تجميعَ أبي الهول لعبارة بهذه الطول، صراعاً طويلاً ومؤلماً مع الصمت؛ عبارة قيلت بترتيب مختلف للمسافرين الذين انتهى بهم المطاف في حوض أبي الهول الرملي، لكنّها العبارة نفسها التي انجرفت، كحبّات الرمل المُعرّاة، حبّة بعد حبّة، من علوّ عشرين متراً، إليه أيضاً بتغيير بسيط.
- أنا وحيد مثلك في قصر العائلة الكبير، بل لعلّني أكثر وحدة منك، بعد وفاة أمي السنة الماضية.
انهارَت عبارةٌ ثانية من التمثال، وتكوّمت على القدمين الممدودتين، حيث يجلس شعيب على أطرافهما. كانت المسافة بعيدة، إلا أن عبارة أبي الهول تسارعت، منغَّمة وصريحة:
- لكنّني لا أستطيع مواساة أحد منذ دهور. لا تُهِل الترابَ على رأسك!
- أشعر بالعار لهباً يستعر في داخلي، وقطيعاً من الجرذان القارضة تنهشني.
فوجئ شعيب بلسانه يحفر في تراب السنين، فينهال حول الجسد الرمليّ الممدود، ثلاثة وسبعين متراً.
- سقوف القصر أهالت التراب أيضاً على حادث تلك الليلة. لم أقدِم لأسمع منك تبريراً لأقاويل يردّدها خدمُ البيت سرّاً بين الجدران المتداعية. لا أريد أن أتحوّل إلى أسطورة، لغُز أو لعنة حطمت أنفينا معاً.
- ما عدتُ مسيطراً على جسمي الممسوخ. لم أمنع المحطِّمين من تكرار جلستي الأبدية هذه في نُسَخ من التماثيل المزيَّفة. في النهاية، لا أظنّني أقول كلاماً لا تعرفه. لديك أقران منّي تكفيك. اذهبْ لبيتك واطمرْ سرَّك إنْ شئت مع جثّة أمّك في القبر.
- يا له من عقاب! هل تراني أطلب غفرانَك لها، يا شبيهي المحظوظ -أعني سيئ الحظ؟.
- ليس بيننا ثمّة شَبَه. فقط أنا أحرس أسرار القبور حولي، ولا أجرؤ على فضح سرّ ميتٍ واحد داخلها. لستُ ناقماً ولا نادماً على فقْد أنفي، فضلاً عن العفو عن أندادي الممسوخين. أصارحُك بأنّي لا أقدر على مواساة بائس يقطع آلاف الأميال لرؤيتي والحديث معي. وها أنت تراني وحيداً وحزيناً مثلك.. ألديك طلَبٌ آخر، أيها القَزم؟
- أرغبُ في نسْج قصة حول شخصيتك الألفية. ركوعك العظيم لآلهة النور!
- يا له من طلب مستحيل. أمنية لن تتحقّق إلا مرّة كلّ ألف عام. مرّة لملك طيبة أوديب، ومرّة في مكان بعيد عن مصر، لمهندس سور الصين، حين ساعدته في إرضاء الإمبراطور باستبدال تمثالي بأيقونة مقدّسة حامية للسور العظيم.. وهذه قصة لم تذكرها الكتُب قطّ.
- اجعلها الثالثة أيها الكائن الحارس، وساعدْني على صياغة كينونتي السردية المشابهة لكينونتك، أقهرُ بها صمتَ القصر الكبير.
كان طلب شُعيب غريباً، مُزلزِلاً كعاصفة صامتة، هدّدت الوقارَ التصويري للجسد والوجه والقناع الرمليّ، الذي قاوم مدفعية نابليون، ومعاول الآثاريين، وكاميرات السواح، وأمانيّ الملوك والأباطرة، مثلما اللقطاء وأبناء السّفاح، على حدّ سواء.
لم يجِب أبو الهول، كما توقّع شُعيب، بكلمة أو عبارة، مُختزنتين من أجله. بل لم يفزع التمثالُ الجبّار لكسوف القمر، وانسحاب أشعّته وراء البناء المخروطي الأعظم للهرم.
أحسّ شُعيب بانقذافه وسط موجةٍ ضوئية، أحالتْه إلى نجمة عالية، كان يراقب سطوعَها من سطح قصره، في ليالٍ ثقيلة الصمت على كيانه المقضوم، هناك في بلده.