مجلة شهرية - العدد (581)  | فبراير 2025 م- شعبان 1446 هـ

أمين يوسف غراب من عطشجي السكة الحديد إلى جائزة الدولة التقديرية

الكاتب أمين يوسف غراب صاحب رحلة مع الحياة أغرب من قصص الأفلام الخيالية السينمائية، هو الشاب الذي ظلّ يجهل مبادئ القراءة والكتابة حتى سن السابعة عشرة من عمره، وكانت سخرية الفتاة التي حضرت إلى مكتبة بلدية دمنهور شمال القاهرة، تطلب استعارة كتاب الأيام للدكتور طه حسين للقراءة، فناولها كتاباً آخر، محطة مفصلية قلبت حياته رأساً على عقب، إذ قالت الفتاة ساخرة: أنت لا تعرف تقرأ، وتعمل في مكتبة، مش عيب تبقى شحط كده وجاهل!
بداية الرحلة
أمين يوسف غراب مواليد 31 مارس 1912 قرية محلة مالك مركز دسوق بمحافظة كفر الشيخ شمال القاهرة، وكان والده يعمل بالتجارة، وتوسع في تجارته ونقلها إلى مدينة دمنهور في محافظة البحيرة، وانتقل مع أسرته للعيش في دمنهور، وحقق مكاسب كبيرة حتى أصبح من التجار الأثرياء بدمنهور، وكان أمين يوسف غراب ولداً وحيداً على خمس بنات، فعاش بين والديه مُدللاً مُترفاً، ورفض أمين دخول أي مدرسة، ويسكت والده وهو يهزُّ رأسه مُوقناً أن ابنه أمين سيرث تجارته الكبيرة من بعده، ولهذا فهو ليس بحاجة لدخول المدارس، ليتعلم ويحصل على شهادة للتوظيف والعمل بها، ومثلما يحدث في الأفلام الدرامية تنقلب حياة الوالد من النقيض إلى النقيض، كأنه القدر الذي يعصف بحياة الأثرياء، سريعاً تتعرض تجارة الوالد للخسائر المتكررة، ويصبح مديناً للكثير من التجار، وأمام الخسائر المتكررة يسقط الوالد ميتاً بأزمة قلبية مفاجئة، وتباع كل ممتلكات عائلة يوسف غراب في المزاد العلني وفاءً لحقوق التجار.
وأصبح أمين يوسف غراب الفتى المدلل المترف عليه مواجهة قسوة الحياة بمخالبه الضعيفة حتى يوفرّ نفقات أمه وأخواته البنات، وكانت أمه لا حول لها ولا قوة، لا تملك معاشاً شهرياً تواجه به ظروف الحياة القاسية، ويخرج أمين يطلب العمل بلا شهادة، فهو لا يعرف القراءة والكتابة، فيعمل عطشجي في سكة حديد دمنهور والعطشجي مساعد سائق القطار الذي يملأ خزان القطار بالمياه وفي أحد الأيام يراه نائب دمنهور في مجلس النواب المصري الذي يعرفه جيداً، وكثيراً ما شاهده يقف بجوار والده حتى ينجح نائب دمنهور بالانتخابات، ينادي عليه ويسأله ويعرف منه قصته، ويسأله النائب: هل تحتاج إلى المال؟! ويرفض أمين، لكن النائب يجري اتصالاته، وبناء عليها يتم نقل أمين يوسف غراب من مصلحة سكك الحديد إلى وظيفة في مكتبة بلدية دمنهور، عامل يكنس وينظّف المكتبة والكتب من الساعة الثامنة صباحاً حتى السادسة مساء كل يوم، ومن دون مقدمات يقول مدير المكتبة لأمين غراب بطريقة مستفزة:
(أنت عارف شغلك، كل يوم ترش قُدّام المكتبة وتمسح البلاط، ولو وجدت كتاباً واحداً عليه غبار، سوف أطردك)!
يرد الشاب وقد تجمدت الدماء في عروقه قائلاً: حاضر يا حضرة المدير، كلام حضرتك أوامر، وفي صباح اليوم التالي يدخل الشاب المكتبة، وينفذ كل أوامر المدير، ويجلس حتى يسمع المدير يقول له: أنا ماشي، وأنت مكاني كل يوم، ولو حد سأل عليّا قُلْ: المدير في الحمام العمومي، أو قُلْ: يصلي في الجامع، مفهوم، ويرد: حاضر يا سعادة المدير.
يقوم الشاب يتأمل الكتب ويرى صور الأغلفة، وهو يكاد يبكي من شدة الموقف الذي فيه، وفجأة تدخل فتاة المكتبة، وتقول له هات كتاب الأيام للدكتور طه حسين، يرد الشاب: حاضر، ويناولها كتاباً آخر، فتقول له:
(أنت لا تعرف تقرأ، وتعمل في مكتبة، مش عيب تبقى شحط كده وجاهل)!
رحلة التحدي
يصمت الشاب لحظة أمام سخرية الفتاة، ويجد نفسه ينظر للكتب ويقول:
فعلاً عندها حق أنا جاهل، أنا أعمى، لازم أتعلم القراءة والكتابة.
في نفس اليوم يقرر البحث عن المدرس الذي كان يُعَلّم أولاد عائلة بجوار عزبتهم السابقة، وأصبح يومياً يتعلم القراءة بسرعة شديدة، ثم يواصل تعلم اللغة، وخلال عام واحد كان قد أتقن اللغة العربية تماماً، وأصبحت كتب المكتبة غذاء الروح له، ويقرأ كل كتب العقاد وطه حسين، ويقرر أن يتعلم اللغة الإنجليزية، وقد أشار بالتفصيل إلى قراءاته وثقافته بشكل غير مباشر عبر روايته الأخيرة: (الساعة تدق العاشرة) على لسان بطلها محمد الشربيني معادل شخصية المؤلف أمين يوسف غراب قائلاً: كنت لا أستطيع أن أتصور أنني في السادسة أو السابعة عشرة من عمري وأني ابن موظف كبير في الدولة، وأجهل القراءة والكتابة ولا أعرف حتى كتابة اسمي، ولذلك أردت أن أتحلل من هذا الجهل، وأن أتطهر من هذه المهانة مهما يكن الثمن، وكانت تستهويني العناوين والأسماء: الزناتي خليفة، والزير سالم أبو زيد الهلالي سلامة، ناعسة الأجفان، قصة سيف بن ذي يزن، الشاطر حسن والسبع بنات، كنت أشتري الكثير من الكتب، وكنت أتفحصها جيداً قبل أن أشتريها، وظللت كذلك زمناً طويلاً ألتهم هذه الكتب التي كنت أظنها هي وحدها قمة الأدب والفن، إلى أن ظهر رجل رأيت صورته في الصحف، وكان وسيماً في ملابسه التقليدية الجُبّة والقفطان والعمامة، وكانت أمنيتي أن ألقاه يوماً وأن أقبّل يده، لكن لم تتحقق هذه الأمنية، كان اسمه مصطفى لطفي المنفلوطي، وكنت أقرأ له بنهم، وألتهم كتبه التهاماً، وأنا أقرأ ماجدولين أو تحت ظلال الزيزفون وبول وفرجيني وغادة الكاميليا، وكل ما خطت يده من مترجمات، تدرجت إلى القراءة الجادة، وتعرفت إلى الأدب الصرف، قرأت شكسبير، وبلزاك، ودانتي، وجورج صاند، والفريد دي موسيه، وجي دي موبسان، وديماس الكبير، وديماس الصغير، وديستوفسكي، وترجنيف، وحفظت عن ظهر قلب جان جاك روسو، وطاغور، وأناتول فرانس، وتولستوى، وغيرهم من الكُتّاب والفلاسفة.
لقاء الدكتور طه حسين
خلال ثلاث سنوات يقرأ أمين يوسف غراب مئات القصص والروايات من عيون الأدب العربي والغربي، وبدأ يكتب القصة القصيرة، ثم يقرأ إعلاناً في مجلة الصباح عن تنظيم مسابقة للقصة القصيرة، فيشترك فيها، ويفوز بالمركز الأول عن قصة (بائعة اللبن) سنة 1940، وتفتح هذه القصة الباب أمام أمين يوسف غراب، ليراسل الدوريات الثقافية في القاهرة التي تنشر له، وينال الكاتب الشاب أمين يوسف غراب إعجاب محمد التابعي رئيس تحرير مجلة آخر ساعة ذائعة الصيت في ذلك الوقت، وينشر له التابعي قصة (في البيت) في مجلة آخر ساعة أبريل سنة 1942، ويعجب التابعي إعجاباً كبيراً بالكاتب الشاب أمين يوسف غراب، ويجعله يكتب قصة العدد في مجلة آخر ساعة سنوات طويلة.
ويكتب مجموعة قصصية وكان قد نشر معظمها بالدوريات الثقافية ويقرر أن يرسلها للدكتور طه حسين شخصياً.
وذات يوم يجد سيارة فخمة تقف أمام المكتبة وينزل منها السائق، ويقول: هل تعرف واحد اسمه أمين يوسف غراب؟!
فيرد: نعم أنا! فيقول له السائق: تعالى معي الدكتور طه حسين عاوزك النهارده! يركب السيارة التي انطلقت مسرعة حتى وصلت إلى مقر مجمع اللغة العربية بالقاهرة، ويستقبله الدكتور طه حسين قائلاً بصوته الرخيم: تعالى يا يوسف!
يدخل يوسف ويحتضن العميد وهو يبكي، ويصرخ قائلاً: أنا كنت بشوف صورة حضرتك على غلاف كتبك، وحضرتك السبب اللي غيّر حياتي، ويقصّ عليه حكايته، فيقول له عميد الأدب العربي: أنت موهوب، لقد قررت طباعة مجموعتك القصصية وسوف تترجم للغة الفرنسية بواسطة صديق لي بجامعة السربون سوف تصبح من أهم كُتّاب مصر يا يوسف.
ويكتب الدكتور طه حسين مقالاً عنه بجريدة الأهرام عام 1952، وينشر أمين غراب هذا المقال كمقدمة لمجموعته القصصية (آثار على الشفاه) التي صدرت عام 1953، وكان الدكتور طه حسين قد تحدث في مقاله عن مجموعتي (يوم الثلاثاء) و(طريق الخطايا) الصادرتين عام 1952، فأعجب بلغة الكاتب وأسلوبه ولما وجد لديه حِساً روائياً في قصصه القصير نصحه بالاتجاه إلى كتابة الرواية، ويستجيب أمين يوسف غراب لهذه النصيحة، أو كان لديه الاستعداد لتلبية النصيحة، فيبدأ في نشر أول رواية له بعنوان: (ست البنات) عام 1954، ثم يكتب بعدها أربع روايات.
وفي المقال يكتب دكتور طه حسين: (وأمين يوسف غراب يمتلك أدوات كاتب القصة المحترف).
ويشجع الدكتور طه حسين رئيس نادي القصة بالقاهرة أمين للانتقال والعمل بالقاهرة، ويدعوه لحضور صالونه الأدبي الأسبوعي الذي كان يعقد في منزله فيلا رامتان بشارع الهرم جنوب القاهرة حيث كان يرى فيه صورة الأديب العصامي الذي علّم نفسه، وهكذا ينتقل أمين يوسف غراب من العمل في سكك حديد مصر ومكتبة بلدية دمنهور، للعمل بالمجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب بالقاهرة المجلس الأعلى للثقافة حالياً برعاية الأديب يوسف السباعي أمين عام المجلس، الذي يساعده في ضمّ سنوات العمل السابقة في مصلحة سكك حديد مصر، وسنوات العمل في مكتبة بلدية دمنهور، وبعد ضمّ كل السنوات السابقة، يتم ترقيته، ليصبح مدير العلاقات العامة بالمجلس.
الكتابة للسينما طريق الشهرة
كتب أمين يوسف غراب 17 مجموعة قصصية منها: نساء في حياتي، امرأة العزيز، يحدث في الليل فقط، هذا النوع من النساء، آثار على الشفاه، والساعة تدق العاشرة، وأبرز رواياته: ست البنات، الأبواب المغلقة، يوم الثلاثاء، شباب امرأة. ويشجعه المخرج صلاح أبو سيف للكتابة للسينما مباشرة، فيكتب قصة وسيناريو وحوار أكثر من عشرين فيلماً وهم: الخلخال 1955، دعوني أعيش 1955، جريمة حب 1955، بحر الغرام 1955، شباب امرأة 1956، علموني الحب 1957، أنا وقلبي1957، نساء محرمات 1959، وعاد الحب 1960، نساء وذئاب 1960، خلخال حبيبي 1960، ست البنات 1960، السفيرة عزيزة 1961، سنوات الحب 1963، حب لا أنساه 1963، الثلاثة يحبونها 1965، الليالي الطويلة 1967، أشياء لا تشترى 1970، الساعة تدق العاشرة 1974، وكتب ثلاثة مسلسلات: جواز البنات 1964، الأبواب المغلقة 1966، وللأزواج فقط 1970، ومسرحيتين: ست البنات، وشباب امرأة 1966.
حصل على جائزة الدولة التقديرية في القصة القصيرة عام 1964 بعد رحلة حافلة بالشقاء والنجاح معاً، فيما توفي يوم 27 ديسمبر عام 1970 عن عمر ناهز 58 عاماً، بعد رحلة شاقة تحتاج إلى من يحولها إلى فيلم سينمائي.

ذو صلة