مجلة شهرية - العدد (581)  | فبراير 2025 م- شعبان 1446 هـ

النص الغنائي في إنتاج عبدالعزيز المقالح

في الـ28 من نوفمبر الماضي (2022) رحل عن الساحة الأكاديمية والثقافية والإبداعية العربية (عبدالعزيز المقالح)، شاعر اليمن وأديبها والوجه الأصيل لصنعاء الحضارة والتاريخ، عن عمر ناهز الـ85 عاماً، وبعد سجل حافل بموسوعية الإبداع الإنساني الزاخر بقرابة 60 مؤلفاً منها 23 ديواناً شعرياً، ورصيد هائل من الإسهامات الإعلامية والسجالات الفكرية، ككاتب أعمدة في كبريات الصحافة العربية، ومعدّ برامج إذاعية، إذ كان من الرعيل الأول المؤسس لإذاعة صنعاء.
ورغم إنتاجه الموسوعي المعروف على الساحة العربية والعالمية، الذي حظي بالدراسات النقدية والترجمة إلى اللغات الأخرى، إلا أن إنتاجه الشعري الغنائي ظل غائباً عن محبرة التدوين والطباعة، وفي منأى عن الدارسات النقدية، فما سرّ هذا الغياب؟ وما أهم عيون الأغاني اليمنية الشهيرة التي هطلت من مخيلة المقالح؟ ومن تغنى بها؟
من المعلوم أن غياب الإنتاج الشعري الغنائي للراحل عبدالعزيز المقالح، عن رفوف دواوينه الشعرية، وعن دارسي ونقَّاد شعر الغناء اليمني والعربي، نتاج لعدم اهتمام المقالح نفسه بتدوين وإصدار قصائده الغنائية -التي انتشرت وصارت على ألسنة العامة والخاصة- في كتاب يضم جميع خواطره وغنائياته المدوزنة إيقاعاً ولحناً ومضامين رصينة.
ليس هذا الكلام من باب الرجم بالغيب، ففي إحدى لقاءاتي الحوارية الصحفية سألت الشاعر الدكتور عبدالعزيز المقالح -يرحمه الله- عن إنتاجه الغنائي، فقال لي والابتسامة تشرق على محياه: أعترف أن هذا ليس مجالي وأني لست كاتب أغنية، وما نُسب إليَّ من كلمات يغنيّها بعض من الفنانين اليمنيين لم تكن سوى تعابير مرتجلة كنت أكتبها أو بالأحرى أمليها في حضور الفنان نفسه، كما هو الحال مع تلك الأغاني التي لحنها وغناها الفنان القدير أحمد فتحي، فقد جمعتنا في القاهرة في أوائل السبعينات من القرن المنصرم عندما كنت أواصل دراستي العليا في كلية آداب جامعة عين شمس، وهو يدرس في الفن في معهد الموسيقى، وفي تلك الفترة كنا نذهب إلى بعض الأماكن خارج القاهرة وبالقرب من الأهرام ليعزف ويغني بعضاً من أغانيه الأولى، ثم كان يطلب بعض الكلمات لألحان جاهزة، ولا أخفي أنني كنت لا أود أن تحمل هذه القصائد اسمي فقد كانت بسيطة وساذجة. باستثناء القصيدة المغناة (صنعانية) فهي النص الغنائي الوحيد الذي كتبته بانسجام.
النص الغنائي الهادف
كان الشاعر عبدالعزيز المقالح -يرحمه الله- ضليعاً بكتابة القصيدة المغناة الهادفة والمعالجة لمشكلات اجتماعية وثقافية موصولة بمفارقات الغناء، والفقر، والغربة، والوطن، والحب، في المجتمع اليمني خاصة والعربي عامة، لكنه كان غير مؤمن بتدوينها والاتكاء عليها كإنتاج رسمي أكثر من رؤيته لها كجانب من الدندنة والتسلية بين الحينة والأخرى.
وبعيداً عن المسار الزمني التراتبي لعيون الشعر الغنائي عند المقالح، فإن موسوعية إنتاج المقالح الأدبي والنقدي والفكري والشعري والأكاديمي المتموضعة في قلب الحداثة العربية، وشخصيته الجامعة، وتعاطيه الواعي مع محيطه الاجتماعي والإنساني، وبروح الناقد الحصيف المربي للأجيال، والشاعر المرهف، والأكاديمي الصارم؛ كلها عوامل أساسية جعلت شعر المقالح الغنائي ملتحماً بالواقع العربي ومعضلاته الاجتماعية، فقاوم النظرة القاصرة والتعصب الشديد إزاء قضية الحب، في مجتمع محافظ، خصوصاً عندما يتصل الأمر بالطبقية الاجتماعية الموصولة بالمادة (الفقر والغناء)، ولعل من نصوصه المغناة في هذا السياق قصيدة عنونها بـ(الحب والفقر) يقول فيها:
إن يحرمونا يا حبيب الغرام ويجعلوا فقري لوصلك حرام
فإن حبي دائماً لا يليــــــــن والقلب لا يسلى ولا يستكين
إلا بوصلك يا مليح الجبين لو يزرعوا عمري بنار الشقا
المهم أنت يا احوم / لا تصدق فتندم
كلنا في الهوى دم / كلنــا أولاد آدم
بعد هذا المدخل المبيت المقفول بموشح إيقاعي مشبع بالحكمة المؤكدة لأهمية إصرار العاشق على تخطي المحاذير الاجتماعية والفوارق الطبقية التي ترهن مستقبل الشباب الاجتماعي والأسري بالمستوى المادي؛ فيقدم تعريفا قيمياً لمعاني الحب وجوهره الإنساني الذي لا يعترف بحواجز الفقر والغناء:
الحب أسمى من رماد الفلوس ومن كنوز الأرض وماس الشموس
الله وحده فجّره في الضميـــر وأجراه في دم الغني والفقــــــــــــير
وسيّره في الأرض عبر الأثير وتوج الإنسـان بــــــــــــه فارتقى
المهم أنت يا احوم / لا تصدق فتندم
كلنا في الهوى دم / كلنـا أولاد آدم
وفي المقطع الأخير من هذا النص الغنائي -الذي أطلق عليه الجمهور فيما بعد أغنية الحب والفقر- يؤكد الشاعر المقالح أن الحب ثيمة مشتركة بين سائر الناس من ساكني الأكواخ إلى القصور إلى أديرة القصب:
قالوا فؤاد الحب مصنوع ذهب ما يسكن الأكواخ أو دير القصب
يا ليتهم قد قابلوه في الطريق أو عانقوا بحر الغرام العميق
ها هو جواهر غالية أو عقيق هو الشمس تغسل أرضنا بالتقى
المهم أنت يا احوم / لا تصدق فتندم
كلنا في الهوى دم / كلنـا أولاد آدم
حلم اليمنيين
في منتصف السبعينات كانت اليمن تعيش حالة تشطيرية قسرية، حيث شعب واحد يحكمه نظامان سياسيان، وكان المقالح كغيره من الأدباء والمثقفين والمفكرين اليمنيين من رافضي هذا الوضع الشطري، بل والمؤسسين لحركة ثقافية تعبر عن وحدة وطنية لا تؤمن ولا تعترف بالحدود السياسية.
ولعل أجمل ما كتبه من النصوص الغنائية في هذا السياق، قصيدته المغناة لحناً وأداءً بصوت الموسيقار العربي الفنان أحمد فتحي ومن بعده الفنانة بلقيس أحمد فتحي: (لمع البرق اليماني) ويعني به حلم الوحدة اليمنية واشتياقه للوطن الواحد (اليمن) حيث يقول النص:
لمع البرق اليماني فشجاني ما شجاني
جرح القلب اشتياقا وبعينيه بكـــــــاني
ليته يحمل شوقي نحو هاتيك الجِنانِ
لترى نيران شوقي واحتراقات دخاني
لمع البرق اليماني فشجاني ما شجاني
حداثة النص الغنائي
لقد وصف شاعر اليمن الكبير عبدالعزيز المقالح بأحد رواد الشعر الحداثي اليمني والعربي المتمثل في قصيدة التفعيلة التي كسرت تابوت الكلاسيكية العمودية للقصيدة العربية، إذ كان المقالح ضمن جيل السياب ونازك الملائكة وعبدالوهاب البياتي وغيرهم، لكنه تجاوز حداثة النص الشعري الفصيح إلى النص الشعري الغنائي، في خروج لم يفقد النص سمة الإيقاع ولو في تفعيلة واحدة، وقد تجسد ذلك في نصه الغنائي (صنعانية)، الذي يعد واحداً من النصوص الغنائية الحداثية العابرة لذاكرة الذائقة الفنية اليمنية والعربية، يقول المقالح في النص الذي يُعَدُّ من أشهر الأعمال واللحنية الغنائية للفنان أحمد فتحي:
صنعانية،
مرَّت من الشارع غبَشْ
كان الزمن ظمآن، والفجر اشتكى نار العطش
لكنها لما مشت سال الندى
والورد فتّح وانتعش
صنعانية
صدر المدينة هش
والشارع تغنى وارتعش
يا صاحب المغنى اقترب
واجمع صدى الخطوات
واقرأ ما نقش
صنعانية..
الأهم في هذا في المقام الإشارة إلى أن الفنان فتحي قال عن هذا النص الغنائي في إحدى مقالاته: (لقد تملك هذا النص كياني وغدا نسقه الشعري التصويري شغلي الشاغل، وكما لو أنني أستحضر المشاهد والخطوات المتساوقة مع غبش الفجر وقبيل أن يصحى الضجيج في شوارع صنعاء القديمة، حيث معاني الحضارة والتاريخ والعمق الإنساني، ولقد أخذت وقتاً كافياً أوصلني إلى قناعة باكتمال النص بلحنه اللائق به).
وقال أحمد فتحي: (أنزلت الأغنية إلى السوق، وإذا بها تنتشر كالنار في الهشيم، في اليمن والخليج والجزيرة العربية وتناولته كثير من البرامج الإذاعية والتلفزيونية العربية، وأخذت المراتب الأولى في أكثر من قناة وأكثر من برنامج، وغدت على ألسنة النخب والعامة).
الحنين للوطن
في سني دراسته في القاهرة كان المقالح يلتاع شوقاً لوطنه الأم فتفتق عن ذلك الاشتياق نصوص شعرية كثيرة سواء على مستوى أعماله الشعرية الفصحى من العمود والتفعيلة، لكنه أيضاً أنتج الكثير في مسار الشعر الغنائي: (ظبي اليمن)،
وهو النص الذي يعد من عيون الأغاني اليمنية المعاصرة المستوحاة من التراث، ولكن وفق دفق مشبع بروح الهوية الأصيلة انتماء للوطن ولكن من باب العاطفة الجياشة، وقد اشتغل على تلحينه، وأدائه غنائياً الفنان أحمد فتحي، وقد استعار اللحن منه الفنان الكبير الراحل أبو بكر سالم بالفقيه:
لما يغيب القمر والعقل بع مربوش
تسأل عليه العيون اللي فوقها منقوش
قال السحب في أسى: من أمس ما شفتوش
شل النجوم واختفى وجه السما موحوش
لفتش مغطى، ولا أغطي على مفتوش
بعد هذا المدخل التصويري لملامح للطبيعة الحزينة جراء غياب معشوقه الذي أسماه الشاعر المقالح (ظبي اليمن) حيث يقول:
ظبي اليمن يا حلاه، يا روح من يهواك
حاولت أنســــاك لكن ما استطعت أنساك
أنساك كيف والحشا.. يا فاتني مرعاك
والقلب لك بالطريق هل تبصره مفروش
لفتش مغطى.. ولا غطي على مفتوش
ثم بعد ذلك يتطرق الشاعر إلى الخصائص والسمات التي تثير إعجاب العاشق بمحبوبه فيقول:
تعجبني الكبرياء والدل بالمحبوب
والشيطنة في بالبرا والوعد والمعتوب
والابتذال في الجمال، ما يجعله مرغوب
والعين لولا الرموش جمالها مخدوش
لفتش معطى ولا غطي على مفتوش
وفي المقطع الأخير من هذا النص الغنائي، يحدد المقالح صراحة بأن ظبي اليمن هو ظبي صنعاء، فيقول:
يا ظبي صنعاء.. دموع العين قد قالت لنا
يا ظبي صنعاء.. ليت الليالي ما تفرق شملنا
والعقل يا فاتني في حبكم مربوش
لفتش مغطى ولا غطي على مفتوش
ومن المهم الإشارة إلى أن اللازمة شعبية: (لفتش مغطى ولا غطي على مفتوش) والتي دخلت على النص الغنائي أثناء الاشتغال على تلحينه، ولم يقلها الشاعر، بل كان المقالح حريصاً على اعتماد الأصل الذي قاله هو: (حزني مغطى، وقلبي للهوى مفتوش).
إسهامات المقالح من النصوص الغنائية كثيرة وإن كانت مغيبة عن الدراسة والتدوين، حيث كان المقالح من أهم كتاب نصوص اللوحات الغنائية لمسرحية (الفأر في قفص الاتهام) أهم الأعمال المسرحية التاريخية اليمنية، ومما كتبه المقالح في المسرحية: (نحن جنودك يا بلقيس)، و(رسالة إلى سيف بن ذي يزن)، وخارج العمل المسرحي، كتب المقالح نصوصاً أخرى غنَّاها ولحنها أحمد فتحي كأغنية: (لا تظلموه يا ناس إذا ترايا)، و(سيرة شجن) وغيرها.
أخيـراً
اللافت في تجربة الراحل عبدالعزيز المقالح الإبداعية، ملازمته للعاصمة صنعاء ورفضه السفر، بعد أن شبع غربة وأسفاراً، ورغم أن جوائزاً عالمية تشرفت باسمه، وكانت معطيات تسليمها يقتضي سفره للخارج، إلا أن رفضه دفع أرباب تلك الجوائز العالمية، للسفر إليه وتكريمه في صنعاء، كجائزة اللوتس 1982م التي عرفت بـ(لوتس الدولية للأدب) و(لوتس للأدبين الأفريقي والآسيوي). وكان يمنحها اتحاد كتاب آسيا وأفريقيا سنوياً للكُتاب البارعين والمتميزين بطرحهم الناقد والمنتصر لحقوق الشعوب. وجائزة الشارقة للثقافة العربية، بالتعاون مع اليونسكو، باريس 2002م، وجائزة (الفارس) من الدرجة الأولى في الآداب والفنون من الحكومة الفرنسية 2003م، وكذلك جائزة الثقافة العربية من المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم 2004م، وفي العام 2010م حصل على جائزة العويس الثقافية في دورتها الـ(11). وأخيراً جائزة أحمد شوقي للإبداع الشعري - مشاركة مع الشاعر المصري أحمد عبدالمعطي حجازي - 2019م، وجميع هذه الجوائز لم تقنعه في السفر خارج صنعاء.
ويكتب الدكتور طه حسين مقالاً عنه بجريدة الأهرام عام 1952، وينشر أمين غراب هذا المقال كمقدمة لمجموعته القصصية (آثار على الشفاه) التي صدرت عام 1953، وكان الدكتور طه حسين قد تحدث في مقاله عن مجموعتي (يوم الثلاثاء) و(طريق الخطايا) الصادرتين عام 1952، فأعجب بلغة الكاتب وأسلوبه ولما وجد لديه حِساً روائياً في قصصه القصير نصحه بالاتجاه إلى كتابة الرواية، ويستجيب أمين يوسف غراب لهذه النصيحة، أو كان لديه الاستعداد لتلبية النصيحة، فيبدأ في نشر أول رواية له بعنوان: (ست البنات) عام 1954، ثم يكتب بعدها أربع روايات.
وفي المقال يكتب دكتور طه حسين: (وأمين يوسف غراب يمتلك أدوات كاتب القصة المحترف).
ويشجع الدكتور طه حسين رئيس نادي القصة بالقاهرة أمين للانتقال والعمل بالقاهرة، ويدعوه لحضور صالونه الأدبي الأسبوعي الذي كان يعقد في منزله فيلا رامتان بشارع الهرم جنوب القاهرة حيث كان يرى فيه صورة الأديب العصامي الذي علّم نفسه، وهكذا ينتقل أمين يوسف غراب من العمل في سكك حديد مصر ومكتبة بلدية دمنهور، للعمل بالمجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب بالقاهرة المجلس الأعلى للثقافة حالياً برعاية الأديب يوسف السباعي أمين عام المجلس، الذي يساعده في ضمّ سنوات العمل السابقة في مصلحة سكك حديد مصر، وسنوات العمل في مكتبة بلدية دمنهور، وبعد ضمّ كل السنوات السابقة، يتم ترقيته، ليصبح مدير العلاقات العامة بالمجلس.
الكتابة للسينما طريق الشهرة
كتب أمين يوسف غراب 17 مجموعة قصصية منها: نساء في حياتي، امرأة العزيز، يحدث في الليل فقط، هذا النوع من النساء، آثار على الشفاه، والساعة تدق العاشرة، وأبرز رواياته: ست البنات، الأبواب المغلقة، يوم الثلاثاء، شباب امرأة. ويشجعه المخرج صلاح أبو سيف للكتابة للسينما مباشرة، فيكتب قصة وسيناريو وحوار أكثر من عشرين فيلماً وهم: الخلخال 1955، دعوني أعيش 1955، جريمة حب 1955، بحر الغرام 1955، شباب امرأة 1956، علموني الحب 1957، أنا وقلبي1957، نساء محرمات 1959، وعاد الحب 1960، نساء وذئاب 1960، خلخال حبيبي 1960، ست البنات 1960، السفيرة عزيزة 1961، سنوات الحب 1963، حب لا أنساه 1963، الثلاثة يحبونها 1965، الليالي الطويلة 1967، أشياء لا تشترى 1970، الساعة تدق العاشرة 1974، وكتب ثلاثة مسلسلات: جواز البنات 1964، الأبواب المغلقة 1966، وللأزواج فقط 1970، ومسرحيتين: ست البنات، وشباب امرأة 1966.
حصل على جائزة الدولة التقديرية في القصة القصيرة عام 1964 بعد رحلة حافلة بالشقاء والنجاح معاً، فيما توفي يوم 27 ديسمبر عام 1970 عن عمر ناهز 58 عاماً، بعد رحلة شاقة تحتاج إلى من يحولها إلى فيلم سينمائي.

ذو صلة