عبدالعزيز المقالح أحد أبرز المبدعين اليمنيين والعرب من جيل الستينات، شاعر مجدد، وأكاديمي تخرجت على يديه أجيال متعددة، صاحب لغة شعرية خاصة، أسست لذائقة شعرية جديدة، فقد لعب (المقالح) مع أبناء جيله من الشعراء في الوطن العربي مثل: محمد إبراهيم أبوسنة، وأمل دنقل، ومحمد علي شمس الدين، وقاسم حداد، وعلي الدميني، وغيرهم، دوراً مهماً في تطوير بنية الشعر العربي بعد جيل رواد الحداثة الشعرية: بدر شاكر السياب، ونازك الملائكة، وصلاح عبدالصبور، وأحمد عبدالمعطي حجازي، وسليمان العيسى، وأنس الحاج، وأدونيس.
منذ طفولته المبكرة في قرية (الصول) بمحافظة (إب اليمنية)، التي ولد فيها عام 1937م، ارتبط (المقالح) بالطبيعة واقترب من فضاءاتها، وتعلم كيف يقرأ أسرارها مما غلف قصائده بطابع وصفي تأملي، فكثرت عنده ما يسمى بشعرية الصورة، التي تجيء كمركز أساسي للنص الشعري، مما أكسب تجربته طزاجة في الرؤية وانسيابية في الألفاظ، ومرونة في الجملة الشعرية.
فنحن حين نقرأ قصائده نجد أنفسنا أمام لوحات فنية تتناثر خلالها مناظر الطبيعة ومفرداتها الغنية، من مثل قوله في ديوانه (كتاب القرية):
ترتدي الأرض في الصيف
أجمل أثوابها
وتجود السماء عليها بما ادخرته
من الماء
وهي تبوح بما ادخرته من اللون
في كل منعطف أنهر
وبحيرات صافية كالسماء
تداعبها الريح في رقة
والفراشات
وفي هذا الديوان يؤرخ (المقالح) لقريته التي نشأ فيها، وتعلم من فضائها الأخضر كيف يرى العالم، وكيف يقرأ البشر، قريته التي تشبه كل القرى العربية، ونشأته التي تشبه نشأة معظم الكتاب العرب، رغم أنه يحاول -في قصائده- منح قريته خصوصية ما، مستقاة من خصوصية الحضارة اليمنية العريقة، يقول المقالح:
ترقد القرية اليمنية
مجهدة
ثم تصحو على العيد
يخرج أطفالها في الصباح
وقد غسلوا في الينابيع أثوابهم
وانتشت بالمسرة أبدانهم
في الأكف زهور الحقول
وكعك المنازل
ضوء من العيد يغمرهم
يا زمان الطفولة عد بي إليها
إلى قرية كل أشجارها
كل أحجارها في دمي
ويبدو أن الشاعر الذي ترك القرية في سن السادسة ليعيش في مدينة (صنعاء) ظل مسكوناً حتى شيخوخته بالنبع الأول للخيال والأطياف المبكرة للرؤية، وكان مثل أبناء جيله والجيل السابق عليه من الشعراء الذين جاؤوا من القرى والنجوع، الذين وقفوا مذهولين أمام صدمة المدينة، كما حدث مع (أحمد عبدالمعطي حجازي) في ديوانه (مدينة بلا قلب)، و(صلاح عبدالصبور) في ديوانه (الناس في بلادي)، وبدر شاكر السياب، في حديثه الدائم في أشعاره عن قريته (جيكور).
يصف (المقالح) أهل القرية بالبراءة والنقاء، وكذلك حوائط البيوت التي يملؤها الضوء، وتحفها الطمأنينة، وعن ذلك يقول:
أي قوم هم القرويون
لا يكرهون
كصدر الفضاء قلوبهم المورقات
التي تسع الناس
والأرض والطير
حيطان بيوتهم معرض للضوء
وتراب حقولهم مرسوم بالأعشاب الخضراء
عندما يتجهون نحو الحقول
يعلقون أحزانهم في المشاجب
ويتعلمون من اتساع الفضاء
كيف تتسع الصدور والعقول
تميزت اللغة الشعرية عند (المقالح) بعدة سمات:
أولها: الحداثة التي لا تتبرأ من الكلاسيكية، فرغم انحيازه الفكري للشكل الحداثي في الشعر، إلا أنه ظل مفتونا بعناصر الرومانسية، من خلال غلبة الوصف، وشيوع العاطفة في شعره.
ثانياً: الانحياز إلى الفكر القومي، مثل كثير من أبناء جيله، الذي شهدوا في شبابهم سطوع الحلم القومي في الوطن العربي، فتأثرت كثير من تجارب شعراء وأدباء هذا الجيل بالفكرة القومية، كما نرى ذلك واضحاً في تجربة (أمل دنقل) الذي كان من أقرب أصدقاء المقالح، خصوصاً في فترة دراسة المقالح الماجستير والدكتوراه في القاهرة في جامعة عين شمس في سبعينات القرن الماضي.
وتجلى هذا المد القومي في دواوينه (لا بد من صنعاء) 1971م، و(رسالة من سيف بن ذي يزن) 1973م، و(هوامش يمانية على تغريبة ابن زريق البغدادي) 1974م، و(عودة وضاح اليمن) 1976م، و(الخروج من دوائر الساعة السليمانية) 1981م، و(كتاب بلقيس وقصائد لمياه الأحزان) 2004م.
كما تجلى في عدد من مؤلفاته النقدية والفكرية مثل (عبدالناصر واليمن) والذي رصد فيه الدور الذي لعبه عبدالناصر في اليمن في ستينات القرن الماضي. وكتابه (الزبيري ضمير اليمن الوطني والثقافي)، وكتابه المهم (تلاقي الأطراف)، والذي أكد على أهمية الحوار الوطني في اليمن لرأب التصدعات السياسية، من أجل وحدة مثمرة.
ثالثاً: من أهم سمات التجربة الشعرية لدى المقالح -أيضاً- هو القناع التراثي، حيث اعتمد في كثير من قصائده على فكرة (القناع الشعري) وعادة ما كان يستخدم القناع التراثي ممثلاً في الشخصيات البارزة في التاريخ العربي والإسلامي، ومنها شخصيات يمنية مثل (وضاح اليمن) و(بلقيس)، ومعظم هذه الأقنعة كانت ترد في قصائده السياسية والاجتماعية.
كان الشعر بالنسبة للمقالح رهاناً حياتياً، وقدراً لا فكاك منه، واختياراً جميلاً عاش لأجله، وكانت الكلمة صديقه في كل الأزمات التي مر بها، لذلك كان يسأل نفسه كما في قصيدة أسئلة ومرايا:
هل أخطأت طريقي
حين اخترت الحرف فضاء وجناحا
أطلق قلبي في ملكوت الذكرى
أبحث في نفقٍ لا ضوء به
عن برق مسجون يرسم لليل صباحا
هل أخطأت طريقي
فانسكب الحرف على دربي شوكا وجراحا
ظل (المقالح) حتى آخر لحظات حياته يحلم بالقصيدة التي تؤثر وتغير في الواقع، القصيدة التي تحقق منطلقاتها الجمالية والواقعية. القصيدة التي تنبع من الحياة وتخدم عشاق الحياة:
لأرض الروح
أكتب ماء أشعاري
ولله الذي بسمائه
وجلاله يحتل وجداني
وأفكاري
وللأطفال
للمرضى
لكل مسافر في شارع الإيمان
ظل (المقالح) طوال عمره يناضل بالقلم، من أجل وطنه، وظل مصراً على استقلاله الفكري والإبداعي في ظل التحولات العاصفة التي شهدتها اليمن خلال الأربعين عاماً الماضية، ظل عشقه للوطن يملك عليه زمام روحه، وليس أبلغ -في ذلك- من قوله:
لا أرى في المرايا سواها
ولا في البلاد سوانا
وجهها الثابت المتحول
لا أستطيع التقاط سواه
ولا يستطيع التقاط سواي
أبادلها روحها
وتبادلني نبض روحي