من يقرأ سير أكابر الأدباء والمفكرين العرب يجد تأثير معلمي اللغة العربية وأساتذتها عليهم جلياً، حتى ليكاد يلمس ما طبعه أولئك الأساتذة في نفوس هؤلاء الأعلام، من شغف باللغة، وإشاعة حبها، وصناعة المبدعين والأدباء الذين يحبونها، ويحببونها إلى الناس، وقد كان لأساتذة اللغة والأدب السبق إلى اكتشاف الموهوبين، والأخذ بأيديهم إلى حقول الكلمات، وبساتين الجمال، وهذا ما شهد به أعلام الثقافة والفكر والأدب، معتزين بدور معلميهم في اكتشاف مواهبهم وتوجيههم إلى المجال الذي نبغوا فيه، وتلك الشهادات المنصفة ستكون مادة هذه السطور.
ففي التعليم العام ترك معلمو اللغة العربية بصمة واضحة في حياة النابهين من تلاميذهم، وأوثقوا عرى ارتباطهم بلغتهم، ما جعلهم يتذكرونهم حين سجلوا مذكراتهم بعد عشرات السنين. فيحدثنا الأكاديمي والمحقق حسين نصار عن معلمه في المرحلة الثانوية قائلاً: (في السنة الثالثة، التقيت بمدرس اللغة العربية الذي حظي بتأثير في لم يتخل عني طيلة حياتي).
وبهذا القدر من الإفادة والتأثير كتب نجيب محفوظ عن أستاذه: (كان أستاذ اللغة العربية أكثر أساتذتي تأثيراً في نفسي أثناء الدراسة، ولهذا الرجل فضل كبير في إتقاني لقواعد اللغة العربية).
وبنحو هذا تحدث الأستاذ حمد الجاسر فقال: (من خيرة مدرسي المعهد في ذلك العهد معلم اللغة العربية الأستاذ أحمد العربي).
وكذلك ينسب الأديب أحمد حسن الزيات الفضل في تعلمه اللغة العربية والأدب إلى الشيخ الشنقيطي فيقول: (كان الشنقيطي آيةً من آيات الله في حفظ اللغة والحديث والشعر والأخبار والأمثال. وعى صدره معاجم اللغة وصحاح السنة ودواوين الشعر وعلوم الأدب).
ويتحدث الشيخ علي الطنطاوي عن أستاذه المبارك فيقول: (كان الإمام في اللغة، والمرجع فيها، قيد أوابدها وجمع شواردها، وحفظ شواهدها. ولطالما دلني على كتب قرأتها وانتفعت بها، وهي رأس مالي في العلم والأدب، ولولاه ما سمعت بها).
ويقول الطنطاوي عن معلمه حسني كنعان: (هو أول من علمني الإنشاء العربي).
ويقول الأديب إبراهيم المازني عن أستاذه: (كان من أعلم خلق الله بالنحو والصرف، وكان رجلاً طيباً وقوراً مهيباً).
وهذا أثر مدرس اللغة العربية على الأستاذ أحمد أمين: (تعرفت على شخصية قوية، كان لها أثر كبير في نفسي، كان أستاذاً للغة العربية، اتصلت به فأعجبني من أول نظرة، واتخذني أخاً صغيراً واتخذته أخاً كبيراً).
ويحدثنا طه حسين عن تأثره بأستاذه المرصفي فيقول: (لم أسمع للشيخ مرة ومرة حتى أحببته وكلفت به، وحضرت درسه الأدب في أيامه من كل أسبوع، ولزمت الشيخ منذ ذلك الوقت).
وفي كتابه: (البئر الأولى) تحدث الأديب جبرا إبراهيم جبرا عن أستاذه فقال: (كان لحبه اللغة العربية يعدينا بما يحب ولا يقصر درسه على (المقرر). لقد علمني قواعد اللغة في سنتين. ما بقي أساسياً حتى اليوم في تعاملي مع الكتابة).
ونحو هذا ما كتبه الناقد علي الراعي عن أستاذه فقال: (تعلقت مبكراً باللغة العربية، وأعجبت إعجاباً وافراً بمدرسها، كان رجلاً شديد الذكاء، فصيح العبارة، ساحر الشخصية، وكان حفياً بي بصفة خاصة).
وفي كتابه (سيرة شعرية) تحدث غازي القصيبي عن معلمه في المرحلة الابتدائية فقال: (لقد كان من أسباب تعلقي بالأدب التشجيع الذي لقيته من أحد مدرسينا في تلك الفترة. كان قارئاً ذواقة يحب القصص ويجيد روايتها).
أما أستاذ القصيبي في المرحلة الثانوية فقد وصفه فقال: (كان مدرس اللغة العربية قارئاً موسوعياً وكان اطلاعه على آداب اللغة العربية يدعو إلى الدهشة. سر الأستاذ بطالبه الموهوب وسرعان ما نشأت بين الاثنين علاقة تشبه علاقة الابن بأبيه).
وعن الأستاذ خليل مردم يقول الأديب السوري عبدالغني العطري: (كان درس الأدب عندي أحلى الدروس. كنت أنتظره بفارغ الصبر. وكان أستاذ الأدب الشاعر الكبير خليل مردم أحب أساتيذ المدرسة إلي).
وعن الأستاذ خليل مردم أيضاً تحدث الشاعر نزار قباني فقال: (إنه لمن نعمة الله علي وعلى شعري معاً، أن معلم الأدب الذي تتلمذت عليه، كان شاعراً من أرق وأعذب شعراء الشام، وهو الأستاذ خليل مردم).
ويقول جابر عصفور عن معلمه: (جعلني أحب اللغة العربية، وأفتن بالأدب العربي، إلى الدرجة التي جعلتني أحفظ كل قصيدة جيدة عن ظهر قلب بمجرد الاستماع إليها).
ويحدثنا العقاد عن أستاذه فيقول: (كان هذا النابغة الألمعي أوسع من لقيت محفوظاً في الشعر والنثر. وقد حببت مجالسة الأدب إلى نفسي لأول مرة، ورغبت أن أتخذه فناً أضرب فيه بسهم، كما ضرب فيه الأستاذ، وصرت من ذلك الحين مهتماً بحفظ الشعر، ومطالعة كتب الأدب).
ويقول الشاعر معروف الرصافي عن أستاذه محمود شاكر الألوسي: (كان أعلم أهل زمانه باللغة العربية. وكان يتعهدني كثيراً، وقد وضع تحت تصرفي جميع كتبه. وهو أول من سماني بالرصافي).
ولننظر إلى أثر أستاذ اللغة العربية كما يرويه إحسان عباس: (كان أستاذ اللغة العربية قد نصحنا أن نشترك في مجلة الرسالة المصرية، فاشترك كل واحد من طلاب الصف في هذه المجلة، وكانت تصلنا بالبريد، وعليها اسم كل مشترك وعنوانه، والحق أن مجلة الرسالة أصبحت هي (المعلم الأكبر) لنا، فيها نقرأ ما يكتبه طه حسين والطنطاوي والرافعي، وزكي مبارك، والزيات، وغيرهم من كبار الكتاب).
ومن ثمرات عناية أساتذة اللغة العربية بذوي المواهب ما ذكره الإعلامي والأديب ماجد الشبل عن أستاذه الشاعر عبدالكريم الكرمي، إذ قال: (لقد التقط موهبتي منذ البداية، وعرف ولعي الشديد باللغة العربية، فأخذ يشجعني حتى الثانوية).
وتحدثت الشاعرة فدوى طوقان عن معلمتها التي نبهتها إلى موهبتها الشعرية، وقد كانت غافلة عنها، فقالت:
(قالت لي: لماذا لا تتعلمين من (أخيك إبراهيم طوقان) نظم الشعر؟ إنك تملكين الموهبة ولا ريب في ذلك، فإلقاؤك للمحفوظات الشعرية يؤكد لي هذه الحقيقة فأنت تحبين الشعر).
وتعلق فدوى طوقان على هذا الموقف قائلة: (وظلت الفكرة تتحرك وتعمل عملها في لا واعيتي، وصرت أنام وأصحو على هذه الرؤيا. ورحت في يقظتي أرى بعين خيالي قصائدي التي لم أكتبها بعد منشورة في الصحف).
وشبيه بهذا الأثر الذي تركته كلمة التشجيع في مسيرة الشاعرة فدوى طوقان تلك الكلمة التي قالها معلم اللغة العربية للكاتب المسرحي ألفريد فرج، ورواها في كتابه: (دنيا الكتابة) فقال: (حين كتبت بعض الأبيات ضمن موضوع الإنشاء سألني الأستاذ:
- من أين جئت بهذه الأبيات؟
- فقلت له: أنا نظمتها.
- فسكت لحظة ثم قال: (بارك الله فيك يا ولدي) وتطلع إلى زملائي في الفصل وقال: (زميلكم موهوب) فكانت هذه العبارة القصيرة أكبر جائزة نلتها في صباي).
أما في الجامعة فقد كان تعلق الطلاب بأساتذتهم أظهر، فقد اقتربوا من تشكيل رؤية عن الحياة والمستقبل، فكان أثر أساتذة الجامعة أبين في اتجاه الأعلام إلى دراسة اللغة والأدب.
فطه حسين مثلاً كان دافعاً لكثير من النابغين إلى الالتحاق بكلية الآداب ليظفروا بالتتلمذ على يديه، يقول عبدالقادر القط: (الطالب يدرك أن طه حسين هو الذي يدرسه، فهو مسحور بأستاذيته الكبرى، مسحور بالكلام الذي يسمعه وبالصلة التي أتيحت له أن يتتلمذ على هذا الأستاذ).
ويتحدث محمد مندور عن تأثير طه حسين: (كان للدكتور طه حسين أعظم الأثر في توجيهي، وظل يلاحقني تأثيره سنين طويلة، فعلمني التحرر الفكري، والثقة بالنفس، كما علمني تذوق الشعر العربي القديم وفهمه).
ويقول شوقي ضيف: (كنت أنا ورفاقي نستمع إلى محاضرات أستاذنا طه حسين، معجبين بملاحظاته وما ينثر من أفكاره التحليلية النقدية، وكان يخلب ألبابنا بصوته الساحر، وقد كان إعجابي بمحاضرات طه حسين سبباً من أسباب عنايتي بأسلوبي وانتخاب ألفاظي).
وتحدثت عائشة بنت الشاطئ عن أستاذها في الجامعة أمين الخولي فقالت: (كنت أشعر بالأستاذ الخولي معي، في كل ما أقرأ وما أكتب. كنت أجد لديه لكل معضلة حلاً، ولكل سؤال جواباً. وأحس كلما جلست إليه وحضرت درسه أن عالمي يرحب حتى لتضيق الدنيا عن أن تتسع له).
وكذلك تحدث شوقي ضيف عن أستاذه إبراهيم مصطفى بقدر من الحب والتأثر فقال: (درسنا النحو بطريقة جديدة، طريقة نقدية تحليلية، وكنت أعجب بهذا الاتجاه الجديد في دراسة النحو، وأحاول النفوذ -على غرار أستاذي- إلى بعض الآراء الجديدة).
وكذلك تأثر تلاميذ الطنطاوي به، وكان ممن حكى ذلك الأثر، الأديب اللبناني سهيل إدريس الذي قال: (درسنا الشيخ علي الطنطاوي الأدب في الكلية الشرعية مدة عامين فجعلنا نتذوقه ونحبه. وكنت أتمنى دائماً أن تنشر لي مجلة الرسالة المصرية بعض إنتاجي كما كانت تنشر لأستاذي علي الطنطاوي).
ومن قبيل هذا التأثر ما حكاه معجب الزهراني عن أستاذه في جامعة الملك سعود، شكري عياد فقال: (كان شكري عياد يتفنن في دروس النقد قديمه وحديثه، والمؤكد أنه أول من فتح عيني على شيء اسمه تذوق النصوص الجميلة، وأول من أغراني بنظريات الأدب منذ أرسطو حتى الأسلوبية).
وأختم بهذه المفارقة التي رواها الطنطاوي في كتابه (فكر ومباحث) فقال: (كنت أنظم أبياتاً من الشعر أو أسرقها، كما ينظم كل مبتدئ ويسرق، حتى إذا اجتمع عندي كثير من القطع، عرضتها على أستاذ العربية، وكان لسوء الحظ تركياً، يعلمنا النحو العربي باللسان التركي! فلما قرأه سخر مني وسبني وتهكم علي.
وجاء من بعد أنور العطار فنظم كما كنت أنظم حتى إذا اجتمع عنده كثير من القطع، عرضها على الأستاذ كرد علي فأقام له حفلة تكريمية! فكانت النتيجة أني عجزت عن الشعر، وأن أخي أنور العطار غدا شاعر الشباب السوري).
وإن في هذه الحكاية لمصداق لقول نزار قباني: (إن مدرسي اللغة العربية وآدابها يلعبون دوراً خطيراً في فتح شهية الطلاب الأدبية، أو سدها، فمدرس يجعل ساعة الأدب ساعة تعذيب واحتضار، ومدرس يجعل المادة التي بين يديه حقل جلنار، ويحول النصوص الجامدة إلى نزهة في ضوء القمر).