مجلة شهرية - العدد (578)  | نوفمبر 2024 م- جمادى الأولى 1446 هـ

تاريخ مشروع الجمع الصوتي الأول للقرآن الكريم

لا شك أن في الاستماع وسيلة ناجعة في طلب العلم والتلقي، وقد علمنا القرآن الكريم ذلك عندما قدَّم السمع على البصر في آيات عدة، منها قوله تعالى: (وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (سورة النحل: 78)، وقوله:(... إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً) (سورة الإسراء:36).
وقد كان القرآن الكريم يُتداول وينتشر شفهياً -مع وجود كتبة بعدد محدود- نظراً للأمية السائدة، كذلك حظيت السّنة الشريفة بالحفظ في الصدور، والتلقي الشفهي مع الإذن الخاص لبعض الصحابة -رضي الله عنهم- بالكتابة، كعبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما.
فالسماع هو السبيل الأيسر لتلقي المعلومات والتعلم والتعليم، ونستطيع القول إن الإعلام السمعي ضرب بجذوره في أعماق التاريخ، وأصبح ظاهرة إعلامية بعد الاكتشافات العلمية، والتطور التكنولوجي في عالم صناعة أجهزة البث والاستقبال، وهذا ما يسر السبيل لجمع المصحف المرتل لأول مرة في التاريخ.
كثيراً ما نسمع: نزل القرآن الكريم في مكة، وقرئ في مصر، وكتب في تركيا. فما هي قصة المصحف المرتل؟ ومن صاحب فكرة هذا المشروع العظيم والقائم على تنفيذه؟
في الساعة السادسة من صباح يوم الإثنين الثامن من شهر ربيع الآخر عام 1381هـ، الموافق للثامن عشر من شهر سبتمبر عام 1961م، أُذيع المصحف المرتل لأول مرة في التاريخ في دار الإذاعة بالقاهرة، ثم قامت بعد ذلك للمصحف المرتل محطة قائمة تُذيعه آناء الليل وأطراف النهار، وما لبثت سائر البلاد الإسلامية أن سارت على الدرب، فأنشئت محطات إذاعية خاصة بالقرآن الكريم، يصدح منها صوت القرآن الكريم عبر الأثير، ناشراً في أرجاء المكان حالة دافئة من الهدوء والسكينة. يصمت الجميع وهم يستمعون للصوت يملأ المكان جمالاً وجلالاً.
بيد أنه في خضم حالة التجلي تلك، لا يتساءل أحد عن البداية، عن الحكاية القديمة التي لم يروها أحد تقريباً، حين سُجلت آيات القرآن الكريم لأول مرة على أسطوانة صوتية، قبل أن تنتقل إلى مبنى الإذاعة، ومنها عبر الهواء الطلق إلى غرفنا المتشوقة لصوت عذب.
إن حدثاً كهذا عظيم الشأن في تاريخ القرآن الكريم، فضلاً عن التاريخ العام؛ حرِّي جداً أن يستجلي المسلمون كل شيء عنه.
فكرة المشروع وبدايته
امتلأ قلب الدكتور لبيب السعيد بحب القرآن الكريم، والشغف بقراءته ومدارسته، وحضور حلقاته العلمية المعروفة باسم (المقارئ) في المساجد الكبرى في القاهرة، حيث كانت القاهرة آنذاك عامرة بالقراء الأفذاذ من أهل الرواية والدراية بهذا الفن العظيم، الذين يملؤون حلقات القرآن علماً وجلالاً، وتشد إليهم الرحال من أنحاء الدنيا كلها. وكانت مصر قد ورثت هذا العلم العظيم منذ القرن الثامن الهجري، وتوافد عليها أفذاذ القراء. ويذكر التاريخ أسماء عظيمة لمعت في سماء مصر في القرن الرابع عشر الهجري باعتبارها من أهل القرآن، من أمثال: محمد أحمد المتولي، ومحمد مكي نصر، وعلي محمد الضياع، ومحمد خلف الحسيني، وعبدالفتاح القاضي، وعامر عثمان، وأحمد عبدالعزيز الزيات.. وغيرهم من جهابذة القراءات.
ولنترك صاحب فكرة هذا الحدث التاريخي الدكتور لبيب السعيد يتحدث عن فكرته، لأنه وحده أقدر الناس على ذكر التفاصيل الصحيحة والدقيقة، بحكم أن الفكرة عاشت في خلده أمداً تتغذى من عقله وقلبه وضميره، ثم بحكم أنه هو الذي بشر بها، وحمل أمانة الدعوة إليها، والتخطيط لها، ثم حمل طويلاً أمانة تنفيذها عاملاً ومشرفاً.
يقول الدكتور لبيب رحمه الله: ...وأعود إلى ما قبل إعلاني عن مشروع المصحف المرتل ببضع سنين، لا أستطيع تحديدها بدقة. منذ يومئذ وأنا أحس أن جمع القرآن جمعاً صوتياً بكل قراءاته المتواترة والمشهورة أمرٌ يجب أن ينهض به أهل هذا الزمان. كنت أتابع في المقارئ الكبيرة بالقاهرة الممتازين من علماء القراءات، وكان يؤلمني أنه إذا مات منهم أستاذ حاذق، خلفه أحياناً من لا يعدله أستاذية وحذقاً، وضاعت على المسلمين إلى الأبد مواهب الميت! لأنها لم تحفظ وتُسجَّلْ، ما كان أعظم شعوري بالخسارة الفادحة المستمرة على مدى الزمن في القراء الذين يموتون! ذلك أن إنتاجهم بطبيعته غير إنتاج غيرهم من أصحاب العلوم والفنون، فهؤلاء يستطيع الواحد منهم بفضل الكتابة أن يواصل بعد موته الحياة في إنتاجه، أما أصحاب التراث الصوتي، وفي مقدمتهم القُرَّاء، فكان تراثهم يفنى بفنائهم، لأن العلم لم يكن اهتدى بعدُ إلى طرائق تسجيل هذا التراث. وحتى بعد الاهتداء، تأخر تسجيل المصحف أمداً غير قصير!
كان ذلك مبعث أمشاج من الأفكار سويت فيما بعد، فكانت فكرة جمع القرآن الكريم صوتياً بكل رواياته المتواترة والمشهورة، وغير الشاذة.
ولما اختمرت الفكرة ووضع معالمها وكيفية تنفيذها؛ تقدم في سنة (1379هـ / 1959م) إلى مجلس إدارة (الجمعية العامة للمحافظة على القرآن الكريم) -وكان هو رئيسها- بفكرة مشروعه الذي يقوم على تسجيل تلاوة القرآن الكريم كله برواية حفص، ثم بمختلف القراءات على ألا تُردد الآية الواحدة بأكثر من قراءة واحدة في التلاوة الواحدة.
كما يشمل التسجيل دروساً عملية في أحكام التجويد بطريقة سهلة تمكن جمهور المستمعين من الانتفاع بها، وأن يقوم على التلاوة علماء فن التجويد والقراءات، والقراء المهرة من أصحاب الأصوات الجيدة والأداء المتقن، وأن تختارهم لجنة لها خبرتها في القرآن وعلومه، يشارك فيها الأزهر الشريف والهيئات العلمية واللغوية والثقافية. لقيت الفكرة استحساناً من الناس، ورحب بها الأزهر الشريف، وأبدى الإمام الأكبر محمود شلتوت شيخ الجامع الأزهر حينئذ ارتياحه ورضاه عن هذه الفكرة. أراد لبيب السعيد أن يأنس ويقبل الرأي العام التلاوة المرسلة التي سيسجل بها الجمع الصوتي؛ فطلب من محمود خليل الحصري أن يقرأ بها في حفل أقيم بقاعة المحاضرات الكبرى بالأزهر، فلاقت هذه التلاوة قبولاً عند أغلب الحاضرين.
عقبات وعوائق في طريق تنفيذ المشروع
لقي الدكتور لبيب في سبيل تحقيق مشروعه عدداً من العقبات، أنَّ لها أنات، منها ما سطره قلمه حيث قال: (وعجزتُ عن تدبير (أستوديو) للتسجيل فيه بالمجان، فرغبتُ إلى نائب وزير الدولة لشؤون رياسة الجمهورية، وإلى المدير العام للإذاعة أن يأذنا لي بالتسجيل في أستوديوهات الإذاعة، وسعيت في ذلك سعياً، حتى اسْتُجيب لطلبي، بشرطٍ أصرَّتْ عليه الإذاعة، وهو أن يكون لها الحق المطلق في أن تذيع من محطاتها ما يتم تسجيله لديها، ولعل سروري بهذا الشرط وأنا أقدم به إقراراً كتابياً كان أكبر من سرور الإذاعة).
ويقول في ذكر عوائق المشروع: (ولستُ أنسى يوماً من أيام رجب سنة 1379هـ (يناير 1960م) سعيت فيه، بناء على نصيحة أحد المخلصين للمشروع، إلى ثري كبير هو وزير في إحدى الدول العربية، وكان يقيم في مصر في حي الدقي، فتلقَّى هذا الثريُّ حديثي عن المشروع بعدم الاكتراث، وخرجتُ يومها من لدنه خجلان آسفاً نادماً).
نقطة تحول في تاريخ المشروع
يقول الدكتور لبيب: (وحفزني الإخفاق في تمويل المشروع إلى التفكير في وضعه تحت الرعاية المالية للدولة نفسها. وفي يوم الأربعاء 24 من فبراير 1960م، قابلت وزير الأوقاف ورجوته مساعدة المشروع مالياً، فاستجاب فوراً وفي حماسة، وكانت استجابته مبعث طمأنينة واستبشار وأمل، وأصبح العمل شغل الوزير نفسه ومحل اهتمامه، فأفاد كثيراً).
وتشكلت لجنة عامة للإشراف على تنفيذ هذا المشروع، ضمت عدداً من رجال الشريعة والدعوة والقراءات، من أمثال محمد أبوزهرة، ومحمد الغزالي، وسيد سابق، وعامر عثمان المدرس بمعهد القراءات، وعلي عبدالواحد وافي أستاذ علم الاجتماع، وطه نصر كبير مهندسي الإذاعة.
ثم دعا لبيب السعيد ثلاثة من أشهر القراء والعلماء للبدء بالتسجيل، وهم: محمود خليل الحصري، اتفق على أن يسجل القرآن برواية حفص عن عاصم. ومصطفى الملواني، وكان حاذقاً في القراءات، واتفق على أن يسجل رواية خلف عن حمزة. وعبدالفتاح القاضي، وكان يشغل رئيس لجنة مراجعة المصاحف بالأزهر الشريف، واتفق على أن يسجل قراءة أبي جعفر برواية ابن وردان، وهي من القراءات العشر، وفي الوقت نفسه يُشرف على التسجيل.
الجدير بالذكر أن كافة أعمال المشروع كانت غير ربحية بالمرة، لم يتقاضَ أي قارئ أو مسؤول عن المشروع أي أموال من جهة حكومية أوغير حكومية، وعلى ذلك احتاج المشروع لوقت كافٍ حتى يخرج كما أراد القائمون عليه له أن يكون.
الحصري المرتل الأول
نجح لبيب السعيد بهذه الطريقة في أن يستأنف التسجيل، ورأى أن يمضي محمود الحصري في تسجيل رواية حفص، وفق الشروط والضوابط التي وضعتها اللجنة المشرفة على التسجيل، وكانت تضم عمالقة فن التجويد والقراءات في مصر، يتقدمهم عامر عثمان. ولم يكن التسجيل هيناً، فمع امتياز الحصري في القراءة، فإن اللجنة كانت تستوقفه كثيراً ليعيد التسجيل على النحو النموذجي المطلوب. وبعد الانتهاء من التسجيل بدأت مرحلة طبع أسطوانات المصحف المرتل، وانتهت في (10 صفر 1381هـ / 23 يوليو 1961م)، حيث بُدئ في توزيع المصحف المرتل للمرة الأولى في تاريخ الإسلام. أذيع المصحف المرتل من الإذاعة المصرية بالقاهرة للمرة الأولى في صباح (الإثنين 8 من ربيع الآخر 1381هـ / 18 سبتمبر 1961م)، إيذاناً بعهد جديد للمصحف الشريف، وإعلاناً عن نجاح مشروع (الجمع الصوتي) للقرآن الكريم.
وكان هذا أول جمع صوتي للقرآن الكريم، بعد أول جمع كتابي له في عهد خليفة رسول صلى الله عليه وسلم أبي بكر الصديق رضي الله عنه.
نجاح المشروع
كانت فرحة لبيب غامرة بإنجاز هذا المشروع، يقول: (وقد ازددتُ إدراكاً لفضل الله عليَّ، وعلى الناس، إذ قدَّرَ لهذا المشروع النجاح، حين كنت خارج مصر، في بلاد بعيدة، أستمع إلى المصحف المرتل، من الإذاعة، أو أستمع إليه، في دور السفارات، والقنصليات العربية... لقد كان ينسلخ عني وقتئذ شأني شأن كل مستمع مسلم عربي الشعور بغربة اللسان أو غربة المكان، وقد حكى لي غير واحد ممن سمعوا المصحف المرتل في ديار الغربة أنهم لم يكونوا يملكون حبس دموعهم تأثراً وفرحاً).
وقد أهدت جمهورية مصر العربية (44) ألف أسطوانة من المصحف المرتل إلى منظمة اليونسكو والكونجرس الأمريكي، وكل عواصم العالم.
محاولة انتحال فكرة المشروع
يقول الدكتور حسن الساعاتي أستاذ علم الاجتماع، وعميد كلية الآداب بجامعة عين شمس -سابقاً: بعد نجاح المشروع أراد بعض المسؤولين نسبة فكرة المشروع إليهم، فاقترحت على الدكتور لبيب أن يؤلف كتاباً عن الجمع الصوتي الأول للقرآن الكريم، يحكي فيه كيف بدأ تنفيذ هذه الفكرة، والمراحل التي مرت بها حتى خرجت للنور، فأخذ في إعداد كتاب: الجمع الصوتي الأول للقرآن الكريم، فأخرجه في صورة عظيمة، وأقبل الناس على شرائه، حتى نفذت منه عدة طبعات. وحدث أن زارني أستاذ في جامعة برينستون يريد أن يكتب عن الجمعيات الدينية في مصر عام 1962م، فجعلته يلتقي بالدكتور لبيب، فأعجب به وانبهر بعلمه، ثم دعاه للسفر إلى أمريكا، والتحدث عن مشروعه العظيم، فطلبوا منه الموافقة على ترجمة كتابه: (المصحف المرتل) إلى الإنجليزية، فوافق، وقامت جامعة برينستون بالاشتراك مع جامعة أكسفورد، ثم ترجم بعد ذلك إلى عدة لغات.

ذو صلة