هل يؤمن شعراء قصيدة النثر بحرية الفن، وأنه قيمة يتعين أن تكون متاحة للجميع؟ أحسب أن الإجابة مراوغة وإشكالية، ففي نظر أكثرهم يعد الفن قيمة نخبوية تخصه هو ودائرته، وليست قيمة اجتماعية عامة، ولذلك تظل الكتل الاجتماعية أسيرة عدم معرفتها بخصائص تلك القصيدة، والمتغيرات الثقافية التي أوجدتها.
وقد تبدو دعواي هذه مخالفة لما يرفعونه من شعارات فنية جماهيرية براقة، حين يذكرون أن انحيازهم دائماً هو للناس البسطاء المهمَّشين، وأنهم يستأثرون بوجه الشعر الحقيقي، شعرية العادي واليومي، المتداول، شعرية الأشياء والحقيقة لا الاستغراق في الرمز والأخيلة، شعرية البعد عن المجاز المتعالي، والاستغراق في الموروث. شعراء قصيدة النثر يطلقون دعواهم ولا يصدقها غيرهم، أو بعبارة أخرى، لا يصل من إبداعهم الحقيقي إلا القشور التي تبدو حيادية باردة يائسة، وتظل قصائدهم وشعريتهم المميزة سجينة الافتقار للمعارف والفلسفات والاستسهال، مفتقرة إلى نوعية التلقي الواعي، حيث لم تعتد ذائقته تفهم هذه الشعرية العميقة والمتجاوزة التي تتوافر لدى البعض، كما أنها تعاني من عدم التوافق والملاءمة بين الرسالة ونوعية ما تحتويه فكرياً وفنياً.
حين يقع هذا -وهو واقع بالفعل- لا نجد للشعراء موقفاً إيجابياً تجاه قضاياهم الفنية والفكرية، بقدر ما نجدهم في العقديْن الأخيرين قد استمرؤوا اليومي والمبتذل، المتداول، معيدين إنتاج إبداعهم في طبيعة شعرية مقيَّدة، هذا النهج الذي أوصلهم إلى حالة من السكونية المقيتة، حيث نسمع أن هناك جيلاً قد هُمِّش قصداً، أو أن ثمة تعتيماً من قِبل المؤسسة الثقافية الرسمية، خوفاً من أن يسحبوا البساط من تحت كهنتها الراسخين، الأمر -وإن شَاَبهُ بعض الحقيقة- إلا أنه لن يصمد، إذا ما قُدمت القصيدة القادرة على فرض جمالها وعمقها ومواكبتها للعصر. إذا قدمت القصيدة التي تتجاوب مع الإنسان وقضاياه الوجودية الرئيسية، وانطلقت من رؤى شعرية مبتكرة، وفي حالة ما إذا تُركت هذه الصراعات جانباً، وغُضَّ الطرف عن المهاترات التي كانت سجالاً بين الرسمي والبديل، واختلف الجهد المبذول عبثاً لهذا النوع الشعري الجديد نسبياً عن تقاليد عمود الشعر العربي، وعُكف عليه إبداعاً ونقداً، وتواصل مع مجتمعه دون أن يتخلى عن تجديده، ومغامراته التي هي من حق الفن الأصيل، على ألّا يتخلى عن عمقه ومغزاه الفكري الجوهري، الذي يتسق مع عالم تسوده العلاقات الملتبسة الغامضة، والعميقة كما السطحية في آنٍ واحد.
على المبدع والناقد -بصورة خاصة- أن ينير للمجتمع طبيعة السياق الفني للعصر بكل تناقضاته، وكل فوضاه، وأن يطرح الواقع الفني والثقافي في صورة متكاملة، مما يتحقق من خلال (النقد التنظيري) مع صور توضيحية مكمِّلة (تطبيقية)، أقصد (النقد من خلال النص)، وهو ما يبشِّر بخلق حياة ثقافية نشطة، وخلق المناخ الملائم لحركة مستقبلية، تحتضن التجدد والمجاوزة، وفي الوقت نفسه، تقبل التعايش بين المذاهب الفنية المتنوعة.
إن توافر الجسر النقدي الموازي لغزارة الإنتاج الشعري النثري، له أن يتسع بدائرة تلقيه، وأن يقدمه بتنوعاته الفنية المتشابكة، بقدر من التواصل والوضوح، كما له أيضاً أن يذيب درجة تِلْو آخرى- تَكَلُّس ورسوخ الذائقة التقليدية في الأذهان التي اعتادتها، مع قيامه بغربلة واختبار هذه البدائل الفنية، وهذه الظواهر الشعرية، يُبْقي منها على الأصيل الفني، بمعنى ما هو إبداع خاص بالشاعر، ويزوي ما تَمُجُّه الأذواق.
تقدم الدراسات النقدية عادة نماذج مختلفة للقصائد النثرية، بغية عرض وتوضيح تقنيات ما بعد الحداثة الفنية، التي تشكلت منها هذه القصيدة، والتي اتسمت بنفورها من كل ما هو سائد ونمطي ومعلَّب، فقد اعتمدت فلسفة ما بعد الحداثة على الفوضى والتناقض، على التقويض وتداخل النصوص، والتمرد على الكثير من المسلمات التي تبنتها فلسفة تيار الحداثة، والمقولات الجاهزة التي تعارف عليها الأدب والنقد القديم والمعاصر، ومن ثم تُخلخل قصيدة ما بعد الحداثة جميع المفاهيم التقليدية المتعلقة باللغة، والمجاز، والشاعر النبي أو المصلح، ونوع الموسيقى، والتجاوب مع قضايا مجتمعها، وطبيعة الشكل الشعري الذي تنتمي إليه. وأول محاور هذه الشعرية الجديدة العناصر الفنية التي تجعل من القصيدة عملاً فنياً متميزاً، تلك العناصر المنفتحة، التي لم أضع لها تصوراً جاهزاً محدداً، إلا من خلال النصوص، وعلى البحث النقدي أن يترك مساحاتٍ مفتوحة، نضع فيها معاً ملامح الشعرية الجديدة، ملامح تتناسب مع قصيدة النثر بانفتاحها الفني.
ويعد اقتصاد اللغة من أكثر الخصائص التي يمكن تحديدها للشكل الشعري، اختيار الكلمات بعناية للإيجاز والوضوح والتلميح، النظر إلى الصفات الانفعالية للكلمة، وخلفيتها، وقيمتها الموسيقية، ومضامينها المزدوجة، وحتى علاقتها المكانية على الصفحة. وعلى هذا تبقى لغة الشعر هي الفارق الجوهري بينه وبين أشكال الفنون الأدبية الأخرى، حيث يوصف الشعر بأنه الاستخدام المتميز للغة بطريقة إبداعية وخلاقة. يقول جون شتاينبك: (الشعر هو رياضيات الكتابة). ويقول ريتشارد ويلبر: (سلاح الشعر الأساسي هو الكلمات المستخدمة في تسمية الأشياء ومقارنتها وتباينها). بينما يعرف كوليردج الشعر بأنه: (نقيض العلم، حيث يتمتع بمتعة موضوعية مباشرة، وليس الحقيقة). ويعرفه ماثيو أرنولد بأنه: (نقد للحياة في ظل الظروف المحددة لمثل هذا النقد من خلال قوانين الحقيقة الشعرية والجمال الشعري)، فيما يذهب إدجار ألان بو إلى أن الشعر هو: (الخلق الإيقاعي للجمال).
ويقترح الشعر وفقاً لتقنيته ووظيفته الجمالية كثيراً من الرموز والتلميحات والأخيلة متجاوزاً قوالب الأحكام المسبقة ومنطقية التراتب الفني، فتراه تارة مفارقاً وأخرى عادياً، قابلاً للفهم والتفسير مرة، مبهماً غامضاً أخرى، كأنما يأبى الشعر أن يسجن في تعريف، أو يحبس في تصور ثبوتي يأسر حريته.
إن مصطلح (ما بعد الحداثة) يشير إلى نظرية اجتماعية وثقافية وأدبية، ارتبطت بتحولات القوة في حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية وهجوم الرأسمالية الاستهلاكية. وتشترك ما بعد الحداثة في العديد من سمات الحداثة، حيث يعدها البعض تصحيحاً لبعض مقولات الحداثة والمغالاة فيها، ويرفض كلا الاتجاهين الحدود الصارمة بين أشكال الفنون، وغالباً ما يكون الفرد أو الموضوع الذي تم تصويره شعرياً في المنتج الفني ما بعد الحداثي لا مركزياً، دون معنى أو هدف، يفقد الخصائص الفردية ويصبح مجرد رمز لفكرة أو حالة أو فلسفة أو عصر.
ويشير عدم إيمان ما بعد الحداثة بالتماسك والوحدة إلى تمييز أساسي آخر بين الحداثة وما بعد الحداثة. تؤمن الحداثة بأن التماسك والوحدة ممكنان، وبالتالي تؤكد على أهمية العقلانية والنظام، حيث تفترض الحداثة أن المزيد من العقلانية يؤدي إلى مزيد من النظام، مما يؤدي بالمجتمع إلى العمل بشكل أفضل. أما ما بعد الحداثة فتذهب إلى النقيض، حيث ترى أن الفوضى والاضطراب والتعدد سمة العالم، فتنعكس تلك الرؤية على شكل القصيدة ونسقها البنيوي، فشعر ما بعد الحداثة يُكتب بطريقة حرة تماماً، فواصل الأسطر والهياكل فوضوية، لا قيود موسيقية ولا أوزان ولا قوافي، وفي حين تم التعبير عن الأفكار غالباً في أشكال الشعر القديمة من خلال فصل الخطوط وعلامات الترقيم وأنساق البحور الشعرية والأوزان والتفعيلات، يستخدم شعر ما بعد الحداثة فواصل الأسطر غير المنتظمة، للإشارة إلى الشكل الفوضوي للوجود الإنساني، ويتحرر من القوالب الموسيقية التي تسجن طلاقة تعبيره، كأنما يؤكد شكل القصيدة ذاته على تعزيز فكرة أن الحدود بين الأشكال لا معنى لها، ولكن على الرغم من وجود استثناءات لا حصر لها، فإن معظم الشعر الحديث وما بعد الحديث يجب أن يعرض بعض عناصر الشكل، يقول تي إس إليوت: (لا توجد آية مجانية للرجل الذي يريد القيام بعمل جيد)، فالشعر مقيِّد بطريقته الخاصة، وهو، وإن كان حراً تماماً، إلا أنه له ضوابطه التي تحدد ملامحه وتميزه عن بقية الأشكال الفنية الأخرى.