مجلة شهرية - العدد (580)  | يناير 2025 م- رجب 1446 هـ

المدينـة والمدنية في الشعر العربـي الحــديث ونقـده

من البداهة بمكان القول إن السمة الأساسية للشعر العربي القديم مستقاة من الحياة البدوية منذ أن هلهل المهلهل بن ربيعة القصائد وصولاً إلى النصف الثاني من القرن العشرين، وقد يسأل سائل لماذا هذا التحديد الزمني؟ والجواب هو أن حركة الشعر الحر انبثقت قبيل النصف الثاني من القرن الماضي وتلتها حركة قصيدة النثر وقد حوّلت هاتان الحركتان الشعريتان تعلّق القصيدة العربية بالصحارى وطبيعة الحياة البدوية إلى المدينة بمعناها الحديث ومنظومتها القيمية وكل ما يتعلق بتفاصيل الحياة المدنية المعاصرة، وهاتان الحركتان قد عرفتا منذ البداية بنزوعهما المدني البعيد عن مفاهيم البداوة وتفاصيل حياة البادية، ومعلوم أن القصيدة العربية التقليدية كانت قبل هذه الانعطافة في الشعر العربي وعبر جميع مراحل تاريخ الأدب العربي، حافلة بمفردات الحياة الصحراوية وبالذات مكارم الأخلاق وصنائع المعروف مثل الكرم والنخوة والمروءة والشهامة وإقراء الضيف والوفاء بالعهد ونصرة المظلوم وإغاثة المحتاج والإجارة والحلم والعفو عند المقدرة والفخر والاعتداد بالمحتد، إضافة طابع الترحال المستمر طلباً للماء والكلأ وما يخلفه ذلك من حنين إلى أطلال الديار المهجورة والرسوم الدوارس.
بالتأكيد لا يمكن تعميم هذه الخاصية بشكل مطلق، إذ هناك في التاريخ العربي حلقات مشرقة شهدت نمواً حضارياً ومدنياً مشهوداً ألقت بظلالها على الأدب العربي عامة والشعر خاصة، ولكن ذلك بالقياس إلى الطابع العام للحياة العربية يعد استثناءً، ويمكن وصف الظهور المتقطع لهذه الظاهرة بحالات التحضر القلق والمؤقت في بنية القصيدة العربية، كالذي حصل عند الشعراء الذين عاشوا في أواخر عهد الدولة الأموية وعصر الدولة العباسية ودولة الأندلس، حيث كان تأثير المدنية والحياة الحضرية محدوداً على الشعر العربي في هذه المقاطع الزمنية، إذ رغم الطابع الحضري المحدود زمكانياً، والذي استشرى في بنية الحياة العامة في معظم المدائن العربية وخصوصاً الكبرى منها، مثل مكة المكرمة والطائف وبغداد والبصرة والكوفة ودمشق وقرطبة وأشبيليه وغرناطة والقاهرة وغيرها، إلّا أن الشعر العربي بشكل عام لم يتخلَّ عن خصائصه البدوية كون معظم الشعراء العرب حين ارتدوا ثياب المدنية والحضارة ظلوا محتفظين بالروح البدوية في سرائرهم.
ينسحب هذا التشخيص على عصر النهضة الحديثة نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين حيث إن معظم الشعراء العرب قد تمسكوا بتقاليد القصيدة التقليدية بكامل حذافيرها واقتفوا مسار الشعراء القدامى ونسجوا على منوالهم، وقد تحدث عن هذه الظاهرة عالم الاجتماع العراقي الدكتور علي الوردي حين شخص بروح علمية ما أسماه بالظاهرة الاجتماعية في الشعر العربي، وأوضح ذلك بقوله: «يلاحظ الباحثون في الشعر أنه عندما خرج من البادية وتحضر، ظل متمسكاً بكثير من المعاني البدوية، وهذه ظاهرة اجتماعية، تلفت النظر»، وحسب اعتقادي أن أحد أهم أسباب هذه الظاهرة هو احتفاظ المجتمع العربي بكثير من قيم وأعراف البداوة واعتزازه بها، بالرغم من بنائه للمدن والحواضر الحديثة وإعماره لها، وقد حفز الاعتزاز بتلك القيم الشعراء العرب على التغني بمفردات المنظومة القيمية للبدو وطبيعة تقاليدهم ونمط الأعراف السائدة في البوادي على الرغم من أن أغلبهم لم يسكنوا في الصحارى ولم يشهدوا حياة البداوة.
إضافة إلى ذلك هناك عامل مهم وأساسي عزز من تمسك الكثير من الشعراء العرب بمختلف أجيالهم بسربال الحياة البدوية وتحنطهم بأعرافها، هو طبيعة النقد العربي القديم والضوابط القسرية التي كان يفرضها النقاد على الشعراء، إذ كان معظم النقاد المنتمين لمدرسة النقد القديمة يطالبون الشعراء الأحياء أن يحذو حذو الشعراء المتقدمين والغابرين حذو القذة بالقذة، وأن يلتزموا بمنهجهم، إلى أن أصبحت جملة من المعاني والتقاليد البدوية طابعاً موروثاً عند المتأخرين، بل أصبحت مقياساً للمفاضلة بين الشعراء وتحديد مراتبهم، وعلى قدر ذلك الالتزام يتم تحديد جودة الشعر، ومن يخرج من الشعراء عن تلك الخصائص البدوية في القصيدة العربية لا يجد له مكاناً بين الشعراء العرب، وقد وصف الدكتور محمد غنيمي هلال ذلك في كتابه (النقد الأدبي الحديث) بقوله: «إن أنصار القديم من النقاد، كانوا لا يجيزون لمحدث أن يخرج في شيء على نظام القصيدة الجاهلية، ويعد منه ذلك شعوبية وتمرداً على تراث أدبي ذي قداسة لديهم».
غير أن بوصلة النقد الحديث قد تغير اتجاهها، وسياقاته شهدت تحولاً ملحوظاً في زاوية النظر النقدية، لاسيما بعد انبثاق حركة الشعر الحر التي شكلت نقطة تحول مهمة في مسار الشعر العربي وخصوصاً في طبيعة الموضوعات التي تناولها شعراء هذه الحركة، حيث تفاعل الكثير منهم مع القضايا الإنسانية خارج نطاق الأمة وقد عبر معظمهم عن هموم الإنسان المعاصر وتطلعه لبناء الغد المنشود سعياً للحاق بركب الحضارة العالمية وإقامة الحياة الحرة الكريمة، خصوصاً إذا أخذنا بنظر الاعتبار أن شعراء هذه الحركة كانوا مدنيين إذا جازت التسمية، أي أن قصائدهم احتفت بالكائنات والمرئيات الحضرية وجميع الرموز البصرية التي تعج بها المدينة، وتصور صخبها وضجيجها وكل ما يتعلق بعوالمها المختلفة، ومن الملاحظ أن الغالبية العظمى من رواد هذه الحركة قد عاشوا وترعرعوا في المدن الكبرى ولم يسكنوا الصحارى أو الأرياف، وإذا أجرينا مسحاً بيوغرافياً بسيطاً لسيرهم الحياتية نجد أن أغلبهم كانوا مدنيين أصلاً منذ الولادة مثل نازك الملائكة وبلند الحيدري وعبدالوهاب البياتي، حيث ولدوا في بغداد من عائلات بغدادية عريقة، ونزار قباني ولد في دمشق، وصلاح عبدالصبور ولد في مدينة الزقازيق، ومحمد حسن عواد ولد في مدينة جدة، وشاذل طاقة ولد في مدينة الموصل وغيرهم، والبعض الآخر منهم التحق بالمدينة وانغمس فيها في مراحل عمرية لاحقة مثل بدر شاكر السياب الذي ولد في قرية جيكور في قضاء أبي الخصيب في البصرة لكنه عاش شبابه وبقية مراحل حياته في بغداد وانتقل إلى مدن أخرى عربية وغير عربية، وكذلك سليمان العيسى الذي ولد في قرية النعيرية في أنطاكية وبعدها انتقل إلى دمشق ومن ثم إلى بغداد.
من خلال هذه اللمحة السريعة نستشف أهمية الدور الذي لعبه رواد حركة الشعر الحر وحجم المسؤولية التاريخية التي اضطلعوا بها وطبيعة سعيهم لإضفاء طابع المدنية والتحضر على الشعر العربي الحديث، ومحاولاتهم الحثيثة في صنع أنموذج المدينة المثالية على الرغم من الجدران السميكة التي كانت تحول بين طموحهم الحالم ومحددات الواقع المرير، ومن زاوية أخرى نجد أن رواد حركة الشعر الحر قد برعوا في إضافة مناخات جديدة في الشعر العربي منها تصوير أدق تفاصيل شوارع المدينة وحاراتها وأزقتها ومقاهيها الشعبية، ونجحوا في تسليط الأضواء على العلاقات الإنسانية بين الناس في مختلف طبقات المدينة، ناهيك عن تجسيدهم لظلال السياسة على طبيعة الحياة في المدن، إضافة إلى سعيهم الجاد الدؤوب لأنسنة المدينة وتفاصيلها من خلال ابتكار بعض الانزياحات اللغوية، مثل (وجه المدينة) و(دموع المدينة) و(ملامح المدينة) وهكذا، وبذلك استطاعوا أن يكتشفوا نبض المدن والحياة المدنية، كما يمكن الإشارة إلى أن مفردة المدينة قد وردت كعنصر خلق في كثير من قصائدهم وجميع القضايا الأخرى صارت مناخاً لها، وقد جعلوا قصيدة التفعيلة تحلق في مدار المفاهيم الحداثية التي تنشط في فضاءات وأجواء المدينة، كما أنهم اعتنوا اعتناءً بالغاً بأدق التفاصيل التي تعج بها المدينة أو التي تنتجها طبيعة العلاقات العامة والقوانين المحركة للحياة في حاضنتها، ويمكننا تلمس ذلك في قصيدة (وتمر المدينة برقاً) للشاعر ممدوح عدوان في ديوانه (أقبل الزمن المستحيل)، إذ يقول:
«قيلَ لي: أنتَ تبقى هنا في المدينة
قلتُ: وأين المدينة
إني حملتُ المدينةَ وحدي وأنتم معي
تجهلون ملامِحَها
ودموع المدينة وَهْيَ تصيرُ دمي
إنني قد سرقتُ المدينةَ منكم
ورحتُ أطارد فيها
ويُنفى من المدن الناسُ
مَنْ سوف ينفي المدينةَ مِنّي»
هذا ولم يكتفِ شعراء حركة الشعر الحر من الرواد والأجيال التي تهتم بالتغني بلفظ (المدينة) وإحالتها إلى مفردة شعرية نابضة بالجمال، معبأة بالزخم الشعوري ومفعمة بطاقة رمزية استعارية، بل جعلوها أساً مركزياً لكثير من عناوين دواوينهم الشعرية، على سبيل المثال ديوان (أغاني المدينة الميتة) للشاعر بلند الحيدري وديوان (مدينة بلا قلب) للشاعر أحمد عبدالمعطي حجازي وغير ذلك الكثير، كما أنهم استطاعوا صياغة الكثير من الانزياحات اللغوية بوعي كبير وثقافة عالية وفق رؤاهم الشعرية العميقة، وانتقلوا بمفردة المدينة من معناها المادي الهندسي وبعدها الجغرافي الطوبوغرافي إلى مفهوم يضج بالإيحاءات الرمزية والدلالات الفكرية والتأويلات النظرية والتصورات الحديثة التي تعمق إمكانية التفاعل الحي للشعر فضلاً عن تفاعل الشاعر مع أبعاد المكان وهموم وتطلعات الناس.

ذو صلة