كغيره من أجناس الكتابة، بل من أجناس النشاط البشري، يروغ الشعر عموماً، والشعر العربي من بينه، من محاولة الحديث عنه، أو الوقوف بين يديه لمساءلته: ما أنت أيها الشعر؟! وكأني بالشعر يجيب متمثلاً بيت المتنبي:
يقولون لي ما أنت في كل بلدةٍ
وما تبتغي ما أبتغي جل أن يسمى
قال الأقدمون عنه إنه الكلام الموزون المقفى، ولكن يسارع بعضهم مستدركاً، ليس هذا هو الشعر، بل هذا مجرد النظم، والشعر أكبر من هذا وأعمق، وجل أن يسمى.
هل كان ما يسمى الشعر الجاهلي هو أول الشعر عند العرب؟ أم سبقه شعرٌ آخر ضل مؤرخوه الطريق إلى قصائده وشعرائه؟
وحين عد الخليل بن أحمد الفراهيدي خمسة عشر بحراً للشعر العربي، ثم تداركه تلميذه الأخفش الأوسط ببحر المتدارك (أو المحدث أو الخبب)، ترى هل جال بخاطريهما أنه سيجيء زمانٌ يهجر فيه الشعراء البحور وتفاعيلها إلى قصيدة النثر، حيث لا بحر ولا...
كان من الطبيعي أن يتطور الشعر العربي إلى ما هو عليه الآن، ليس من حيث الشكل والمبنى فقط، بل، وهو الأهم، في المعنى وما بعد المعنى. هاجسٌ كهذا أرق الشعراء قديماً، فعنترة العبسي ابتدر معلقته بالسؤال الذي هو سؤال الشاعر والشاعرة حيثما وجد الشعر:
هل غادر الشعراء من متردم...؟!
هذا سؤال شاعرٍ يقرب قصيدته، وهو يعلم أن من فاته من الشعراء لم يترك قولاً لقائل، وأن النجاة هي في اجتراح دروب مغايرةٍ للكتابة.
في ظني أن كثرة بحور الشعر ما هي إلا إيماءةٌ ما إلى بحث الشعراء عن أنساق مختلفة وجديدة للكتابة، ولعل هذا هو ما قاد بالضرورة إلى بروز أشكالٍ كتابيةٍ في الشعر العربي، غير ما ألفه وألفه الشعراء في العصر الجاهلي. خذ مثلاً شاعراً كبشار بن برد، أو أبي نواس، حين يكتب الأول عن ربابة ربة البيت، أو طول الليل وقصره (لم يطل ليلي، ولكن لم أنم)، ويكتب الآخر ساخراً من البكاء على الأطلال (قل لمن يبكي على رسم درس....). هذا شعرٌ آخر لو سمعه الشعراء الجاهليون، لخرجوا على بشار والنواسي شاهرين سيوفهم، الجاهليون الذين كانت أبيات بعض قصائدهم تتجاوز المئة بيت، لا البيت والبيتين، وتسمع فيها الصليل والصهيل والطعن والطحن.
ثم كانت قفزةٌ نوعيةٌ أخرى تمثلت في الشعر الأندلسي، وموشحاته تحديداً، فلم تعد القافية واحدةً من مبتدأ القصيدة إلى منتهاها، وتنوع الوزن والإيقاع، والموضوعات لا شك، ولا عادت القصيدة تبكي على الطلل وتكر وتفر، برماحها النواهل وسيوفها اللمع، بل صارت غيثاً يهمي، وزِقاً يُجذب.
أما القفزة الكبرى، وفي القرن الماضي تحديداً، فقد جاءت بمجيء قصيدة التفعيلة، فقصيدة النثر، حيث حافظت الأولى على الوزن بتفاعيله وكثيرٍ أو قليلٍ من القافية غير المنتظمة كما هي في القصيدة العمودية، وغادرت الأخيرة متردم الوزن إلى غير رجعة.
ترى كيف يختلف الشعر العربي في المشرق العربي عن الشعر في مغربه؟ وفي خليجه عن محيطه؟ هل للجغرافيا ذاكرةٌ تدمغ بها مكاناً بعينه عن سواه؟
ذكر عبدالعزيز المقالح في كتابه (البدايات الجنوبية) أنك تحس وأنت تقرأ أشعار الشعراء اليمنيين الشباب (صدرت الطبعة الأولى للكتاب عام 1986م) أن هذا شعر يمني، ليس لأن قصائد أولئك الشباب حاشدة بمفردات وأسماء معالم هي من اليمن بالضرورة، ولكن نفس القصيدة يقول لك ذلك.
ولعل شيئاً كهذا يعيدنا إلى دواوين محمد الفيتوري الأولى (أغاني أفريقيا - 1955م، عاشقٌ من أفريقيا - 1964م، اذكريني يا أفريقيا - 1965م وأحزان أفريقيا - 1966م)، حيث يصعب عليك أن تتخيل أن يكتب أشعاراً كهذه شاعرٌ من أي دولة عربيةٍ أخرى، سوى السودان. مثلما لا تقودك دواوين محمود درويش، والأولى على وجه الدقة، إلا إلى فلسطين.
للمكان سطوته التي لا تخطئها العين، كما للزمان أيضاً. ولعل هذا ما يجعلنا نتساءل: أين هو الشعر العربي المكتوب بغير العربية؟ سؤالي هنا عن الشعر الذي تكتبه شاعراتٌ وشعراء ليست العربية لغتهم الأولى، النوبيون في السودان ومصر، الأمازيغ في المغرب العربي، والأكراد في سوريا والعراق على سبيل المثال ليس إلا. أين هو هذا الشعر، العربي جغرافياً وغير العربي لساناً؟ كم هي الدواوين والأشعار من هذه الألسن غير العربية التي ترجمت إلى العربية؟
وسؤالٌ آخر لا يبعد عن السؤال عن الشعر المكتوب بغير العربية، وهو عن الشعر المكتوب بالعربية غير الفصيحة، عنيت باللهجات المحلية (ما نسميه بالعامية أوالدارجة أو المحكية). لم تكن مسألةٌ كهذه مطروحةً حين كانت لغة الكتاب والخطاب واحدة. ولكن في زماننا هذا، وقبله بكثير، أضحت لغة الكتاب غير لغة الخطاب. بل صارت لغة الخطاب مستوىً ثانياً أدنى من مستوى لغة الكتاب. وهو ما قاد إلى أن ينظر إلى الشعر المكتوب باللغة المحكية باعتباره أدنى مرتبةً من الشعر الفصيح، وهذه مسألةٌ فيها نظر كثير، فأشعار كبار شعراء العامية، مثل الأبنودي وصلاح جاهين في مصر، وخليل فرح ومحجوب شريف وهاشم صديق في السودان، وعصام العبدالله في لبنان، من باب المثال، تفوق، فيما أرى، كثيراً من شعر شعراء الفصيح، هذا دون أن نغفل عن شعراء الأغنيات في كافة بلداننا العربية.
بقي أمرٌ أخيرٌ وخطير، أين هو موقع وموضع شعرنا العربي في خارطة الشعر في العالم؟!
سؤالٌ كهذا يقود إلى أمرين، أولهما هو راهن مكان الشعر في الأدب في العالم، حيث نلحظ اهتماماً بائناً بأجناس الكتابة الأخرى، وبالرواية، الصديقة اللدود إن جاز هذا للشعر. منذ زمن ليس بالقصير صرنا نتحدث كثيراً عن زمن الرواية، وكيف أن زمن الشعر قد ولى، على نحوٍ أو آخر. هل ندلل على هذا بالعدد الكبير للروائيين والروائيات الذين فازوا ويفوزون بجائزة نوبل للآداب مقارنة بحفنة الشعراء والشاعرات الذين فازوا بها؟ أو بعدد الجوائز الكثيرة للرواية، ونقارن ذلك بضآلة جوائز الشعر؟
ثاني الأمرين هو ما نصيب الشعر العربي من الترجمة إلى لغاتٍ أخرى؟ فقد ترجم عددٌ غير قليلٍ من الروايات العربية إلى شتى لغات العالم، خذ رواية (موسم الهجرة إلى الشمال) للطيب صالح، فقد ترجمت إلى ما يزيد عن ثلاثين لغة. ولا نحلم بترجمة ديوان شعر عربي أو قصيدة حتى ولو إلى عشر هذا العدد.
أعلم أني أطرح أسئلةً شائكة، ولكن لا سبيل إلى الإجابة دون طرح السؤال أولاً.