إن حضور الشعر في تاريخ الثقافة والذاكرة العربية لا يكاد يماثله أداة تعبير أخرى بما يتجلى فيه من إبداع لغوي طاغٍ أسس لمنظومة من المفاهيم البيانية، وتمثل قيم الحياة العربية مؤرخاً لقيمها العليا في الأخلاق والاجتماع والمعرفة. وإذا لم تكن ثمة وسيلة تحمل من التوهج اللغوي والعاطفي والذهني إلا الشعر، فإن ما يمس هذا الاتجاه الإنساني من تطور لغوي ووعي تاريخي متحفاً الذاكرة الإنسانية في بعدها الإبداعي بصور حياتية متعددة بوصفها تاريخاً إنسانياً لا غنى عنه. وللرمز فاعلية دلالية في الشعر وما يتأول منه من علامات سيمائية وصور مجازية تعمل على اتساع المدى الشعري الذي يتحقق معه المعنى الشعري. فقد كان مدار الشعرية العربية في ترحل دائم لم يكن حصراً على ترحيل المعاني والطاقات الشعرية المتفجرة عن لغة معجمية زاخرة، بل تبدل يتكيف مع مستحدثات كل عصر مما أتاح للشعر ومكانته الاستحواذ على خصائص لغوية مميزة على غيره من صنوف الأدب الأخرى (النثر، والخطابة، الحكاية... إلخ).
لقد عبر وعبر الشعر العربي خلال مراحله الطويلة من خلال ذاكرة المكان والتاريخ واحتفظ بأسراره اللغوية (البلاغية) متحصناً بلغته العربية وممتنعاً عن النقل ترجمة، بل إلى حد اعتبره البياني العربي الكبير الجاحظ باستحالة ترجمة الشعر إلى أي لسان ولا تتجلى معانيه في غير تلك اللغة التي تتسق وتراكيبه اللفظية. والشعر العربي هو التاريخ العربي بما استودعه من ذاكرة ولغة وهوية تجاوزت به الأمة العربية مفهوم الدولة ليضاف إلى الشعر العربي. فالشعر العربي لا يقتصر على التصوير كما في قول الشاعر اللاتيني (هوراس). إذ إن من خاصية الشعر الإغراب كأقصى مراتب الإبداع. وإذا لم تمكن عبقرية الشعر العربي في تحويله النص اللغوي إلى نص شعري له قوة التأثير وتفعيل أدوات اللغة لا تقليدها صنَّاعه بإعادة صياغة تراكيبها البنيوية لتأخذ من اللغة شعريتها Poeticism القارة في سياقها التداولي، ومن المفردة اللغوية حساسيتها التعبيرية في الوصف والإيجاز. وبغير جدل القصيدة العربية في بنيتها الشكلية بين أن تكون على الطريقة التقليدية أو اَلتَّفْعِيلَة، قصيدة النثر أو مؤخراً الشعر الحر، عمد الشعر إلى التوطن في كافة الأنساق الثقافية كما تبينه الدراسات النقدية العربية.
وتظل الشعرية كامنة في المنطوق الشعري وفي أي بنية شعرية تشكل القصيدة في زخم التشكلات اللغوية الأخرى. فالشعرية العربية تنتمي بالضرورة إلى مجال الخيال اللغوي إن كان في نمطه الموروث أو في حداثته الابتداعية شكلاً ومضموناً وتأخذ بما تستدركه التجربة الشعرية بمقدار ما تختبره التجربة الفنية. ثم إن الشعرية ليست حالة سكونية ينتهي مفعولها التعريفي داخل أسلوبها الأصولي التقليدي ولكن تعمم نمطها الأسلوبي على متن النصوص الإبداعية وكما قاربها الشاعر والمفكر أدونيس بقوله عن الشعرية: كانت شعرية الحداثة تتخطى النموذجية والمرجعية وتتحرك في أفق التوكيد على الغرابة والتفرد، والإبداع البادئ مما يجدد باستمرار صورة الأشياء، وعلاقة الإنسان، ويجدد أيضاً طرق استخدام اللغة، وطرق الكتابة الشعرية.
شكَّل الشعر العربي منظومة معرفية ونمط تفكير حياة متكاملة استحق أن يطلق عليه (ديوان العرب) بكل دلالات واشتقاقات الديوان من سعة في الاشتمال والتدوين، أي دائرة معارف استوثقها العرب على ما عداها من معارف في الاستدلال والاستشهاد والتثبت من حجية النصوص ودلالات الألفاظ. وجاور الشعر كذلك قدسية اللغة تفسيراً لأقدس النصوص في علوم القرآن إذ عدَّ الشعر والإلمام بتقنياته الشكلية وتفكيك معانيه من أوجب واجبات التفسير لكتاب الله. وهذا البعد الموغل للشعر في تاريخيته النصية وتطوره الإبداعي في سياق التكوين الفقهي والفلسفي والكلامي أحال النظرية المعرفية العربية إلى نص يتقوم بالدلالة والمعنى الشعريين وشكَّل رؤية العالم ومعياراً يقاس عليه الكلام وهو التعبير الذي يتضمنه الشعر في معانيه القديمة كما تصورها أحد صانعي أسسه الإيقاعية الخليل بن أحمد الفراهيدي حين عرفه بأنه «القريض المُحدد بعلامات لا يجاوزها». وكان لهذا الخطاب الإنساني (الشعر) ألا تكون أقصى ما يتاخمه هو الخيال، فكان للتفاعل بين الشاعر منتج الشعر ووجوده في الحيز الكوني بين واقع مادي وبعد وجودي استدعى تفاعلاً سيكون له أثره بين بيئة بالمعنى السوسيولوجي والتفكُّر في أفق سؤال الكون الوجودي في سلسلة الأسئلة الإنسانية المفتوحة. فاحتوت تلك (المنظومة) الشعرية في بعدها المعرفي على ما يُعرفه علم العلامة (السيموطيقا) بنظم المعلومات الثقافة المركبة كالثقافة والفن والدين وبطبيعة الحال منها الشعر. وجميعها تدخل في نطاق فضاءات متعددة تفسرها عوامل الأنثروبولوجية الثقافية التي يعكسها الشعر وتمنح النص التاريخي للشعر بما يسهم في تشكيل الهوية الحضارية، إذ إن المحتوى الشعري وبيانه اللغوي في المعالجة الموضوعية أو الموازنة اللغوية وتعبيراتها الرمزية، أو ما يعرف بمعالجة قضايا موضوعات الشعر، فبحسب التعاطي النقدي الكلاسيكي بالشعر وقضاياه، وربما إلى حدود ما يفهم من غاية الشعر وفلسفته في منحى نقدي آخر يستسيغ تناولها شعراً. والعلاقة بين موضوعات الشعر المتداخلة تقود عادة إلى التساؤل والبحث عن جذور تكوينية (مؤثرات) ليست حصراً على اللغة منتجة الشعر وإنما إلى ما يمكن استيعابه في قراءة العوامل التأريخية وشروطها الاجتماعية والسياسية والثقافية.
أفضى التفاعل بين بنية الشعر العربي واستخداماته الرمزية مخاطباً باستخدام أساليب بلاغية كناية واستعارة مخاطباً الموجودات كتلك التي تشاركه بيئته مستنطقاً وحاملاً إليها ومنها المعنى والرمز في محاولة عملية أنسنة Anthropomorphism الأشياء كالوقوف على الأطلال الذي هيمن على مفتتح القصيدة العربية في بداياتها منذ امرئ القيس: قِفا نَبكِ مِن ذِكرى حَبيبٍ وَمَنزِلِ... إلخ، إلى الشاعر محمود درويش حين يصف وطنه:
وطني ليس حزمة من حكايا
وطني ليس قصة أو نشيداً
في حداثة شعرية اختلف فيها أسلوب التعبير وبقي الجوهر الشعري راسخاً.
إن علاقة الشعر بالمكان (جغرافياً) تقترن بعلامة انبثقت عنها علاقة تقيّد بها أبنية الشعر وأغراضه وصفاً وتعبيراً عن صور أحالت المشاهد وجسدتها في أبلغ الصور الوصفية. ويعيد الشعر مفهوم المكان وبالتالي -يفترض- صياغة بين البنية المعرفية ومقارباتها الكونية بين تناقضات وجودية داخل نظم وسياقات العالم المحسوس. ومثلما يتجاوز الشعر إلى الواقع يعود إليه عبر التمثيل الرمزي مكوناً ذاكرة في جدل مستأنف بين التاريخ والذاكرة. وظل الشعر العربي على مدى قرون موظفاً طاقاته اللغوية في احتواء ليس الذاكرة الثقافية وحسب وإنما وثق لتفاعل حضاري وتمدد جغرافي مطوراً من أساليبه الفنية وقواعده الشكلية. وظل الشعر صوتاً جهيراً في الثقافة العربية على مدى تطور أساليب الكتابة العربية على الرغم مما تشيعه بعض الآراء والكتابات النقدية متخذة من شعار الأزمة مدخلاً للكتابة وما جاورها من ممارسات في المشهد الثقافي والفكري واصفة الحالة الشعرية العربية (بالأزمة) كحالة لا تنفصل عن أزمات عدة تطال الواقع العربي. وبوجه من القول، فإن الشعر العربي استطاع البقاء مستجيباً لتحدي كل عصر وزمان.