مجلة شهرية - العدد (581)  | فبراير 2025 م- شعبان 1446 هـ

كتابان يحكيان مآسي نساء هربن من الموت.. أديبة عراقية توثّق جرائم (داعش)

لا يموت أبداً صوتُ الحق، ولا يغيب صوتُ الضمير، ولا تسقط بالتقادم الجرائم التي تُرتكب ضد الإنسانية. وانطلاقاً من ذلك، أخذت على عاتقها الكاتبة والشاعرة العراقية دنيا ميخائيل، أستاذة اللغة العربية وآدابها في جامعة أوكلاند بولاية مشيغان الأمريكية، مسؤولية فضح جرائم (داعش) في العراق وسوريا، خصوصاً بحق النساء، من خلال كتاباتها البارزة، التي أنجزتها باللغة العربية، وصدرت ترجماتها حديثاً بلغات العالم المختلفة.
قدّمت دنيا ميخائيل في هذا الصدد إصدارين لافتين، سردت فيهما عشرات القصص المأساوية الحقيقية لضحايا داعش من النساء. الأول بعنوان (في سوق السبايا) عن منشورات المتوسط بإيطاليا، والثاني رواية (وشم الطائر) عن دار الرافدين للطباعة والنشر والتوزيع في العراق ولبنان. وقد صدرت خلال الأيام القليلة الماضية الترجمة البرتغالية والترجمة الإنجليزية لمنجز الأديبة العراقية المهم، الذي يوثّق جرائم (داعش) ويتقصى الذكريات الأليمة لنساء تمكنّ بإصرارهن من الهرب من الجحيم بعد تجارب قاسية. كما اختيرت رواية (وشم الطائر) خلال العام الجاري 2023 لتكون واحدة من ضمن قائمة أفضل الكتب وفق استطلاع مجلة الناشر الأمريكية.
في (سوق السبايا)، تدخل دنيا ميخائيل، المقيمة في الولايات المتحدة، مباشرة إلى قلب الحدث، وذلك في أعقاب زيارة مطولة قامت بها إلى العراق وسوريا لاستخلاص الحقائق من شهود العيان وأصحاب التجارب الحقيقية في المنطقة. وتستدعي المؤلفة الأحداث قائلة (عند حافة مقبرة جماعية، وقف عبدالله يبكي، فقد عثر أخيراً على أخيه. كان نائماً، على جنبه، هكذا كما اتفق، مثلما يفعل دائماً، سوى أن عظامه بارزة يمكن حسابها، محاطاً بالأصدقاء كالعادة، سوى إنهم موتى).
وعبدالله، الذي تحكي عنه المؤلفة، هو ذلك المنقذ الاستثنائي، الذي استطاع مساعدة عشرات السبايا كي يهربن من قبضة تنظيم داعش الإرهابي، وكان الرجل قد خرج مع عائلته في القافلة مع آلاف النازحين من سنجار بالعراق، يوم هجوم داعش، واستطاع عبدالله إنقاذ عشرات النساء الأسيرات في طريقه لإنقاذ أخته، وصار الإنقاذ هو عمله المفضل، بل المقدس: (كل يوم أنقذ أختي وأنا أنقذ ملكة من الملكات اللواتي يسمّونهن سبايا).
بيد مرتعشة، التقط عبدالله هاتفه من جيبه، وأجاب على النداء. كان لا يزال ينظر إلى جثة أخيه، وهو يتحدث من طرف المقبرة مع أسيرة جديدة، تحاول الهرب مع أطفالها. كالمعتاد، عمل عبدالله اتصالاته مع المتعاونين معه في شبكة الإنقاذ، حتى يوصل العائلة إلى مكان آمن. فيما بعد، سيترك عبدالله جلسة التعزية المقامة عن روح أخيه، ليستقبل تلك العائلة: (لا بد لي أن أرد على القتل بإنقاذ المزيد من الناس من يد القتلة).
وعلى لسان عبدالله، تقول الأديبة دنيا ميخائيل بلغتها الشعرية التي تغلف بها كتاب الدم والألم: (لو عدنا إلى القرية، هل سيكون لنا مزاج لنزرع؟! ماذا سنزرع في الأرض التي ملأتها العظام والجماجم؟ ما الذي سيورق؟ كم من الدم سيسري في عروق الأشجار؟!). وعلى مدار أيام السنة، كان عبدالله يحكي للكاتبة دنيا ميخائيل حكاية حقيقية عن سبية أنقذها أو أخفق في إنقاذها من قبضة داعش بالعراق، والكاتبة تدوّن. وبعد عام من الاستماع لهذه القصص الدامية، وبعد عشرين سنة من الغياب عن بلدها، تقرر دنيا العودة من الولايات المتحدة، لتلتقي بأولئك الناس على الأرض، وتنقل عنهم مباشرة.
تتساءل دنيا ميخائيل، في كتابها التوثيقي المهم، المصوغ بلغة شعرية مرهفة: هل يستحق النساء الهاربات من جحيم داعش في العراق إلا الشكر؟ هنّ عشن المعاناة، وقبلن التحدي، وعدن إلى الحياة من جديد رغم أنف الموت. وثمة شكر آخر لهؤلاء الناجيات من أيدي داعش، لقبولهن التحدث عن تفاصيل معاناتهن، بالرغم من أن الجروح العميقة لا تُحكى، فهي تُحسّ فقط.
وفي (سوق السبايا)، تعود الحكايات الكثيرة التي ترويها دنيا ميخائيل إلى لقائها المباشر مع هؤلاء الضحايا من النساء الهاربات، وقصص أخرى رواها لها منقذ السبايا عبدالله. وعبر صفحات كتابها التي تجاوزت المئتين، تسرد الكاتبة تفاصيل رحلتها الخطرة إلى العراق، حيث استمعت ورأت بعينيها تفاصيل هروب النساء من قبضة داعش، وكيف أن رجالاً خرجوا من خنادق حُفرت مقابر لهم، وأطفالاً سيكبرون مع ذكرياتهم المتشظية والغريبة: (فوق المقبرة الجماعية/ تتسلل الشمس بين الغيوم/ مثل كل مرة/ سوى إنها اليوم تضيء الموت أكثر).
(في معسكر داعش)، عنوان أحد فصول الكتاب، بيدك جهاز التحكم عن بعد، ستشاهد من سينجو اليوم من قصف أو طوفان أو إرهاب أو فيروس جديد. قوارب تتأرجح في النهر بركّاب، تركوا حيواتهم هناك، ليحملوا أنفسهم فقط، لكن همومهم أثقل مما يمكن للقوارب حمله. ربما لا يعرف البعض كثيراً عن الإيزيديين، الذين أجبروا على ترك بيوتهم ليلتجئوا إلى كهف في حضن سنجار بالعراق، أولئك كان الجبل أقل قسوة عليهم من الإنسان. طلاب دنيا ميخائيل، كما تقول في كتابها، أرقّ من أن يستوعبوا كيف تُباع الفتيات في المستودع، بعد أن يتم تقليبهن كالبطيخ. يختارون ما يشاؤون بعد أن يشمّوهن. الأكثر جمالاً في ذلك المكان هي الأقل حظّاً، لأنها تباع وتُشترى بسرعة.
شكرية، ذات الـ14 سنة، بيعت سبع مرات متتالية بعد اختطافها واغتصابها عشرات المرات، كما تحكي للكاتبة دنيا ميخائيل. أما نادية، فقد تعرفت إليها الكاتبة من خلال صحفي إيزيدي، وحكت بالكردية قصة وقوعها أسيرة في يد داعش، ثم قصة هروبها بمساعدة عبدالله، منقذ السبايا. وسعر نادية وفق قائمة أسعار السبايا لدى داعش هو 100 ألف دينار عراقي، أي ما يعادل 85 دولاراً أميركيّاً، وذلك بحسب عمرها (28 سنة). ويُمكن أن تُهدى مجاناً إلى أمير من أمرائهم (تقديراً لجهاده).
وتسترجع الكاتبة دنيا ميخائيل قصة نادية: طوّقنا مقاتلون من داعش، أخذوا الرجال أولاً، ثم النساء والأطفال في سيارات كبيرة، وتوجهوا بنا نحو الموصل. طوال الطريق ونحن نبكي ونصرخ، وهم يسجلون أسماءنا وأعمارنا. فصلوا البنات العذراوات عن النساء المتزوجات. نقلونا إلى بناية في منطقة الرقة في سوريا، وهناك وضعونا في مزاد للبيع. كان الرجال يزايدون على أسعارنا أحياناً بدولار واحد أعلى من السعر الذي قبله، حتى سمعت البائع ينادي: 200 دولار، من يزاود؟ لا أحد؟ بيعت. أعطوني ورقة عليها اسم المشتري، وقالوا: هذه وثيقة زواجك.
وتستطرد نادية قائلة في روايتها للكاتبة: الرجل الذي اشتراني قال إني أصبحت زوجته، وأخذني مع أطفالي الثلاثة إلى بناية من أربعة طوابق في منطقة سد تشرين. كان رجلاً من الشيشان، يتحدث العربية الفصحى. لا أعرف القراءة بالعربية، لكنه أرغمني على ترديد القرآن بعده. كان يضرب أطفالي أمامي لأنهم لم يحسنوا القراءة كما ينبغي. كان يغتصبني أمامهم، وفي بعض الأيام كان وأصدقاؤه يبادلوننا كالهدايا فيما بينهم، بموجب اتفاق مؤقت ليوم أو يومين، يسمّونه: إيجاراً.
وعن طبيعة عمل المرأة الأسيرة لدى تنظيم داعش الإرهابي، تحكي نادية: بقينا لدى داعش ثلاثة أشهر، صنعنا خلالها مئات الصواريخ. أنا وأطفالي كنا نشتغل لهم 12 ساعة في اليوم. أعطوا لابنتي التي عمرها خمس سنوات أخطر مهمة، إذ كانت هي التي تربط الأسلاك الحساسة، وفي أي لحظة خلل، كان يمكن أن ينفجر بوجهها الصاروخ.
وإذا كانت (نون) النسوة، هي سر تفرد حكايات دنيا ميخائيل في كتابها (سوق السبايا)، فإن (نوناً) أخرى هي مفتاح الكتاب، إذ تحكي الكاتبة في المقدمة: بدأت تجربتي مع هذا الكتاب مع بداية داعش، وتحديداً بدأت مع حرف واحد هو (النون). رأيتهُ مكتوباً بالأحمر على أبواب (النصارى)، كما يسمّونهم كتهديد لهم بأن يغادروا تلك البيوت التي سكنوها لأكثر من 1400 سنة أو يُقتَلوا. هكذا بجرة قلم، كان عليهم أن يتركوا كل شيء خلال 24 ساعة ويخرجوا بملابسهم فقط. لقد استجبتُ بقصيدة عنوانها (ن)، فهكذا أستجيب عادة، بقصيدة. تصورتُ أن الموضوع انتهى لديَّ عند ذاك الحد، لكن داعش استمروا بأفعالهم الغريبة والشنيعة. هدموا القبور لأنه كانت عليها صلبان وكتابات آرامية وعبرية. وأنا تذكرتُ قبر جدتي، فهي من قرية (تلكيف)، التي استولت عليها داعش.
وتواصل دنيا في مقدمة كتابها: كتبتُ قصيدة أخرى بعنوان (قبر جدتي). داعش لم يتوقفوا عند ذاك الحد، حاصروا سهل نينوى وسنجار وأخذوا النساء (سبايا) بعد أن قتلوا رجالهم. خرج أهل المنطقة (خصوصاً الإيزيديين) في قافلة كأنها يوم القيامة. رأيتُ ناساً مذهولين يسيرون حفاة، يحملون على ظهورهم الأطفال والمسنين والمعوقين، وخلفهم غبار الطريق. لم تعد القصائد تكفي بالنسبة لي لأفرغ مشاعري. وبعد معايناتي هذه كلها، اختنقتُ. اتصلتُ بأقاربي لأطمئن عليهم، فعرفتُ أنهم صاروا من النازحين في أقصى الشمال. ثم قادتني المصادفات إلى شخص كان قد أنقذ بعض (السبايا)، في محاولته لإنقاذ أخته. اتفقنا على أن يحكي لي قصص الناس الذين ينجح أو يفشل في إنقاذهم، وهو وافق قائلاً: أفضل مساعدة تقدمينها لنا هي أن توصلي صوتنا إلى العالم حتى يعرفوا ما يحدث هنا.
حكايات (سوق السبايا)، على ما فيها من ألم مرير، استحقت أن تكون (شغلاً رائعاً بصوت شعري استثنائي خلف مفارقات من الدمار والجمال الباهر)، بتعبير رون جارلس في (الواشنطن بوست)، فدنيا ميخائيل استطاعت (نقل الأحداث العالمية بأصالة وذكاء يجعلانها صوتاً شعريّاً جوهريّاً ونادراً بحق)، وفق روبرت ستيوارت، بمجلة نيولترز الأدبية. ومن ثم، فقد استوحت دنيا ميخائيل هذه الأحداث الحقيقية ذاتها في صياغة روايتها (وشم الطائر)، التي لم تكن رواية خيال بقدر ما كانت إصغاء إلى الطائر الجريح، وقراءة للواقع الدامي، وتحليلاً لأزمات هذه الشخصيات التي التقتها. ولعل اختيارها الثوب الروائي هذه المرة جاء بهدف لفت أنظار العالم الغربي، الذي يقبل على قراءة القصص والروايات أكثر من الكتب التسجيلية والوثائقية. وفي المحصلة، فإن كتابات دنيا ميخائيل قد حققت غايتها في إطلاق صرخة مدوية للتنديد بجرائم داعش المريرة، والمطالبة بمحاكمة مرتكبيها.

ذو صلة