مجلة شهرية - العدد (576)  | سبتمبر 2024 م- ربيع الأول 1446 هـ

في ذكراه هانز كريستيان أندرسن رائد الحكايات الخرافية الشعبية

مضت في شهر أغسطس الذكرى 158 لوفاة رائد الكتابة الحكائيّة الشعبيّة العالميّة (هانز كريستيان أندرسن)، والذي اُختير تاريخ يوم ميلاده ليكون اليوم العالمي لكتاب الطفل.
ولد الكاتب الدنماركي في (2 أبريل 1805) في أودنسه، وتوفيّ في (4 أغسطس 1875). بعد وفاة والده في عام 1816 وزواج والدته مرة أخرى؛ غادر بمفرده -نتيجة معاناته- إلى (كوبنهاغن) سنة (1819) للبحث عن مصدر عيش يقيه شرّ الفقر. سنة 1822 بفضل اهتمام المخرج المسرحي (جوناس كولين) حصل على منحة دراسيّة سمحت له بمتابعة دراسته. بدأ النشر منذ عام 1830. وبفضل دعم جوناس كولين تحصّل على منحة سفر. في عامي 1833 و 1834 زار فرنسا وإيطاليا. بالعودة إلى بلده، نشر أندرسن في عام 1835 أوّل كتيّب حكايات للأطفال. حقّقت هذه المجموعة نجاحاً كبيراً: (الحورية الصغيرة، بائعة الكبريت الصغيرة، البطّة القبيحة، ملكة الثلج…). وقد تنوّعت كتابات أندرسن بين كتب أدب الرحلات (انعكاس رحلة في هارز، 1831)، والمسرحيات (الحب على برج القديس نيكولاس)، والشعر (خيالات ورسومات، 1831)، وروايات (المرتجل 1835، البارونان 1848).
وبالرّغم من محاولاته في أنماط أدبيّة متعدّدة، إلّا أنّ المجال الأبرز الذي مثّل قوام أعماله هو الحكايات الخرافيّة، التي تمتدّ إلى واقعنا اليوم بحثاً واستلهاماً. حكايات صاغها عبر نظام تخييلي استثنائي ربط بين الإبداعيّة الذاتيّة في الكتابة والاستلهام من الحكايات الشعبية، حيث استعار نظام بناء شخصياتها وحبكاتها من الأسطورة، التاريخ، الحياة اليوميّة.
كتب 164 حكاية، نُشرت أوّل أربع منها في عام 1835، وهي موجّهة للأطفال وأيضاً للبالغين، من خلال تنمية خيالهم الشعري، وقبل كلّ شيء إدراك المعنى الأخلاقي الفلسفي الذي يختبئ وراء الحكاية. تتشاكل مواضع اهتمام حكايات أندرسن وتتنوّع عبر جملة قضايا ورهانات تنسحب على أسئلة الكائن البشري في كلّ زمان ومكان.
الدين
اهتمّ أندرنس في جانب كبير من حكاياته الخرافيّة بالمعطى الديني، وتنبع هذه الأهميّة من حقيقة أنّه في الوقت الذي كان أندرسن يكتب فيه، كان الدين والأدب الموضوعين المهيمنين على المجتمع الدنماركي. في جميع الحكايات تقريباً، هناك إشارة واحدة على الأقل إلى الدين: الصلاة، القداس، ومقاطع من الكتاب المقدس، كما أنّه تحدّث عن الجنة والملائكة والموت، وبالطبع الله، إذ يمثّله أندرسن على أنّه القدير، كائن لا يمكن فعل شيء ضدّه، الله يقرّر الشخصيات ويوجّههم، ويثقون به تماماً. ما قالته جين القديمة (1872): (تمسّك بنفسك وبربّنا)، الرفيق المسافر (1835): (ربّنا سيساعدني دائماً)؛ في هذه الحكايات إرادة الله هي الأفضل. يقدّم أندرسن الشخصيات التي تحت تأثير الغضب والحزن بأنّها تبتعد عن الله؛ إنّهم لا يفهمون سبب إخضاعهم لمثل هذه التجربة، لكنّهم سيدركون قريباً أنّه فعل كلّ شيء بشكل صحيح. الطفل في القبر (1859): (إرادة الله هي الأفضل دائماً) تقول أم فقدت للتو طفلها.
الموت
الموت موجود في معظم الحكايات، لكن أندرسن لا يقدّمه كحدث سلبي أو حالة مضرّة، بل يصفه بإطالة أمد الحياة (من مات فله حياة أبديّة). وهكذا تريد أوندين الصغيرة (1835) أن تصبح إنساناً لتكتسب روحاً أبديّة. والمختفون ينتظروننا هناك للترحيب بنا. اللؤلؤة الأخيرة (1854): (لكلّ شخص عزيز يموت ويغادرنا، لدينا صديق آخر في الجنة تتّجه إليه رغباتنا). علاوة على ذلك، غالباً ما يظهر الموت كخلاص: بائعة الكبريت الصغيرة (1845): (لقد طاروا بعيداً بشكل رائع، وفرح عالٍ، مرتفع جداً، ولم يكن هناك برد، ولا جوع، ولا قلق... كانوا مع الله). آن ليسبث (1859): (أنا الآن في بيت الله، وهناك نخلص). يمثّل أندرسن الموت جسدياً، فهو يجعله شخصيّة ملموسة لا يتمّ تمثيله على أنّه شخص سيء. قصّة أم (1848): يظهر الموت في هيئة رجل مسن فقير. إنّها ببساطة تطيع الله، وهي مبعوثة فقط: (أنا أفعل ما يشاء فقط). أولي يغمض عينيه (1842): شقيق أولي هو الموت، ويصفه أولي لهجلمار الصغير: (ترى أنّه لا ينظر على الإطلاق على أنّه لئيم كما في الكتب المصوّرة، حيث إنّه مجرّد هيكل عظمي، لا؛ إنّه تطريز فضي على بدلته، إنّه يصنع زي صياد راقٍ، عباءة سوداء مخمليّة تطفو خلفه: انظروا كيف يركض بالفرس! يجيب هجلمار: لكن الموت جميل من عيون أولي… أنا لا أخاف منه. يحاول أندرسن إزالة الغموض عن الموت، ويتحدّث عنه كثيراً في الأشياء الجيّدة، ويقدّمه على أنّه استمرار منطقي وطبيعي للحياة الأرضية: في ضوء الله، هذا ليس مخيفاً. لكنّه ربّما يحاول بالحديث عنها كثيراً، بوضعها على الورق، لترويضها وإقناع نفسه.
مواجهة العقل والقلب
يجب على العديد من الشخصيات الاختيار بين العقل والقلب. لا يقرّر أندرسن حقاً، في بعض الحكايات ستختار الشخصيّة العقل، وفي حالات أخرى سيختار القلب. كانت جيّدة مقابل لا شيء (1853): تخلّت البطلة عن الحب والسعادة بدافع العقل واحترام اللياقة. يُظهر أندرسن كيف أنّ الادّعاءات والأحكام المسبقة البشريّة تحطم الرومانسيّة. قصة حياة ضائعة، ملكة الثلج (1844): هنا الشعور أقوى من العقل، وهو الذي سيرشد البطلة جيردا لتحرير صديقتها كاي. لم تتخلّ جيردا أبداً عن حبها لكاي، وعلى الرّغم من إحباط الشخصيات الأخرى، لا تزال جيردا تفكّر في كاي، عندما يتّخذ الآخرون قراراً بشأن اختفائها، هي وحدها ستثابر، وبفضل حبّها وشجاعتها ستجد صديقتها. هذا الموضوع موجود أيضاً في حكاية الصغيرة أوندين: العقل يريدها أن تبقى كما هي، لكن ما تريده قبل كلّ شيء هو روح أبديّة، ستبذل قصارى جهدها لتحقيق ذلك على الرّغم من الخطب التي تسعى إلى الردع. غالباً ما تسود المشاعر في حكايات أندرسن على العقل. والشخصيات التي انتصرت تحقّق ذلك لأنّها بقيت قريبة من الطبيعة، مخلصة ونقية.
كتابة الحياة أو السيرة
يحب أندرسن أن يكتب قصة حياة، سواء كانت حياة إنسان أو أسطوري، حيوان، نبات.. يعطي الحياة واللغة والمشاعر الإنسانيّة للأشياء والحيوانات، كما هو الحال في النوع التقليدي من الخرافات. إمّا يصف حياة الشخصيّة منذ الولادة حتى الموت، أو يصف ببساطة فترة من تلك الحياة. كانت جيّدة مقابل لا شيء (1853): في هذه الحكاية، اتّبع أندرسن مرحلة امرأة في سن معيّنة، كشف لنا ظروفها المعيشيّة لاحقاً ممّا جعلها مدمنة على الكحول. تحت الصفصاف (1853): تظهر بداية الحكاية صبياً وفتاة قيل لنا طفولتهما؛ ما زالا معاً، سيجدان نفسيهما منفصلين قريباً، وتضطرّ الفتاة إلى الانتقال. بعد مرور بعض الوقت، عندما يلتقيان مرة أخرى، يعلن الشاب حبّه، لكن صديقه يدفعه برفق بعيداً. يائساً يسافر لينسي، في يوم من الأيام رآها مرة أخرى لكنّها لم تتعرّف عليه. لذلك، في حالة ذهول، عاد إلى قريتهم، وتحت الصفصاف حيث لعبوا كأطفال، سيسمح لنفسه بالتجمّد حتى الموت. آيس مايدن (1863): يروي أندرسن قصة رودي، نتابع كلّ مغامراته منذ طفولته المبكّرة حتى وفاته. إذا كان أندرسن يتذوّق وصف الوجود؛ فإنّه يحبّ أيضاً مقارنة الأقدار: من كان أسعد؟ (1871): تصف الحكاية شجيرة ورد يتساءل كاتبها عن سعادة كلّ زهرة، بمقارنة حياتهن، يحاول معرفة أيّهما كانت أسعد وجوداً. الخمسة في حبة البازلاء (1853): يقارن أندرسن هنا وجود خمس بازلاء في نفس الكبسولة، والتي ستواجه مصيراً مختلفاً تماماً. الأنوار (1871): الشمعة تحسد الشمعة التي توضع دائماً بالفضة، وتدلك أكتافها مع العالم الجميل، الذي تشاركه سعادته وأفراحه، بينما تظلّ نفسها محصورة في المطبخ. ذروة السخرية، في يوم من الأيام يتمّ تقديمها لعائلة فقيرة، لكنّهم سيدركون بسرعة أنّ السعادة توجد أحياناً حيث لا نفكّر في العثور عليها.
تمثّل الرائع والخيالي والفولكلور
كما هو الحال في جميع الحكايات، فإنّ الرائع حاضر جداً في قصص أندرسن، لا سيما تلك التي تنتمي إلى الفولكلور الدنماركي. غالباً ما يتحدّث عن النكسات: العفاريت الصغيرة، المتصيّدون، الجنيات، السحرة، الجان. اللعنات هي أيضاً نقطة البداية لعدّة حكايات: البجع البري (1838) ابنة ملك الطين (1858) الأحذية الحمراء (1845). كان أندرسن يستوحي بشكل كبير من الفولكلور في بلدان الشمال الأوروبي والمعتقدات والأساطير. وهكذا نجد عدّة مرّات موضوع اللقالق الذي يحضر الأطفال: اللقالق (1839)، بيتر، بيتر، بيير (1867)، ابنة ملك الطين (1858). من خلال الأساطير الوطنية، مثل Ogier of Danish) 1854)، أو القصص الحقيقيّة للشخصيات التاريخيّة (تحكي الريح قصة Valdemar Daae وبناته (1859))، يتمّ التعبير عن الرائع والفلكلور، لا سيما في الحكايات المبكّرة. بعد ذلك، تميل القوى الغامضة إلى التلاشي. توجد اختلافات بين أندرسن والأخوان جريم وتشارلز بيرولت، الاختلاف الأول: هو أن الأخوين جريم وبيرولت جمعوا ونسخوا الحكايات الشعبيّة المتداولة شفهياً. تمّ أيضاً تعديل هذه الحكايات بشكل حتمي: قام تشارلز بيرولت بترشيد الإبداعات الساذجة للخيال الشعبي وأضاف تعليقه عليها، ووضع الأخوان جريم طابعاً أدبياً خاصاً للغاية: قاموا بمراجعتها وتفسيرها. من ناحية أخرى، يكتفي أندرسن باستعارة الأفكار من الحكايات الشعبيّة، فهي تزوّده بنقطة انطلاق يبدأ منها خياله. الاختلاف الثاني: هو أنّ تشارلز بيرولت والأخوين جريم سعوا لنقل رسالة، بالنسبة لهم، يجب أن تكون الحكاية أخلاقيّة، غالباً ما قاموا بتعديل النص الأوّلي الذي اعتبروه قاسياً وغير أخلاقي. أندرسن نفسه، لا يسعى بأي حال من الأحوال إلى أن يكون أخلاقياً، فمن المؤكّد أنّ حكاياته تنقل رسالة، لكن هذه الرسالة غامضة. هذا بسبب حقيقة أنّه مع أندرسن لا توجد معارضة (الخير/الشر)، في حين أنّ هذا موجود في جميع حكايات تشارلز بيرولت وجريم.
أندرسن لا يصوّر الشخصيات السيّئة، ليس هناك أشخاص سيّئون حقاً، هناك أشخاص طيبون وأشرار: (اعرف الرجال، حتى في الأشرار هناك جزء من الله، وهو الجزء الذي سينتصر والذي سيخرج نار الجحيم)، تقول المرأة الميتة في القصّة. على عكس أعمال جريم وتشارلز بيرولت حيث الأشرار سيئون حقاً ويعاقبون حقاً (بلوبيرد، تموت الساحرة من بياض الثلج).
كان أندرسن في صغره يحلم أن يصبح مغنياً أو راقصاً ويؤدي على خشبة المسرح أمام الجمهور، مقتنعاً عندما كان مراهقاً أنّه سيصبح مشهوراً في يوم من الأيام. في الواقع، إذا كانت أعماله الفنيّة الأخرى غير ناجحة، فإنّ حكاياته الشعبيّة قد وجدت صدى ومثّلت نموذجاً استثنائيّاً في الساحة الثقافيّة العالميّة. على الرّغم من عدد من الإخفاقات، لم يكن أندرسن محبطاً أبداً، وأنتجت مثابرته وموهبته الأعمال التي نعرفها اليوم، الحكايات، المترجمة إلى 80 لغة ومنها العربيّة. إنّها تثير أصداء في جميع مراحل الحياة، ويجد الصغار والكبار أنفسهم فيها. اليوم، بعد أكثر من قرن على وفاته، يظلّ هانز كريستيان أندرسن واحداً من أكثر المؤلفين قراءة في العالم بأسره.

ذو صلة