مجلة شهرية - العدد (576)  | سبتمبر 2024 م- ربيع الأول 1446 هـ

من الصور المعنوية للناقة في الشعر العربي

الإنسان ابن بيئته، وهذا القول ينطبق على الشاعر العربي بصورة كبيرة فهو ابن بيئته ارتبط بها، وتعلَّق بكل ما فيها. باختصار نستطيع أن نقول إن البيئة العربية صبغت الشاعر بصبغتها الصحراوية حسياً ومعنوياً، وتجلى ذلك في الشعر، فنرى الشاعر يصف البيئة الصحراوية بكل ما فيها من رمال وصخور وجبال وأشجار وخيام ونباتات وحيوانات ولاسيما الخيل والإبل، فنرى وجوداً كبيراً للناقة في الشعر الجاهلي، وهذا الوجود لا ينفك عن وجود حسي، ووجود معنوي. وقد أجادوا في وصف النوق، وفي هذا يقول ابن رشيق: (وأكثر القدماء يجيد وصفها لأنها مراكبهم)، فالناقة هي وسيلة النقل المهمة للعربي التي يقضي بها مهامه، بل إن حياته قائمة عليها، فهي (رفيقة السفر، الصبور على التعب والأين، تقطع الفيافي دون كلل أو ملل، وهي سفينة البر)، لذلك لم يكن غريباً أن تحتل جزءاً كبيراً من الشعر، فبرع كثير من الشعراء في وصفها وتصويرها.
يقول ابن رشيق في كتابه (العمدة): (وأما نعات الإبل فطرفة في معلقته من أفضلهم، وأوس بن حجر، وكعب بن زهير، والشمَّاخ، وأكثر القدماء يجيد وصفها لأنها مراكبهم)، وأول من وصف الناقة هو امرؤ القيس حيث شبهها بالثور الوحشي أو الظليم أو حمار الوحش. وكان وصفهم لها إما وصفاً حسيَّاً وهو الأغلب، أو وصفاً معنوياً وهو ما أردت الإشارة إليه.
ومن أهم المعاني التي وصفوا بها الناقة وصف الأمومة، وما تمثله من عطاء وخصوبة ومنح، فها هو عروة بن الورد يشبه القِدْرَ بالناقة، ويشبه الرحل بالأثافي التي توضع عليها القدر، وطعام هذه القدر يوزع على الفقراء واليتامى والنساء والضعفاء، يقول:
وإذ ما يريح الحي صرماءُ جونة
ينوسُ عليها رحلُها ما يحلَّلُ
موقَّعةُ الصَّفقينِ، حدباء، شارفٌ
تقيد أحياناً لديهم وترحل
عليها من الوِلدانِ ما قد رأيتُمُ
وتمشي، بجَنبيها، أراملُ عُيَّل
وقلتُ لها يا أم بيضاء فتية
طعامُهُمُ، من القُدورِ، المعجَّل
مضيغ من النيب المسان ومسخن
من الماء نعلوه بآخر من عل
يبين من خلال هذه الأبيات العلاقة بين القدر والناقة الأم، فكما أن الناقة تعطينا اللبن واللحم بسخاء، وترضع أولادها فكذلك القدر توزع أطعمتها على الفقراء والمحتاجين والجياع واليتامى والمساكين والفتية والنسوة وبخاصة في أيام الجدب والشدة.
ومن المعاني التي رآها الشاعر العربي في الناقة معنى (الزهو والأنفة). يقول طرفة بن العبد في معلقته الشهيرة إنه إذا ضرب ناقته بالسوط تسرع في السير وتتبختر كما تتبختر الجارية أمام سيدها يقول:
أحلتُ عليها بالقطيع فأجذمتْ
وقد خبّ آلُ الأمعزِ المتوقِّدِ
فذالتْ كما ذالتْ وليدة مجلسٍ
تُري ربَّها أذيال سحل ممددِ
أما الطفيل الغنوي فإنه يمدح ناقته بأنها حرة ترفض الظلم يقول:
أرى إبلي لا تُنْكَعُ الوِرْدَ خُضَّعاً
إذا شلَّ قومٌ في الجوارِ وصعصعوا
ومن المعاني التي رآها الشاعر العربي في الإبل (الأصالة والنجابة والشرف) وهي نفس الصفات التي يتمتع بها العربي، ومن الشواهد الشعرية التي تدور حول تلك المعاني:
1 - قول حاتم الطائي:
ليشقى به عرقوب كوماء جبلة
عقيلة أدم، كالهضاب بهازر
والكوماء هي الناقة عظيمة السنام، بهازر: عظام الوسط، جبلة: الغليظة، أدم جمع أدمة، والأدمة في الإبل لون مشرب سواداً أو بياضاً.
2 - قول الأعشى يصف ناقته:
كانت بقية أربع فأعتمتها
لما رضيتُ من النجابةِ آلها
نلحظ استعمال الشاعر كلمة النجابة للإبل، والنجابة في الإبل عتاقها التي تسابق عليها.
3 - قول الحطيئة:
إذا بركت لم يؤذها صوت سامر
ولم تقص عن أدنى المخاض قذورها
هو هنا ينفي عن إبله وجود قذور لها، وهذا وصف لها بالعتق والأصالة.
ومن المعاني (الشوق والحنين إلى الأوطان)، فنرى (المتلمس) وناقته يقاسيان ألم البعد عن العراق، يقول:
حنَّت قلوصي بها والليلُ مُطَّرِقٌ
بعد الهُدُوِّ وشاقتها النواقيسُ
معقولةٌ ينظر التشريقُ راكبها
كأنها من هوىً للرمل مسلوسُ
أمي شامية إذ لا عراقَ لنا
قوما نودهم إذ قومنا شوسُ
حنَّت إلى النخلة القصوى فقلت لها
حجر، حرام ألا تلك الدهاريسُ
ويقول عبيد بن الأبرص:
وحنَّت قلوصي بعد وهن وهاجها
مع الشوق يوما بالحجاز وميضُ
فقلت لها لا تضجري إن منزلا
نأَتْني به هند إليّ بغيضُ
ومن صور الحنين والشوق إلى الأخلاء والأوطان الرائعة ما صوره أحد شعراء الأعراب كما ذكر المبرد في الحماسة الشجرية:
حنَّت قلوصي آخر الليل حنَّة
فيا روعة ما راع قلبي حنينُها
حنَّت في تَنائيها وشُبَّ لِعَيْنِها
سنا بارقٍ وَهْناً فَجُنَّ جنونُها
تَحنُّ إلى أهلِ الحجاز صبابةً
وقد بُتَّ من أهل الحجاز قرينُها
فياربِّ أطلقْ قيدَها وجريرها
فقد راعَ أهل المسجدين حنينُها
فما برحتْ حتى ارعوينا لصوتِها
وحتى انبرى منا مُعينٌ يعينُها
والقلوص هي الفتية من الإبل. انظروا إلى جمال الصورة الرائعة واللوحة المؤثرة التي رسمها الشاعر حتى جعلنا نشاطرها الحنين ومرارة الفراق.
ومن الصور المعنوية التي رآها الشاعر العربي في الناقة وهي مرتبطة بالصورة السابقة (الحنين اليائس) وخير مثال على هذه الصورة كما ورد في المفضليات ما قاله متمم بن نويرة لما قُتِلَ أخوه مالك، فلما بلغه مقتل أخيه حضر إلى المسجد النبوي، وصلى الصبح خلف أبي بكر الصديق رضي الله عنه، ولمّا انتهى من صلاته قام بحذاء أبي بكر، وراح يرثي أخاه مالك ويبكيه حتى دمعت عيناه العوراء، فقال الحطيئة (لا والله ما بكى بكاءه عربي قط ولا يبكيه) ثم عاود الحزن من جديد، فضرب مثلا للنوق اللائي فقدن حوارهن أي أولادهن، ويصف نفسه بأنه أشد منها جزعاً وحنيناً، قال:
وما وجدُ أَظْآرٍ ثلاثٍ روائمٍ
أصبنْ مَجَرّاً من حُوارٍ ومصرعا
يُذكِّرنَ ذا البث الحزينَ ببثهِ
إذا حنَّت الأولى سجعنَ لها معا
إذا شارف منهن قامت فرجَّعت
حنيناً فأبكى شجوُها البركَ أجمعا
الأظآر جمع ظئر وهي نوق يعطفن على حوار واحد، حوار ولد الناقة، المجر الولد، وحنت الناقة صوتت شوقاً إلى ولدها، الشارف المسنة، البرك الأنف من الجمال، وفي تلك الأبيات يصور حالة حزنه المريرة التي يعيشها والتي تفوق حالة نوق فقدن أولادهن فرحن يحنن ويسجعن حنيناً وشوقاً إليها.
ومن الصور المعنوية أيضاً وصفها بـ(روعة الفؤاد)، وهذا كثير، ومن ذلك قول حسان بن ثابت رضي الله عنه يصف روعة قلب ناقته:
مُرَوَّعةٌ لو خلْفها صرَّ جندبٌ
رأيتَ بها من روعة القلب أَفْكَلَا
والأفكل الرعدة، والمعنى أنها شهمة كأنها مفزعة من شهومها فلو صر جندب لارتعدت فزعاً من صوته.
ومن الصور المعنوية الجميلة المشاركة الوجدانية بينها وبين صاحبها.
ومن الأمثلة على ذلك -كما جاء في الأصمعيات- ربط المنخّل الشكري بين حبه لمحبوبته وحب بعيره لناقة محبوبته فيقول:
وأُحبُّها وتُحبني
ويُحبُّ ناقتها بعيري
فهناك علاقة بين الشاعر وبعيره وهي الحب، فكما هو يحب محبوبته فبعيره يحب ناقة محبوبته، وفي هذا مشاركة وجدانية بينهما.
وفي رسائل الجاحظ يذكر عن الأصمعي أنه قال: وزُوِّجت من أبان في كلب امرأةٌ، فنظرتْ ذات يوم إلى ناقة قد حنَّت فذكرتْ بلادها وأنشأتْ تقول:
ألا أيُّها البكْرُ الأبانيُّ إنني
وإياك في كلبٍ لمغتربانِ
نحنُّ وأبكى ذا الهوى لصبابةٍ
وإنَّا على البلوى لمصطحبانِ
وإنَّ زماناً أيُّها البكرُ ضمَّني
وإيّاك في كلبٍ لشرُّ زمانِ
ومن الصور المعنوية أيضاً (صبر الناقة) يصف زهير بن أبي سلمى صبر ناقته على تحمل سوطه:
تردهُ، ولمّا يخرجِ السوطُ شأوها
مروحٌ، جنوحُ الليلِ، ناجيةُ الغدِ
كهمِّكَ، إن تجهدْ تجدْها نجيحةً
صبوراً، وإنْ تسترخِ عنها تزيدِ
فهي إن ضربت بالسوط تصبر على تحمل الألم وتسرع في السير.
ومن الصور (الشكوى والعتاب)، ومن ذلك وصف المثقب العبدي لحال ناقته وشكواها وعتابها إياه على كثرة الترحال، حيث قال من بحر الوافر:
إِذَا ما قُمْتُ أَرْحَلُها بِلَيْلٍ..
تَأَوَّهُ آهةَ الرَّجُلِ الْحزِينِ
تقُولُ إِذَا دَرَأتُ لها وَضِينِي..
أَهذا دِينُهُ أَبَداً ودِينِي
أَكُلَّ الدَّهرِ حلٌّ وارْتِحالٌ..
أَمَا يُبْقِي عَليَّ وما يَقِينِي
فأَبْقَى باطِلي والجِدُّ مِنْها..
كدُكَّانِ الدَّرَابِنةِ المطِينِ
ففي هذه الأبيات يستشف الشاعر مخاطبة ناقته له، فلو تكلمت لقالت ما قال، فهنا صوَّر الشاعر حالة الناقة النفسية في حزنها وعتابها وشكواها وضيقها بالآخرين.. وهذه من ضمن الصور المعنوية التي أبصرها الشاعر العربي في ناقته، وهناك صور معنوية كثيرة يضيق المقام عن ذكرها.
مما سبق رأينا كيف صور الشعراء حالة نياقهم الوجدانية وهم قلة، وركَّز بعضهم على الصفات المشتركة بين الإبل وبين البشر.

ذو صلة