مجلة شهرية - العدد (578)  | نوفمبر 2024 م- جمادى الأولى 1446 هـ

كيف كتب أبناءالأدباء عن الآباء؟

تزخر مكتبتنا العربية، بالعديد من المؤلفات، التي كتب فيها مشاهير الأدباء عن الآباء صفحات مطولة، نذكر منها ما كتبه العقاد في كتاب، (أنا)، و(حياة قلم)، وما كتبه توفيق الحكيم في سجن العمر، وأيضاً صفحات كتبها طه حسين في الأيام، وأحمد أمين في (هذه حياتي) وغيرها؛ ولكن ماذا لو كتب أبناء مشاهير الأدباء عن آبائهم؟ كاشفين مواقف وتفاصيل من حياتهم، قد تكون جديدة بالنسبة للقارئ الذي يحظى هذا الكاتب بمكانة كبيرة في نفسه.
وبقليل من التدقيق، في هذه الكتابات؛ نحاول الوقوف على جوانب من هذه العلاقة بين الابن والأب، وحجم هذا الأثر الذي تركه الأب في نفس الابن، من خلال العديد من المواقف، التي تراوح أكثرها بين المباح والممنوع والجرأة أحياناً، مع الميل إلى الاعتراف، واستدعاء الذكريات في أحيان كثيرة.
في كتابه أبي شوقي، (كتب الابن) حسين أحمد شوقي، عن والده أمير الشعراء، مقدماً صورة يمكن أن توصف بالموضوعية، تحمل في طياتها شيئاً من اللوم أحياناً إلى جانب الحب في أحيان كثيرة، فهو يصف طفولته بالسعيدة المدللة، وأن أباه الشاعر الكبير، على حد قوله، كان يتمنى رضاه، ولا يرفض له طلباً، إلى درجة أنه استجاب لرغبته في اقتناء تمساح في حديقة المنزل، أحضره أحد أصدقائه، من الضباط الوافدين من السودان، ويحكي أيضاً عن طفولته، أن أباه كان يجلس على مقعد صغير على الحنطور، ويجلس هو على المقعد الكبير، وقد لام الخديوي شوقي على ذلك، فقال له: سله هو يا أفندينا لم يفعل بي هذا؟ أما تحليله لشخصية الأب الشاعر الكبير، فهو يصفه بأنه متقلب المزاج، سريع الغضب، فالطعام إذا لم يهيأ، كما رغب يعكر مزاجه، ولكن إذا كان مزاجه معتدلاً، فهو لطيف غاية اللطف، يدلل الجميع ويلاطفهم، بل على حد وصف الابن (يرهق من حوله بالقبلات). وفي موضع آخر يصف الأب بالأنانية المفرطة، حيث أنه كان يحدد مواعيد الطعام حسب شهيته، ويروي أنه أثناء وجودهم في أوروبا كان يجبرهم على اختيار أصناف مجهولة من الطعام، كي يختار هو منها في المرة القادمة، إذا راقته، فكانت اقتراحاته هذه تفسد عليهم الأكلة. وبالرغم من هذه الصور التي قدمها الابن عن الأب، التي يمكن أن توصف بتوجيه اللوم والعتاب؛ ألا أنه في مواقف أخرى يشيد بمآثر الأب، كهذا الموقف، مع ابن خاله مريض السل، الذي كان مرضه متقدماً، ومع ذلك كان شوقي يجلس إليه بالساعات الطويلة، ويتناول معه الطعام، مع استعماله نفس الأواني، حتى لا يشعر ابن خاله بما يؤلمه. وفي موقف آخر يذكر الابن، أن والده شوقي أثناء مرض أبيه، كان يحضر له يومياً على ظهر دابة الماء العذب من القاهرة، لأن أباه كان يقيم في ضاحية ليس بها ماء عذب. وهكذا، يحفل الكتاب بالعديد من الصور، والتي يمكن أن نصفها بالحيادية الممتزجة باللوم والحب معاً.
***
وبروح التقدير نفسها يكتب (مؤنس طه حسين)، عن والده عميد الأدب العربي، في كتابه (أبي طه حسين)، مبرزاً جانب الأب الحنون، الذي ترك عميق الأثر في نفس الابن، فيقول: (كان بالنسبة لنا هو الأب، الذي كنا نلتمس عنده الحنان، فنجده بغير حدود، والحب الذي ليس له مثيل، فهو داخل محيط الأسرة لم يكن يهملنا يوماً من أيام الشتاء، ولا ساعة من ساعات الصيف). ويصف حال الأب في الساعات التي يقضيها معهم، حيث كان يسبح بهم في عوالم من الخيال، ويتنقل بهم بوسيلة غريبة على حد قوله، كان يسميها السيارة، والطيارة، والباخرة، وهي سيارة كلها، وأثناء هذه السياحة العقلية، كان يسرح عنهم أحياناً، فيسألونه أين أنت؟ فكان يرد بأنه في سوريا خلال القرن الرابع الهجري، يسمع أبا العلاء المعري، أو في الحجاز في المئة الأولى للإسلام، يستنشق الهواء الذي استنشقه الرسول صلى الله عليه وسلم في هجرته، أو تونس مع ابن خلدون.. وهكذا في كل حالة من هذه الحالات، كان يعرفنا بأسلوب بسيط عن المكان والزمان والشخص الذي يقول إنه كان معه. ورغم هذه الصورة المثالية، التي يقدمها مؤنس للأب، ألا أنه في مواقف أخرى، يصفه بأنه كانت تصيبه نوبات من اليأس والقنوط، فيقول: (كان أبي مغرقاً في التشاؤم، وإدراك ذلك سهل يسير، وحسبنا أن نذكر في هذا المقام، عاهة العمى، لقد وجد العون في تخطي هذه المحنة، ومع ذلك كانت تنتابه أطوار من القنوط، وصفها في كتاب الأيام، لقد حدثته نفسه بالانتحار أحياناً، وكانت تنتابه ثورات يأس، لا قبل لأحد بأن يكون له فيها عون، ولا حتى زوجته كانت قادرة على ذلك، مع ما أوتيت من رفق وحنان).
***
وحين نقرأ ما كتبه، الدكتور جلال أمين، في مؤلفيه (ماذا علمتني الحياة، ورحيق العمر)، حيث كشف بقدر من الصراحة والأريحية، وبساطة الأسلوب، وسرد واقع حياة لم يزيفها، أو يضفي عليها بهارات من الروايات الأسطورية؛ عن شخصية الأب الكاتب الكبير (أحمد أمين). كان الدكتور جلال أمين، أصغر إخوته الخمس الذكور وشقيقه، وجاء إلى الحياة على حد قوله، بعد معركة بين الأم والأب، الذي أراد إجهاض زوجته. طوال فصول السيرة، نلمس التعاطف المعلن من قبل الابن مع والدته وإحساسها بالإحباط، لأن الزوج الديكتاتور، كما يصفه؛ لم يستطع أن يلاطف زوجته يومياً، ولم يكن يناديها إلا بكلمة (يا ولد)، فتفهم أنها المقصودة، وكانت تتندر أحياناً، إذا ما أحست منه ببعض الرضا، فتسأله عما إذا كان من المحتمل ترقيتها بأن يخاطبها يا بنت. ومع هذا الانتقاد لشخصية الأب، فهو لا يخفي أعجابه بوالده وتأثره به، فيذكر أنه على الرغم من انحداره من أسرة شعبية متوسطة الحال، كان أرستقراطي الأخلاق والحس، دائم التساؤل عن الموقف الأخلاقي الصحيح، وكأن أمور الحياة تتحول عنده في نهاية الأمر إلى مشكلات أخلاقية.
***
وإذا تناولنا ما كتبته الإناث من بنات مشاهير الأدباء عن آبائهم، نجد الصورة قد اختلفت من حيث إضفاء جوانب المثالية على هؤلاء الآباء، والتي أخفت معها كل عيوب. ففي كتاب (أبي نجيب محفوظ) لأم كلثوم نجيب محفوظ، وهو كتاب قيد النشر، وعلى حد قول الابنة أنها تهدف من ورائه (إلى تقديم شهادة للتاريخ)، ورفع الظلم عن نجيب محفوظ الإنسان وأسرته. تتناول في هذا الكتاب نجيب محفوظ الأب، وتصفه بأنه مثله مثل أي أب وزوج، إنسان عادي، لا يوجد تناقض في شخصيته، لطيف، فدائماً ما يتحدث معنا بطريقة لطيفة وبدعابة، رافضاً للعنف، لا يفرق بيني وبين أختي في المعاملة. ومن المشاهد التي ترصدها عنه، عطفه الدائم على الحيوانات، إذ كان يحرص دائماً بصورة يومية على الخروج بطعام من أجلها. وتتناول رفضهم الظهور في الإعلام، حيث أن والدتها لم تكن تصرح باسمها مباشرة، بل كانت تقول دائماً (مدام محفوظ)، وأن هذا ليس له علاقة بأبي نجيب محفوظ. وتذكر من أهم الأسئلة التي وُجهت إليها حول أشهر الشخصيات في الروايات التي كتبها أبوها، وهي شخصية (سي السيد) في (رواية بين القصرين)، حيث أن الناس قالوا إن: سي السيد هو والد نجيب محفوظ، ولما سألته ذات مرة لماذا يقول الناس ذلك؟ فقال لأنه عادي الأديب أن يكتب عن سيرته الذاتية، ولكن عندما ينقل الواقع كما هو إلى القصة أو الرواية، فأين أذن الأدب؟
***
وفي كتاب رسائل يحيى حقي إلى ابنته، تغرق الابنة (نهى حقي) في وصف مثالية الأب، بداية من كلمة الإهداء، التي تقول فيها (اسم عاطر عبر الزمان.. عطره الغالي الذي يعبق الزمان والمكان عبر الأيام). وتكتب عن يحيى حقي الأب فتقول: (كان صديقي منذ صغري، عاش معي طفولتي، فكان يصحبني في الحدائق العامة والسيرك، يشاركني اللعب في جميع ألعاب الأطفال، وكان يرسل لي كثيراً من الكتب المناسبة لسني كي أقراها). وتستمر في وصف مثالية الأب فتقول: عندما كان يخرج معي، كان يركب الحنطور، ويجلس بجوار الرجل قائد الحنطور، ويتحدث إليه، إلى أن يتحمس الرجل للغناء له. وعن الأب الكاتب تقول: يحيى حقي كان دائماً يكتب، لا سعياً إلى شهرة، ولا أضواء؛ بل كان يكتب عن الناس، فكان شخصية محببة إليهم، سواءً في الوسط الثقافي أو بين بسطاء الناس في مصر وخارجها، فقد كانت لديه شخصية عميقة تدخل القلب. وبعد وفاته كتبت قائلة: بعد رحيله تحدث عنه كثيرون بكلام طيب، حتى أن (صاحب السوبرماركت) كان يعلق صورته، وبائعة الورد في فرنسا قالت لا أستطيع أن أنسى والدك، وقال لي الجرسون أيضاً: (يا سلام على والدك أنا مفتقده، حيث ترك أثراً ليس في مصر فقط، كان يحب الاستماع إلى الناس بدون تكلف أو تصنع).
***
وبنفس المثالية، تكتب ريم خيري شلبي، عن والدها الأديب خيري شلبي، في كتابها الماتع (حكايات عمي خيري)، وتذكر أن والدها كان حريصاً دوماً على العناية بكل مقتنياته: أوراقه، أقلامه، ملابسه، مكتبه الذي لا يكف أبداً عن (توضيبه)، وكانت هي تشعر أن أشياءه نفسها سعيدة به، أكثر من سعادته هو شخصياً بها، لأنها تعلم جيداً أنها في أيد أمينة. ومن المواقف التي تعكس إعجابها بشخصية الأب تذكر: (كنت أتعجب، كيف يستطيع أن يقرأ كتاباً بأكمله، مهما كان حجمه دون أن يقوم بثني أطرافه أو جلدته، تشعر أن الكتاب لم يُقرأ من قبل، تمسك الجريدة بعده وكأنها خارجة من المطبعة للتو، أقلامه يفرغ حبرها وهي في قمة أناقتها، لم أرَ شيئاً يخصه في غير مكانه، أناقته في المنزل تفوق أناقته الأخرى).
***
إلا أن نوّاره نجم؛ قد خرجت عن هذا النهج المثالي، عند كتابتها عن الأب، الشاعر الراحل (أحمد فؤاد نجم)، من خلال كتابها (الفاجومي وأنا). وقد يكون السبب وراء ذلك، هو غياب الأب عن حياتها، بسبب انفصاله عن الأم. فجاء كتابها بمثابة رسالة عتاب شديدة اللهجة إلى الأب الذي قضى معظم أوقات حياته خلف الزنازين، أو منشغلاً بشعره وجولاته وأصدقائه ومريديه، فلم تجد غير وصف والدها بالزئبق، الذي لا يمكن الوصول إليه إلا بشق الأنفس، لم تكن تراه إلا في حفلات الشعر والندوات السياسية. ومن المواقف التي تذكرها في الكتاب، كيف اصطحبتها والدتها لرؤية والدها، في حفل تأبين الشاعر (أمل دنقل)، فإذا بالشاعر الأب يلقي كلمته، ثم يغادر المكان، تاركاً ابنته، التي ركضت وراءه، فاكتفى بعناقها وتقبيلها، على وعد مستقبلي بالزيارة، ثم لم يجد الشاعر خيراً من الشعر ليعتذر لها عن الزيارة فكتب لها قصيدة. وتصف لنا نواره شخصية الأب، بأنها شخصية شديدة التناقض، فهو القوي في مواجهة السلطات، شديد الضعف والهشاشة في مواجهة المواقف الإنسانية والأزمات الشخصية. ورغم كل الانتقادات التي حملها الكتاب للأب، فهو لم يغب عن وجدان ابنته، وهو ما أكدته في بداية الكتاب بقولها: لم يغب أبي وذكرياته عن خاطري، لم يكن ذكرى في يوم، كان دوماً حاضراً، لن أروي إلا قصتي قصته، عبر كاميرا مثبتة في حدقة عين طفلة ثم مراهقة، ثم شابه، عاشت في ظل شخص استثنائي على المستويين الإبداعي والإنساني.

ذو صلة